في العام 1992 فاز الشاعر السوري الشاب حسين درويش بجائزة يوسف الخال الشعرية ولفت الأنظار بقصائده النثرية التي تجمع بين اللحظة اليومية واللحظة المأسوية. ومنذ تلك الجائزة انكفأ الشاعر عن النشر منصرفاً الى الصحافة الثقافية في الامارات. الآن يعود حسين درويش بديوان جديد. بعد فوز مجموعته الأولى "قبل الحرب... بعد الحرب" بجائزة يوسف الخال للشعر عام 1992 صمت الشاعر السوري حسين درويش طويلاً... صمت دام ثماني سنوات كاملة، استغرقته الصحافة خلالها، وكادت تستنفده، لولا أنه أصدر مجموعة جديدة في عنوان "خزانة الأهل... سيرة الجدران". وها هو الآن يستعد لإصدار مجموعته الثالثة، وكأنه بذلك يريد استدراك ما فاته بعدما أدرك ان الشعر خير معبّر عن النفس المشتتة بين الأمس واليوم، بين العنف والحب... يكتب حسين درويش بأسلوب حديث يتجه الى البساطة المطلقة والحميمية الضاربة عمقاً في الوجدان الانساني. وقصيدته حافلة بجزئيات الحياة... بأشياء قلّما يلتفت اليها انسان العصر على رغم تعامله اليومي معها، يلتقطها الشاعر ليصوغ منها حكايات تمتلئ بالدراما، وتقف على التضاد مع ما تؤسس له ثقافة الاستهلاك من دفن أمواتنا وأشيائنا ووجداننا، دونما ذكرى، ودونما أسف... أشعار تغلق أبوابها في وجه الايديولوجيا، ولكنها في الوقت نفسه تنفتح على الوجدان الانساني، بما يمنحه خياله المبدع وذائقته البصرية المرتبطان بالمكان والزمان الواقعيين، من مفردات تؤكدت حضورها الزمني، وتعيد من ثمّ صوغ وجداننا باتجاه الأمس القريب حيث: الموقف والحاكي والدفاتر والثقاب والفناجين وأوراق الرزنامة. ولن تتوقف أشياء حسين درويش عند هذه الحدود، وانما تقتحم بجرأة أكثر عالمنا اليومي بكل ما يزخر به من أشياء هامشية اخرى من مثل: معجون الأسنان والمشجب والجوارب وأحمر الشفاه، فنقف برهة لنتساءل عن جدوى ازدحام النص بكل هذه المفردات...؟ البناء النصي يؤكد وعياً جديداً امتاز به شعراء قصيدة النثر عموماً، وهو الى ذلك ايضاً لا يذهب بعيداً في متاهات الغموض والتركيب البصري على طريقة الفنانين التشكيليين الذين أعوزتهم القدرة على التعبير ببساطة وصدق، وإنما من خلال رؤية جمالية وفكرية تعيدنا الى نكهة "الرومانس" الناضحة بالشفافية الانسانية، والذاهبة في الوقت نفسه الى مغالبة الحالات العدوانية الناجمة عن حماقات الذكورة التي هندست العالم بكل هذا الغباء، فصار التوق الى تقويضها، وإعادة صوغ ما نحب مهمة أولى، بل واجباً أساسياً ما دام الجسد الكلّي طاولته التشوّهات بفعل العدوان المستمر. ومن هنا فإن النص لديه سيتجه في شكل حاسم نحو إبراز فاعلية المكان عبر ناسه البسطاء والذين ما زالوا طيبين، ولإبراز فاعلية الزمان في المكان ذاته بحنينية واضحة لا يمكن اختزالها في حدود أنا الشاعر، وإنما في اختراق حواجز وسدود نحو أزمنة البراءة والرحم الأول، تماماً كما البطل الأسطوري "أوليس" الذي عاد الى إيثاكا، "البطن الأمومي"، متحدياً الصعاب المختلفة... انها رحلة الشاعر إذاً تسببها عوامل شتى في المكان الواقعي، ودفع قسري نحو جغرافية المكان الأول، والتي لن تتخطى حدود البيت: "العتبة، الزاوية، السياج، الخزانة، المدفأة، الأريكة، الطاولة، النافذة، الباب". وضمن هذا السعي الحثيث للعودة الى مرابع الجسد وخزّان الطفولة، ومنبعُ الأمومة العظيم، يتجه الشاعر اليه برغبة وتوق، فيبعث فيه حناناً يتوهج أحياناً بكل شفافية، فيحلّق بتلك الذكريات المتكئة على سردية وصفية مباشرة، وآلية ايقاعية ينبجس منها وقع خاص يتميز به الشاعر، فتنفتح أمام أعيننا دلالات تشي بأسرار عابقة... بأنفاس طفل يخطو خطواته الأولى خارج الحضن الأمومي... جملة من الصور منتزعة من جدران المنزل، التي ضمت ارشيفاً متواضعاً للعائلة، لكنها بذاكرة الطفل البصرية عوالم حقيقية، وجديرة بأن يؤرخ لها... واذا فتحنا الأرشيف، فإننا سنجد ثياباً ملونة، وحلياً، وأقراطاً، وإبراً للخياطة، وصمديات، وآيات مذهبة. والى ذلك سنجد مدارس وشجراً وفاكهة وأمواج بحر، وضمن هذا الحيز سيسعى الشاعر الى فتح خزانة حكاياته، لتتوالد قصائد جديرة بأن تروى عن ليالي الشمال السوري، وثلوج السهول وغربة المدن: "كلما اشتد غيمٌ/ أو ارتطمت بنا الحيطان/ أو قضمت أصابعنا الأبواب/ أو امتطت خصانا الدب/ تشهق:/ وَلَهي على الذين غابوا/ وما تركوا خبراً...". سيكون التعبير عن هذه العوالم خصوصية كلية ينشدها الشاعر، عبر دمج المعطيات الزمنية بالوعي المتزامن معها، فيمشي بصخب، كي يرت الداخل مع الخارج ما أمكن. ثمّ الى إغلاق النصّ ليقول لنا: "هذه صورتي، وهذا عالمي" كبرهان مكثّف على التداخلات الزمنية، لثلاثة أجيال: الأجداد، الآباد، الأحفاد، وانطلاقاً من ثلاث بؤر مكانية يأتي ترتيبها على الشكل الآتي: الشمال السوري الولادة، حلب المراهقة والشباب، ثمّ "الشارقة" حيث يعيش الشاعر الآن. ونرى في القصائد كلها هذه الانتقالات العفوية بين الحاضر والماضي بأزمنته الثلاثة، وأمكنته الثلاثة أيضاً، والى ذلك فإنه يمكننا التوقف عند بعض المحطات الرئيسة التي انطلق منها الشاعر وهي: 1 - المدرسة... المعلمة. فما بين ذكريات التلميذ، الذي هو الشاعر، عن مدرسته الأولى كحاضنة بديل للأمومة، وذكرياته عن المعلمة التي باتت زوجة وحبيبة، وأبنائه الذين يستعدون صباحاً للذهاب الى مدارسهم، سيتشكل النص لديه: "درهم للسندويش/ درهم للكولا.../ معلمتي البيضاء الممتلئة/ قالت: رائحتك سجائر.../ فكتبت على جدران المدرسة/ "عيناك تبغي ودخاني"... 2 - العائلة الصغيرة... العائلة الكبيرة عنوان المجموعة "خزانة الأهل... سيرة الجدران" يسهل لقارئ النص عملية الكشف والاكتشاف، والابحار في تفاصيل النصوص الذاهبة لكتابة بعض من سيرته الذاتية شعراً. وبالتالي فإن حضور العائلة في النصوص سيكون مشروعاً تماماً، بل يمكننا القول إن الشاعر في سائر نصوصه، لا يخرج عن جو العائلة المملوء بالدفء والحنان. فمن العائلة الصغيرة زوجته وأبناؤه الى العائلة الكبيرة أمه وأبوه وجده وعمته وأخواته ثم ما تركوه من رموز على الجدران. ونعتقد هنا أن الشاعر إذ يلحّ على تأريخ سيرة العائلة، فإنما لأنه يعتبرها جسداً واحداً متصلاً عبر حلقاته الثلاث. والغريب انك لو حاولت رصد حضور العالم الخارجي في نصوصه الأصدقاء، الزملاء في العمل، المدن التي تعيش فيها فإنك لن تجد أحداً منهم له حضور أساسي في نصوصه. وحتى إن حضر أحدهم عرضاً، فإنما لمجرد ضجر الشاعر صيفاً لغياب العائلة عنه. وسيفضي بنا هذا الى الحكم على الشاعر بأنه ما زال مصراً على التشبث بالعائلة كحاضنة أمومية وروحية: أمه التي أنجبته، زوجته التي أنجبت أبناءه... البطن الأمومي الخالد الذي خرج منه، والذي بعد زمان سيعود اليه، وسنجد ان هذا المرتكز النفس جسدي، له علاقة أكيدة بواقع لا يستطيع الشاعر تجاوزه على رغم تضاده لحريته، كما انه لن يبذل جهداً في السعي الى فهمه للوصول الى الضفة الأخرى... انه واقع مبهم وغامض يشعره بالبرد أو الصقيع كلما خرج من الحاضنة ساعياً الى اكتشافه، ولذلك فإنه سيحرص كل الحرص على أن يبقى قريباً من الحضن الجالب للدفء والطمأنينة... وهذا المسعى "السيري" الذي يختطه الشاعر، سوف يدفعه لإهمال القضايا الكبرى التي اعتاد الشعراء تداولها، ما دامت ستثير له إشكالاً ما قد يبعده عن الحاضنة الأمومية، وهو الى ذلك ليس "برومثيوس" معاصراً دأبه تقديم الخدمات لغيره فيطاوله عقاب الآلهة الاغريقية. وأعتقد هنا أن وضع الشاعر يمكن تلخيصه بالشخص الذي يحرق البخور أمام نفسه، كي تختفي ملامحه وراء الدخان، أو بمعنى آخر، انه هروب على طريقة الرومانطيقيين من محيط عدواني ناجم عن حماقات الذكورة، فصار التوق الى تقويضها عبر إبراز فاعلية الحاضنة الأمومية وأمكنة البراءة الأولى أمراً أساسياً في توجهات قصيدته وقصيدة النثر في شكل عام. والى ذلك فإن فاعلية الحاضنة سوف تتأكد أكثر عبر الحضور الرمزي لأشياء كثيرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الشجرة برمزيتها الذاهبة الى التعبير عن الحياة والشباب والخلود... الشجرة التي تحيط النجوم بها والعصافير، سيكون لها حضور مؤسس في أشعاره، ومن جانب ثانٍ سنلتمسها كأم بديل وحاضنة أمومية. ولنلحظ هذه العلاقة الثلاثية بين الأم، والشجرة، والخابية: "كلما رفعت مشمشة الدار أنفاسها/ سارعت أمي الى خوابي البيت/ لتملأها رحيقاً وسكّراً..." مؤنثات أمومية ثلاثة تدفع بالشاعر للصراخ وجداً وحنيناً: "يا طفولتي البعيدة/ يا مشمشة فيّأتني صبحاً...". اعتقد في الختام ان تجربة الشاعر حسين درويش في مجموعته الجديدة "خزانة الأهل... سيرة الجدران" تتميز بالشاعرية والبساطة والأناقة في آن، وهي تجربة تضاف الى تجارب جيل التسعينات في سورية، بما تنتهجه من أسلوبية شعرية جديدة، حققت انجازها الخاص، بما يمكّنها من الانتماء الى عوالم قصيدة النثر بتوجهاتها الجديدة.