ليلة اعلان نتائج الانتخابات الاسرائيلية التي جرت عام 1996، سهر عدد كبير من أعضاء القيادة الفلسطينية مع أبو عمار في مكتبه في غزة. وفي الوقت الذي كان أبو عمار منهمكاً، كعادته، في قراءة التقارير العامة والرسائل الشخصية المتنوعة، كان الآخرون يتابعون عبر شاشة التلفاز نتائج الانتخابات أولاً بأول. وكانوا يتبادلون التعليقات بشأن مستقبل العلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية ومصير عملية السلام اذا هزم شمعون بيريز وفاز بنيامين نتانياهو. وكانت أمنيات الجميع ان لا يضيف بيريز فشلاً جديداً الى اعداد فشله الكثيرة التي راكمها في حياته السياسية. وكان أبو عمار، وهو يقرأ الأوراق ويسمع التعليقات، يدلي بين فترة واخرى بتعليق صغير على حديث الحاضرين. بعد منتصف الليل نهض الحاضرون وفي نيتهم مغادرة المكتب وترك أبو عمار يكمل قراءة الملفات ويستدعي من يشاء ممن ينتظرون مقابلته على انفراد للبحث في قضية شخصية أو عامة. وقبل المغادرة وجه أحد أعضاء القيادة سؤالاً الى أبو عمار طلب رأيه في آخر نسبة من الاصوات التي حصل عليها كل من بيريز ونتانياهو، كما ظهرت على شاشة التلفاز، وكيف سيتصرف اذا نام وكان بيريز متفوقاً ونهض صباحاً ووجد نفسه أمام عكس تلك النتيجة. رد أبو عمار: "لا تطمئنوا للارقام المعروضة أمامكم، معلوماتي الخاصة تشير الى ان نتانياهو سيحصل على غالبية كبيرة من الاصوات في الصناديق التي لم يتم فرزها حتى الآن، وقد تقلب الأمور رأساً على عقب. وحدسي الشخصي الذي لا يخطئ ينذرني بأنني سأجد نفسي غداً وجهاً لوجه مع نتانياهو ومن يقف خلفه من قوى اليمين المتطرف". واضاف: "يا اخوان، المجتمع منقسم على نفسه انقساماً حاداً وغالبية تخشى السلام معكم". ورفض أبو عمار الافصاح عن كيفية تصرفه مع نتانياهو كرئيس للوزراء. في تلك الليلة لم أنم، وبقيت ساهراً حتى ظهرت النتيجة النهائية التي أكدت فوز نتانياهو وسقوط شمعون بيريز، وشاهدت على شاشة التلفاز احتفالات المتطرفين بهذا الانتصار. في الصباح توجهت الى مكتب أبو عمار ووجدته قلقاً يتمشى ويدور حول الطاولة، كما يفعل عادة، لتخفيف أثر القلق على جسده، أو عندما ينوي تركيز ذهنه والتعمق في التفكير قبل اتخاذ قرار صعب. قطعت على أبو عمار حبل أفكاره عندما قلت: قدرنا يا أخ أبو عمار ان نعاني أربع سنوات اضافية من العذاب. وفي كل الأحوال نحن الآن فوق أرضنا ووسط شعبنا ولدينا عمل كثير يملأ وقتنا. ولن يكون بمقدورك ان تجلس وتلعب الشطرنج كما فعلت في بيروت إبان فترة الحصار الطويلة في 1982. ولن تكون بحاجة الى صور تلفزيونية تظهر صبرك على نتانياهو بلعب الشطرنج كما أظهرته في حينه في مواجهة غطرسة شارون. فمهمات بناء مؤسسات الدولة ومعالجة هموم الناس ومشاكلها والاحزاب الفلسطينية كفيلة باستهلاك كل الوقت، وقد تحتاج الى وقت اضافي لمعالجتها كلها. عقب ابو عمار في حينه قائلاً: مشاكل "فتح" و"حماس" الداخلية ومعالجة مشاكلهما مع السلطة والناس تحتاج 24 ساعة عمل في اليوم لمن يستمتع بدخول دهاليز هكذا مشاكل تفصيلية. واضاف: فوز نتانياهو في الانتخابات كارثة على عملية السلام. والمهم تقليص أثرها على قضيتنا وشعبنا، سنرتاح في علاقاتنا الاقليمية والدولية لكننا سنواجه متاعب كبيرة على الأرض. وبعد فوزه في الانتخابات، لم يتأخر نتانياهو في اطلاق التصريحات العنجهية الاستفزازية، وقال مرات عدة انه لن يتساهل مع السلطة الفلسطينية، وان اسرائيل لن تنفذ شيئاً نصت عليه الاتفاقات ما لم ينفذ الفلسطينيون كل تعهداتهم والتزاماتهم التي وردت في الاتفاقات ذاتها. وكرر، بمناسبة ومن دون مناسبة، مقولته الشهيرة التي طربت اليها أذنيه: "ليس في جدول أعمالي عقد لقاء في وقت قريب مع عرفات، وفي كل الاحوال لن ألتقيه قبل ان ينفذ كذا وكذا...". كانت أقوال نتانياهو توضع على طاولة عرفات أولاً بأول، وكان أبو عمار يعلق عليها بصوت مسموع: "نتانياهو ولد جاهل في السياسة. قد يكون بارعاً في تسويق الاخبار أمام وسائل الاعلام لكن تصريحاته تؤكد انه فاشل في صناعة الاحداث المهمة التي تسوق نفسها في وسائل الاعلام". وبعد تمادي نتانياهو في تصريحاته أفصح أبو عمار عن بعض ما يفكر عمله لوضع حد ل"طيش الولد"، وقال: "لن يتأخر اليوم الذي يرن فيه جرس هذا الهاتف - مشيراً الى هاتف مكتبه - ويكون نتانياهو على الطرف الآخر من الخط". في ايلول سبتمبر 1996 احتفل نتانياهو ورئيس بلدية القدس اولمرت بفتح نفق تاريخي تحت المسجد الأقصى، وتبجح نتانياهو بهذا الانجاز ومدلولاته على صعيد وحدة "أورشليم" عاصمة أبدية موحدة تحت السيادة الاسرائيلية. وأطلق الرجلان تصريحات عنيفة ضد عملية السلام وضد عرفات والسلطة الفلسطينية، وغمزا من قناة رابين صانع السلام، وهاجما بوضوح مواقف بيريز وسلوكه المهين للكرامة الاسرائيلية في العلاقة مع ياسر عرفات. وكرر نتانياهو مقولته "لن التقي عرفات إلا إذا... وإذا...". في حينه وجه أبو عمار رسائل عاجلة الى راعيي عملية السلام والأمين العام للامم المتحدة وعدد كبير من زعماء العالم، طالبهم فيها بالتدخل الفوري لانقاذ عملية السلام من الدمار، ووضع حد لممارسات الاحتلال ضد المقدسات الاسلامية والمسيحية. وطالب العالمين العربي والاسلامي بتحمل مسؤولياتهما القومية والدينية دفاعاً عن القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والعمل على إنقاذ الشعب الفلسطيني من بطش الاحتلال. ودعا أبو عمار اعضاء مجلس الأمن الاعلى الفلسطيني لاجتماع طارئ، بدأه بشن هجوم عنيف على نتانياهو وحمله مسؤولية اللعب بالمحرمات، وتحويل الصراع من صراع سياسي الى صراع ديني لا حلول عقلانية له. وقال: "هبت رياح الجنة في سبيل الدفاع عن المسجد الأقصى"، وطلب من كل قادة الاجهزة الأمنية أعضاء مجلس الأمن القومي تحضير الأوضاع الداخلية لخوض معركة طويلة دفاعاً عن المقدسات الاسلامية والمسيحية، وحماية "هبة" أهلهم في المدن والقرى والمخيمات، والرد على اعتداءات الجيش الاسرائيلي على المتظاهرين العزل من السلاح. لقد دارت في حينه أول اشتباكات مسلحة مباشرة بين اجهزة الأمن الفلسطينية وقوات الاحتلال النظامية، ولم يشرك الجيش الاسرائيلي المستوطنين في تلك الاشتباكات بعكس موقفه هذه الأيام في مواجهة الانتفاضة. وسقطت في تلك الاشتباكات اعداد ليست قليلة من القتلى والجرحى من الطرفين، وكان كل القتلى الاسرائيليين من العسكريين، ولم يتحول المستوطنون طرفاً مباشراً في المعركة كما هي الحال في هذه الأيام. ومع بدء الاشتباكات المسلحة بين الطرفين تحركت قوى السلام في اسرائيل وملأت شوارع المدن الاسرائيلية بالتظاهرات واليافطات المنددة بمواقف نتانياهو المدمرة لأمل السلام، والتي ستجر اسرائيل الى حروب جديدة، وأحيوا ذكرى المغدور رابين وحملوا نتانياهو وقوى اليمين المسؤولية عن قتله. ودان بعض قادة الاجهزة الأمنية الاسرائيلية في اجتماعاتهم الداخلية مواقف رئيس الحكومة وحملوه مسؤولية تدمير العلاقة الأمنية مع الفلسطينيين التي لا غنى عنها لنجاح مقاومتهم "الارهاب". الى ذلك، تحرك في حينه راعيا عملية السلام وعدد كبير من زعماء العرب والعالم المعنيين باستقرار أوضاع المنطقة، وضغطوا على نتانياهو وأرغموه على وقف أعماله الطائشة المدمرة لعملية السلام. ولم يتأخر الوقت حتى رن جرس الهاتف في مكتب أبو عمار وكان نتانياهو على الطرف الآخر. وبعد كلمات المجاملة التي قالها بلغة ديبلوماسية طلب نتانياهو من أبو عمار بذل جهده لتهدئة الأوضاع ووقف اطلاق النار، وتحديد موعد قريب للقاء عاجل لاستئناف المفاوضات. واستجاب أبو عمار طلب نتانياهو واغلق الهاتف وقال هامساً: نتانياهو استوعب الدرس الأول. وبعد تلك المكالمة خفت حدة الاشتباكات تدريجياً، ولم تتوقف الا بعد ترتيب أركان الادارة الاميركية لقاء جمعوا فيه نتانياهو مع عرفات عند حاجز اريتز. ومنذ ذلك التاريخ تطور دور الادارة الاميركية على المسار الفلسطيني، وارتقى من حال المراقبة من خارج غرف المفاوضات الى دور المشارك في كل الاجتماعات. وبدأت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي آي اي تلعب دوراً مباشراً في تقريب وجهات النظر بين الطرفين، وفي معالجة المشاكل الامنية الكبيرة والصغيرة التي كانت تقع بينهما. وظلت الوكالة تلعب هذا الدور طيلة عهد نتانياهو الذي استمر قرابة ثلاث سنوات الى ان توقف بعد فوز باراك في انتخابات عام 1999 بناء على طلبه. وكان ذلك الطلب واحداً ضمن سلسلة الاخطاء الكثيرة التي ارتكبها باراك حتى الآن. وبعد تلك المكالمة الهاتفية بين أبو عمار ونتانياهو تواصلت مفاوضات الطرفين، وشارك في احدى جلساتها شارون وزيراً في حكومة نتانياهو. وفي الوقت الذي رفض فيه شارون مصافحة عرفات وافق على اتفاق واي ريفر الذي نص ضمن أمور كثيرة على الانسحاب من 13 في المئة من اجمالي مساحة الضفة الغربية، ووقف زيادة عدد المستوطنات، والانسحاب من مدينة الخليل باستثناء الجيب الاستيطاني الموجود داخل المدينة. وطار نتانياهو من رئاسة الحكومة بسبب ذلك الاتفاق "الكريم". فهل سيكرر التاريخ نفسه بمهزلة يكون بطلها شارون؟ سؤال موجه الى كل القوى الاقليمية والدولية والى جميع قوى السلام في اسرائيل التي تقف اليوم موقف المتفرج على ما يدور فوق خشبة مسرح العجائب الشرق الأوسطية. * عضو المجلس الوطني الفلسطيني.