شهد التعاون والتنسيق بين منتجي البتروكيماويات العالميين خلال التسعينات نمواً مطرداً، ليس فقط بسبب الفوائد التقنية والاقتصادية التي تعود على الشركات المتعاونه فحسب، بل يعود ذلك أيضاً الى إزالة الكثير من عقبات التبادل التجاري، والتطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال، والتي جعلت السوق العالمية حقيقة واقعة. ومقارنة مع هذه الظاهرة العالمية، يلاحظ أن التعاون والتنسيق بين منتجي البتروكيماويات الخليجيين في الفترة السابقة اتسم بالتواضع وعدم الاستمرارية، لكن هناك عدداً من المؤشرات التي ترجح أن يشهد التنسيق بين منتجي البتروكيماويات الخليجيين نقلة نوعية في المستقبل المنظور بسبب عوامل، داخلية وخارجية سيتم في هذه المقالة تسليط الضوء عليها. يشكل تشغيل مجمع شركة "فابكو" في قطر لانتاج الأثيلين والبولي اثيلين عام 1981 بداية مسيرة انتاج البتروكيماويات في دول مجلس التعاون، لكن الانطلاقة القوية لهذه الصناعة جاءت عام 1983 وتمثلت ببدء إنتاج الميثانول في مجمع "شركة الرازي" إحدى شركات "سابك" بمدينة الجبيل الصناعية في المملكة العربية السعودية، ومنذ ذلك التاريخ استمرت هذه الصناعة في التوسع والنمو المتواصل الذي يتجسد في صورة جلية في المملكة العربية السعودية على وجه التحديد من خلال تتبع مسار النمو التاريخي لشركة "سابك"، التي اضحت اليوم إحدى أكبر الشركات العالمية المنتجة للكيماويات، ولم يكن هذا النمو الكبير والسريع ليتحقق لولا التخطيط الاستراتيجي لحكومات دول المجلس، والذي تمثل بإقامة البنية التحتية الحديثة، ودعم هذه الصناعة بالقروض الميسرة، والاسعار التفضيلية لخدمات التغذية. وإضافة الى المملكة العربية السعودية وقطر، دخلت ميدان انتاج البتروكيماويات كل من البحرين عام 1985 والكويت عام 1997 وبنهاية عام 2000 ناهز إجمالي الطاقات الانتاجية في الدول الأربع 28.8 مليون طن/سنة، ومن المتوقع أن تضاف 19.1 مليون طن اخرى اليها بحلول عام 2005، وبذلك سيرتفع إجمالي الطاقات الانتاجية الخليجية الى نحو 47.9 مليون طن/سنة، وفي ذلك الوقت سيتوسع نادي منتجي البتروكيماويات الخليجيين، ليشمل كلاً من أبوظبي وعمان. وللمملكة العربية السعودية حصة الأسد في الوقت الحاضر من اجمالي الطاقات الانتاجية الخليجية حيث تمثل حصتها الحالية 83 في المئة من اجمالي الطاقات الانتاجية للبتروكيماويات الخليجية، تليها قطر بنسبة عشرة في المئة فالكويت بنسبة ستة في المئة ثم البحرين بنسبة واحد في المئة وبحلول سنة 2005 من المرجح أن تتغير هذه الصورة، إذا ما اخذت المشاريع المخطط لها طريقها الى التنفيذ في خمس من دول المجلس الست، وفي ذلك الوقت ستنخفض حصة المملكة العربية السعودية الى 68 في المئة من اجمالي الطاقات الانتاجية الخليجية، وعلى العكس من ذلك سترتفع حصة كل من الكويتوقطر الى 11 في المئة والإمارات العربية المتحدة الى 5 في المئة وعمان الى4 في المئة من إجمالي الطاقات الانتاجية الخليجية، اما حصة البحرين فستبقى عند مستواها السابق البالغ واحد في المئة من اجمالي الطاقات الانتاجية الخليجية. فما هي مبررات التنسيق؟ تنتج البتروكيماويات الاساسية والوسيطة في دول المجلس في الوقت الحاضر من قبل 16 منتجاً يتوزعون على دول المجلس كالآتي: 12منتجاً في السعودية ضمنهم عشر شركات مملوكة لسابك، منتج واحد في الكويت، 2 في قطر، ومنتج واحد في البحرين، وبحلول عام 2005 سيدخل 12 منتجاً جديداً مجال انتاج البتروكيماويات في دول المجلس، وسيصل العدد حينذاك إلى 28 منتجا، يتوزعون على دول المجلس كالآتي: 18 في المملكة العربية السعودية، أربعة في قطر، ثلاثة في الكويت، منتج واحد في كل من البحرينوأبوظبي وعمان. ويلاحظ أن نصف المنتجين الجدد في دول المجلس سيكونون في المملكة العربية السعودية نتيجة دخول القطاع الخاص في مجال تصنيع البتروكيماويات، على إثر قرار السعودية في عام 1992 بالسماح للاستثمارات الخاصة بتملك 100 في المئة من المشاريع في قطاع الصناعات البتروكيماوية الاساسية والوسيطة، فبحلول عام 2005 سيدخل ميدان إنتاج البتروكيماويات في السعودية ستة منتجين جدد من ضمنهم خمسة منتجين من القطاع الخاص فيما سيكون المنتج السادس شركة مملوكة لسابك. وتأتي هذه الزيادة في عدد منتجي البتروكيماويات انسجاماً مع توجهات دول المجلس لتقليل اعتماد اقتصاداتها على عائدات النفط الخام المتذبذبة، لكن تزايد عدد المنتجين الخليجيين يدفع الى الواجهة تساؤلاً مهماً، هو: هل هناك حاجة، أو مبررات تستدعي التنسيق بين منتجي البتروكيماويات في دول المجلس؟ وللإجابة على هذا السؤال نذكر - بداية - أن صناعة البتروكيماويات لها مجموعة سمات تجعل من التنسيق عمليه مجدية اقتصادياً، وتشمل قائمة تلك السمات، كون تلك الصناعة تتسم بالتعقيد، وبالحاجة الى استثمارات رأسمالية عالية نسبياً، إضافة الى انها تحتاج الى بنية تحتية متطورة على الصعيدين البشري والمادي، كما أن هذه الصناعة تتطلب خبرات فنية كبيرة في مجالات الانتاج والتسويق. كل هذه السمات تجعل صناعة البتروكيماويات بحاجة الى التنسيق بين المنتجين اكثر من غيرها من قطاعات الصناعة التحويلية على المستويين الأفقي والرأسي، يضاف الى ذلك أن المتغيرات التي تمر بها صناعة البتروكيماويات في الوقت الحاضر، والمنافسة القوية التي تشهدها الأسواق العالمية، التي ترتب عليها إعادة هيكلة الكثير من الشركات العالمية واندماج بعضها مع البعض الاخر، والتي نتج عنها ايجاد عدد اقل من المنتجين، لكن هؤلاء لديهم قدرات تنافسيه عالية بحكم امتلاكهم لطاقات إنتاجية كبيرة، ودرجة اكبر من التخصص في مجال المنتجات، وانتشار جغرافي أوسع في الأسواق العالمية، وإمكانات مادية وتقنية ضخمة للاستثمار في مجال البحث والتطوير، وفي مثل هذا المناخ سيواجه منتجو البتروكيماويات الصغار في العالم - ومعظم منتجي البتروكيماويات الخليجيين منهم - مزيداً من التحديات التي تدفعهم إلى التنسيق في ما بينهم لتقليل تأثير تلك المتغيرات على قدراتهم التنافسية. إضافة إلى ما تقدم، فإن لصناعة البتروكيماويات الخليجية سمات مميزة تُرجح الحاجة الى التعاون والتنسيق بين المنتجين، ابرزها: 1 اقتصادات وفورات الحجم: لتحسين الميزة التنافسية التي تتمتع بها، تبنت صناعة البتروكيماويات الخليجية اقتصادات وفورات الحجم الى الحد الذي جعل مصانع البتروكيماويات في دول المجلس اكبر من مثيلاتها في مناطق اخرى من العالم، ويتجلى هذا الأمر - على وجه التحديد - في وحدات تكسير الاثيلين، إذ توجد في مدينة الجبيل بالمملكة العربية السعودية اكبر وحدة لتكسير الاثيلين على مستوى العالم، تصل طاقتها الانتاجية إلى 1.1 مليون طن/سنة، ويمثل حجم وحدات تكسير الاثيلين في دول المجلس أحد أهم مكونات الميزة التنافسية التي يتمتع بها منتجو الاثيلين ومشتقاته في دول المجلس، ويتيح الحجم الكبير لتلك الوحدات تخفيضاً كبيراً في التكاليف الاقتصادية للمشروع، ذلك أنها تساعد على تخفيض التكاليف الثابتة لإنتاج الطن الواحد من الاثيلين، ونتيجة لذلك فإن منتجي الاثيلين في دول المجلس هم الاقل كلفة في العالم. وفي هذا الصدد يمكن تقسيم تطور مسار إنتاج الاثيلين في دول المجلس الى مرحلتين : تتضمن الاولى وحدات إنتاج الاثيلين التي تم تشغيلها خلال الفترة الممتدة من 1981 - 1994، وتمثل هذه المرحلة بدايات الصناعة في دول المجلس عندما كان حجم الوحدات الانتاجية - وتحديداً تلك العاملة في السعودية - أعلى من معدل حجم الوحدات العالمي، إذ بلغ في تلك الفترة 750 ألف طن/سنة، والمرحلة الثانية في هذا المسار تنحصر بالفترة الزمنية من 1995 إلى 2005 والتي تتميز بوجود عدد من المشاريع المخطط لإقامتها، نتيجة لبدء انتاج عدد من وحدات التكسير الجديدة في دول المجلس والتي يبلغ معدل طاقتهاالإنتاجية خلال هذه المرحله 740 ألف طن/سنة، وهو أيضاً أعلى من المعدل العالمي لوحدات تكسير الأثيلين. الجدير بالذكر أن الاستمرار في تبني هذه الاستراتيجية في المستقبل يتطلب تأمين أمرين هما توافر تكاليف رأسمالية عالية وتوافر كميات كافية من خامات التغذية وكلا الأمرين يدفع باتجاه تبني مبدأ المشاركة في إقامة المشاريع المشتركة بين الشركات الخليجية، وتقاسم الانتاج في ما بينها حسب نسبة مساهمتها في التكاليف الرأسمالية للمشروع. وبما أن هذه المساهمة تتيح للأطراف المشاركة الحصول على حصة صغيرة من الانتاج، وفي الوقت ذاته الاستفادة من اقتصادات وفورات الحجم التي تتيحها وحدات إنتاجية ذات مقاييس عالمية، من المرجح أن يوظف منتجو البتروكيماويات في دول المجلس هذه الاستراتيجية في مشاريعهم المستقبلية. 2- موجهة نحو التصدير: حتم النجاح في إقامة وحدات كبيرة لانتاج البتروكيماويات في دول المجلس من جهة وصغر حجم السوق المحلية من جهة اخرى تبني إستراتيجية التصنيع للتصدير من قبل منتجي البتروكيماويات الخليجيين، وساعد على نجاح تلك الاستراتيجية موقع دول المجلس وقربها من الأسواق الكبيرة للبتروكيماويات في شرق آسيا وأوروبا. وتتجلى هذه الاستراتيجية من خلال استعراض اداء منتجي البتروكيماويات الخليجيين في مجال التصدير عام 2000، والذي يقدم صورة واضحة عن الطابع التصديري لهذه الصناعة، إذ تراوحت نسبة الصادرات للأسواق الخارجية من إجمالي الانتاج لأربعة من أهم منتجاتها السلعية هي الميثانول ومثيل ثلاثي بيوتيل الايثر MTBE والبولي أثيلين، وغلايكول الإيثلين ما بين 72 في المئة و96 في المئة من إجمالي الكميات المنتجة خلال تلك السنة. وبلغ اجمالي إنتاج دول المجلس من الميثانول في تلك السنة 5.1 مليون طن تم تصدير نحو 3.7 مليون طن أو ما يعادل 72 في المئة من إجمالي الانتاج اما مادة المثيل ثلاثي بيوتيل الايثر فأنتج منها 3.5 مليون طن وتم تصدير نحو ثلاثة ملايين طن منها أي نسبته 85 في المئة من إجمالي الانتاج ولا يختلف الحال بالنسبة إلى البولي اثيلين الذي انتج منه 2.5 مليون طن تم تصدير نحو 2.2 مليون طن منها أي ما نسبته 86 في المئة من إجمالي الانتاج ويتضح الطابع التصديري بصورة أكبر في حالة مادة غلايكول الأثيلين التي أنتج منها نحو 2.0 مليون طن تم تصدير 1.9 مليون طن منها أي ما نسبته 96 في المئة من اجمالي الانتاج. واجمالاً تبلغ نسبة ما يسوق خارجياً من البتروكيماويات والخليجية نحو 80 في المئة من اجمالي الانتاج، وهذه السمة المميزة لصناعة البتروكيماويات الخليجية تدفع إلى الواجهة أهمية التنسيق للاعتبارات الآتية: يستهدف المنتجون الخليجيون الأسواق الخارجية نفسها، إذ تستوعب الأسواق الآسيوية نحو 60 في المئة من إجمالي صادرات البتروكيماويات الخليجية نظراً إلى انخفاض تكاليف الشحن إلى تلك الأسواق إضافة إلى الطلب الكبير فيهاعلى البتروكيماويات والذي يشكل نحو 20 في المئة من إجمالي الطلب العالمي. ويتجلي هذا الأمر بوضوح من خلال استعراض بيانات الصادرات السعودية من غلايكول الأثيلين إلى الأسواق الآسيوية خلال السنوات 1994- 1998، والتي تشيرالى أن الأسواق الآسيوية استحوذت على حصة الأسد من إجمالي صادرات السعودية من هذه المادة، إذ راوحت النسبة ما بين 74 في المئة في حدها الأدنى سنة 1998، و90 في المئة في حدها الأعلى عام 1995. تشابه خطوط الانتاج في صناعة البتروكيماويات الخليجية يعني أن المنتجين الخليجيين يسوقون المنتجات نفسها في الأسواق الخارجية، مما يشعل جذوة التنافس فيما بينهم في الأسواق المحلية والخارجية على حد سواء. هذا التنافس قد يأخذ شكل حروب أسعار في بعض الأحيان، سيما عندما تمر الصناعة بقعر دورة ربحيتها حيث يضعف الطلب وتتراجع الأسعار العالمية. ولتفادي آثار المنافسة الضارة، فإن التعاون والتنسيق في مجال التسويق بين منتجي البترو كيماويات الخليجيين يصب في مصلحة الجميع فهو يساعدهم على المحافظة على اسواقهم التقليدية وتطوير اسواق جديدة لصادراتهم. وهذه عملية تحتاج إلى تعاون مشترك بين اكثر من منتج ومثل هذا التنسيق سيساعد الأطراف المشاركة فيه على تحقيق نقلة نوعية في حجم حصصهم ودائرة انتشارها في الأسواق العالمية إضافة إلى كونه احد السبل لتخفيض تكاليف التسويق، الأمر الذي سيكون له مردود إيجابي على القدرة التنافسية لمنتجي البتروكيماويات الخليجيين. * منظمة الخليج للاستشارات الصناعية.