حين شرعت في دراسة "المنطق" حرصاً على فهم عبارات مستغلقة وجمل غامضة من كلام بعض أهل العلم في فنون مثل أصول الفقه وأصول التفسير ومصطلح الحديث وعلوم العربية خصوصاً البلاغة إذ غزاها "علم المنطق" وأغار عليها من دون هوادة، فاستحل لغتها ومصطلحاتها واستباح تراكيبها وصيغها فكانت أثراً بعد عين وتوقف فهم مباحثها على معرفة أقيسته وقيوده كان أول ما طرق سمعي مما يتعلق به قول الأخضري في أول منظومته "السلم المنورق الى سماء علم المنطق": والخُلْف في جواز الاشتغال/ به على ثلاثة أقوال فالنووي وابن الصلاح حرما/ وقال قوم ينبغي أن يعلما والقولة المشهورة الصحيحة/ جوازهُ لكامل القريحة ممارس السنة والكتاب/ ليهتدي به الى الصواب ما كان من معلمي وشيخي الجليل سوى أن تجاوز هذه الأبيات الافتتاحية من دون أن يتعرض لها مفترضاً أنها لا تعنيني من قريب أو بعيد واني كامل القريحة! مع انها تختزل في مضامينها جذوراً لصراع طويل صاخب بين دعاة الرفض والقبول للمنطق الذي لبس أقنعة شتى علم الكلام، الفلسفة، علوم الأوائل، الحكمة... الخ ما زاد من غموضه واختلاف الأحكام على مسماه والمباحث التي يتناولها. يحسن التفريق بداية بين أمرين وقع الخلط فيهما عند كثير ممن يتناول هذه القضية وذلك حين لا يميز بين عناية الاسلام بالعقل وجعله مناط التكليف وأحد الضروريات الخمس التي أمر الشرع بحفظها ورعايتها لأن مصالح الدين والدنيا مبنية عليها الموفقات للشاطبي 3/13 وبين فائدة دراسة المنطق كفن مستقل بذاته له وعليه. ف"العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك... فإن اتصل به نور الايمان والقرآن كان كنور العين اذا اتصل به نور الشمس والنار وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أموراً حيوانية... بالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة والأقوال المخالفة للعقل باطلة والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه" الفتاوى لابن تيمية 3/338. إذاً "فليس في كتاب الله ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم مدح وحمد لعدم العقل والتمييز والعلم، بل قد مدح الله العلم والعقل والفقه في غير موضع وذم عدم ذلك في مواضع" الاستقامة لابن تيمية 2/175. وأما المنطق الذي يعني فيعرفه أهله بأنه "العلم بقوانين تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر". فهو أحد فروع العلوم العقلية الوافدة على الفكر الاسلامي من الحضارة اليونانية. ف"جميع العلوم العقلية مأخوذة من أهل اليونان" أبجد العلوم صديق خان 1/106 إذ ترجمت "كتب الأوائل" في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث لأسباب سياسية وايديولوجية، ليس هذا موضع بسطها. واتسمت تلك الترجمات بطابع التحريف والتبديل المغير للمعنى لأنها ترجمت من اللغة اليونانية الى العبرية الى السريانية ومنها الى العربية "المقابسات" لأبي حيان 258، "تهافت الفلاسفة" للغزالي و"المقدمة" لابن خلدون، وكان ذلك سبباً يحول دون الافادة منه في شكل ايجابي، اضافة الى أخطاء فادحة عدة وقع فيها المشتغلون بالمنطق من الفلاسفة المنتسبين الى الاسلام الكندي، الفارابي، ابن سينا وغيرهم والمتكلمين المعتزلة، الأشاعرة وكانت سبباً وجيهاً ومبرراً في حملات الرفض التي دعا اليها معارضو المنطق وعلى رأسهم أهل السنّة والجماعة، أهل الحديث باعتبار أن أهله "لا للاسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا"، "الحموية" لابن تيمية 20. من جملة تلك الأخطاء الانبهار الكبير بالمنطق الأرسطي وتقليد المعلم الأول في غالبية قضاياه أو "حذو النعل بالنعل"، كما يقول ابن خلدون في "المقدمة": "سلكوا طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب اليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين" الملل والنحل للشهرستاني 1/348. وهكذا كانت معظم جهود الفلاسفة والمتكلمين لا تعدو أن تكون مجرد شروح وتلخيصات لمنطق أرسطو من دون أية محاولات نقدية ذات شأن، وحتى محاولة ابن سينا في تأسيس منطق مستقل "منطق المشرقين" ليست إلا تنويعاً للمنطق الصوري الأرسطي. ومن تلك الأخطاء التي كانت سبباً في عدم الافادة من "المنطق" ان المشتغلين به لم ينتقوا "القواعد المنطقية" المبثوثة في الفلسفة والتي اختلطت فيها علوم الهندسة والحساب والقواعد المنطقية، إضافة الى علم الإلهيات والطبيعيات، بل تلقفوا كل ذلك مع انه يشتمل على ما يخالف أصول الشريعة وقطعيات الدين، خصوصاً جانب "الإلهيات" المبني في الاسلام على الوحي واعتباره من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه. وهذا يفسر لنا الكلمات التحذيرية التي أطلقها أئمة السلف على علم الكلام الفلسفة ووصف علمائه بالزندقة حتى قال الإمام الشافعي "لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك خير له من الكلام" "آداب الشافعي" للبيهقي. وقال الإمام أحمد "لا يفلح صاحب كلام أبداً علماء الكلام زنادقة" "تلبيس إبليس" ونحو ذلك كثير مشتهر، بل اتخذ كثير من الفقهاء موقفاً وقائياً فأفتوا بتحريم تعلم المنطق، وألفت في ذلك مؤلفات كثيرة كان للسيوطي وحده منها أربع رسائل. بقي حال المنطق ملتبساً بعلوم الفلسفة الأخرى حتى ظهرت محاولات نقدية جادة ابتدأها أبو حامد الغزالي في كتابه الذائع الصيت "تهافت الفلاسفة" والذي عاب فيه مسلك الفلاسفة في شكل حاد، بل وصفهم بالكفر والإلحاد في غير مسألة، ما حدا بابن رشد الحفيد الى أن ينتصر لهم ويحاول أن يؤسس مذهباً توفيقياً يصل فيه بين "الشريعة والحكمة" والذي تبلور في ما بعد من خلال رؤية ابن تيمية التي تؤكد أن "العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح" والتي حاولت أن تبتعد من سلبيات التوفيقية الرشدية وتميزت عليها ببيان عجز الكليات الذهنية المطلقة التي يقررها المنطق الأرسطي عن أن تكون طريقاً للمعرفة بالموجودات المشخصنة فضلاً عن الخوض في الميتافيزيقيات الغيبيات. هذه المحاولات النقدية التي أفاد منها رواد المدرسة الفلسفية المعاصرة وعلى رأسهم راعي الحداثة الفلسفية المعاصرة ديكارت، استطاعت أن تستخلص الجوانب الايجابية في "النطق"، وبنت عليه مناهج علمية من الاستدلال الرياضي والمنهج الاستقرائي التجريبي وغير ذلك مما كان سبباً رئيساً في قيام الحضارة الغربية. ولا شك في أننا بحاجة في هذا العصر الذي يموج بتيارات إلحادية مادية مبنية على فلسفات بائسة الى "فلسفة اسلامية" لها رجالاتها المتخصصون يستقون من تراثنا الفكري العقلي ما يجابهون به تلك الأفكار التي لا يؤمن أهلها إلا بالعقل. وقديماً سجل الإمام ابن تيمية في "الصفدية" موقفاً رائعاً حين عاب على بعض المنتسبين الى السنّة والحديث تفريطهم في الانتفاع من الأدلة العقلية لمحاججة الخصوم ويصفهم بالعجز فيقول "إن أحدهم يحتج بكل ما يجده من الأدلة السمعية وإن كان ضعيف المتن والدلالة ويدع ما هو أقوى وأبين من الأدلة العقلية إما لعدم علمه بها وإما لنفوره عنها وإما لغير ذلك". * باحث سعودي في الدراسات الاسلامية.