"كشهر طويل من العشق" ديوان جديد خرج به الشاعر اللبناني بول شاوول عن صمت أو عن انكفاء عن النشر دام زهاء عشر سنوات. والديوان الذي صدر حديثاً عن منشورات رياض الريس، عبارة عن قصائد حبّ طويلة تمتزج فيها نار الشهوة وحمّى اللغة ويرتقي الشعر عبرها الى مصاف الجهر الصافي والعنيف، الهادر والمتقطّر. هنا يتحدث بول شاوول عن ديوانه الجديد وعن بعض القضايا الشعرية معلناً موقفاً نقدياً من بعض الظواهر التي تعتري الحركة الشعرية العربية الحديثة. بعد تسع سنوات لم تصدر فيها كتاباً، هل كنت بذلك تحتج على الشعر ام الشعراء أم النقاد؟ - في هذه السنوات كتبت كثيراً وقرأت كثيراً وكان عندي كتب عدة للنشر من مسرح وقصص قصيرة وأبحاث وكتب شعر، منها ما كان يمكن نشره منذ عشر سنوات وأكثر، لكنني لم اكن في مزاج للنشر، والنشر مزاج ككتابة الشعر، يعني لا أحب من يقول لي صار عليك ان تنشر، فحضور الشاعر لا يكمن في كمية النشر بل في نوعية هذا النشر، وعلى هذا الأساس فالشعراء المكثرون ليسوا أفضل دائماً من المقلين ربما العكس صحيح، كنت في حالة احتجاجية عن كل ما يجري حولي من الثقافة الى السياسة الى النقد. ولكن قررت ان انشر لأني شعرت اني بحاجة الى تغيير مناخ كتاب شعري والى الخوض في تجارب اخرى سواء أكانت شعراً أو مسرحاً وكان وجود هذه القصائد في الادراج كأنما كان يعيق الانتقال الى تجارب اخرى، فتخلصت من هذه القصائد بنشرها وكأني أتخلص من جثث فاحت روائحها في جسدي، فأنا لم أنشر لا للناقد ولا للشعراء ولا لأحد وإنما فقط لأتخلص من عبء ما كتبت تمهيداً لمرحلة بدأتها منذ أسابيع بكتابة مسرحية جديدة. المهم بالنسبة الي ان انفصل نفسياً ولغوياً عما كتبته كي أتمكن من البدء بمشروع جديد. والحضور الشعري لا يكون اطلاقاً عبر النشر لا سيما وان معظم النقد عندنا قائم على النفاق وتبادل الخدمات والاخوانيات والسمسرة. الحضور، الشعور، مهما انقطع الشاعر عن النشر يبقى في نصه. وهناك شعراء كبار انقطعوا عشرين عاماً كبول فاليري وسان جون بيرس وسواهما. فهؤلاء قصائدهم مشاريع تنضج وتطرح رؤية لغوية وانسانية ولهذا ليس هؤلاء ممن يفقسون القصائد تفقيساً ويدفعونها الى النشر. هناك شعراء يفكرون بالنشر قبل ان يبدأوا الكتابة. يلاحظ ان كل كتاب من كتبك له شكل في قصائده يختلف عن الآخر، كيف تحدد الشكل؟ - انتظر تجربة جديدة لأحدد شكلها. المسألة ليست مسألة ارادة. تكتمل داخل الذات حالات ما، ثم تجد منفذاً لها في شكل تعبيرها. ولهذا علينا ان نتخلص من رواسب تجاربنا القديمة لئلا نقع في التكرار ولئلا تكون قصائدنا مجرد ترجمة عن الشعراء الآخرين. في كتابك هناك عشق عميق للغة، لكن هل تجربة العشق لغوية أم تجربة حقيقية؟ - تجربة حقيقية ولكني كتبتها بلغة توازيها. عند نزار قباني المرأة قضية، عند سعيد عقل لغة. أما هذه التجربة فهي من أكثر تجاربي واقعية ومادية. ولكنني صغتها بلغة مستبطنة ومفتوحة، وشهوانية. والشهوانية هنا في المرأة وفي اللغة. الشغل على اللغة لا يعني انتصار اللغة على الحالة. على العكس هو تجسيد الحالة بأعلى ما يمكن من التعبير. انها قصيدة أبعد ما تكون عن التجريدية ولو ان اللغة انتصرت يعني ان التجريدية هي انتصرت. وهذا ما رآه الكثر ممن قرأوا هذا الكتاب. تظهر اللغة في الكتاب ساخرة لأنها عنيفة شرسة، قوية، استبطانية، وفيزيقية، انطباعية وتعبيرية ولكن طالعة من جسد العلاقة وهواجس هذه العلاقة وقصورها. ولذا هي تنفتح على الهزائم، على الموت وعلى الكائن وعلى الحرب. الجسد هنا بؤرة مفتوحة واللغة هنا بؤرة متفتحة، من الجسدية ومن الشهوانية والآروسية. انها أكثر قصائدي مباشرة. اللغة في "أوراق الغائب" قوتها في صمتها وانطوائها واضمحلالها. هنا قوة اللغة في صوتها، في علوها، في امتدادها وفي بصريتها وملموسها. ولهذا هناك فارق بين تجربتي في "أوراق الغائب" وهذه التجربة لكن الاثنتين تصبان في هاجس اللغة، اللغة الأخرى، البنية الأخرى. كان يمكن ان اكتب قصائد ذهنية وعظية روحية وصفية، وهذا سهل. وكان يمكن ان اكتب قصائد حب لنساء غير موجودات ولتجارب مفقودة، وهذا سهل جداً وشائع وبليد وبارد. في قصائدي حمى لغوية طالعة من حمى العلاقة. اردت ان اصوغها صوغاً يلعب على النفس التراثي في بنية جديدة. وأردت ان أحاول تجديد المفردة الشعرية التي باتت عند كثر من الشعراء مكررة ونمطية ولهذا هناك عناء لغوي عملت عليه بجهد. ما السر في عدم اكتمال قصائد الكتاب وبقائها مفتوحة؟ - هذا في كل كتبي "بوصلة الدم" قصيدة واحدة من حيث الموضوع و"أوراق الغائب" ايضاً، و"الهواء الشاغر" قصيدة واحدة من حيث الصيغة. وكذلك "وجه يسقط ولا يصل". هذه كلها قصائد واحدة لأن القصيدة عندي مشروع، مشروع لغوي، مشروع تجربة انسانية. مشروع يحتاج احياناً وقتاً طويلاً كي ينجز. "بوصلة الدم" مثلاً استغرقت كتابتها عامين و"أوراق الغائب" اسسته أعوام. حتى القصائد القصيرة المكثفة والتي تسمى "قصائد البياض"، هي مشروع بطيء وطويل، وامام هذا فالشعر ليس مجرد تعبير عن حالة فقط ولكنه التعامل مع هذا التعبير كلغة جديدة، كمشروع جديد، والشاعر هو صانع اشكال. ثمة مَن يقول عن شعرك انه غامض وصعب؟ ماذا تقول أنت؟ - هذه مشكلتهم وليست مشكلتي. هناك شعر سهل كثير عندنا. هذا الشعر الذي لا يطرح اي أسئلة جديدة، شعر مريح يمكن ان يقرأوه وهم يأكلون السندويش أو كما يقرأون جريدة أو مقالة أو رسالة غرام. القصيدة ينبغي لها دائماً ان تصدم الذائقة السائدة. ان تهزها وتطرح عليها اسئلة، ان تكون وعرة وشاقة. لكن بعض الشعراء يجد ان الحداثة تقوم على السهولة والبساطة؟ - الحداثة قامت على القصيدة المركبة والغموض. التقليديون اتهموا الحداثة بالتعقيد والغرابة، هكذا اتهموا بدر شاكر السياب وانسي الحاج والماغوط وادونيس. مأخذ التقليديين على الحداثة انها غير بسيطة، وانها لا تتوجه الى الجمهور العريض. التقليديون كانوا يريدون قصيدة واضحة مبسطة يقرأها الجميع. الحداثة منذ بودلير طرحت اللغة الشعرية كقضية وهذا ما تم مع رامبو ومالارميه وفاليري. اطلب من الذين يقولون ان البساطة هي الحداثة ان يعودوا الى السجالات بين الشعراء الملتزمين والتقليديين الذين يقولون ان الشعر يجب ان يكون بسيطاً لكي يقوم بوظيفة جماهيرية دعائية. الحداثيون وقفوا في الضفة الأخرى بحداثة شعرية تتجاوز الذوق السائد وتنأى بنفسها عن كل دور اجتماعي أو سياسي مباشر. انا أقل شعراء الحداثة غموضاً. والشعر بالتالي هو فعل ايحاء للأشياء وليس تفسيراً لها. وهنا عندما يستعمل الشاعر الصورة بدلالاتها المتعددة المفتوحة، الصورة هي سبب غموض القصيدة، والشعر الذي يفتقر الى الصورة، عادة ما يكون شعراً مبسطاً ومباشراً. تكتب المسرح والشعر... هل تستفيد في شعرك من المسرح؟ - استفيد من المسرح في كتابة القصيدة واستفيد من الشعر في كتابة المسرح. تماماً كما يستفيد أي شاعر من السينما، من الطبيعة ومن الصورة الفوتوغرافية ومن الرسم. الشاعر يختزل كل هذه التأثيرات في قصيدة عن وعي أو عن لا وعي. قلت في سياق حديثك ان هناك نفحة تراثية في قصائدك، هل ان الكلمات الصعبة غير متداولة من ضمن هذه المحاولة؟ - الواقع في رأيي ليس هناك كلمات قديمة وكلمات جديدة، قد يسقط التراث كله عند البعض وقد يبقى كله عند البعض، ولكن في رأيي التراث مسألة ذاتية وفردية جداً، مادة مفتوحة غير مغلقة وغير سائبة في الوقت ذاته. المهم كيف يستخدم الشاعر الجملة الموروثة والمفردة في سياق القصيدة، أي كيف يحولها من معناها القاموسي المتحفي الى واقع جديد. الشعر لا يتعامل مع الكلمات بوصفها مجرد معانٍ لكن ايضاً بوصفها طاقة فيزيائية ايقاعية تسهم في تكوين المناخ الذي يسعى اليه. وقد يرى البعض ان هناك تقعراً في الاستخدامات ولكن هذا التمادي في كسر البنى الجديدة ببنى موروثة يعطي القصيدة سياقاً مغايراً غير مألوف انها الكيمياوية في جميع الكلمات، وقيمتها الموسيقية والايحائية هي التي تصوغ نصاً غير متداول. في الستينات صار هناك سجال بين الشعراء، بين فريق مع التراث وفريق آخر يريد القطيعة؟ - الحقيقة كان الكلام على قطيعة مع التراث وإعدامه وتفجره كلاماً نظرياً ومبرراً لانطلاقات جديدة ما والذي ينظر الى النصوص الحداثية يجد ان هناك تفاوتاً بين الطموح النظري وبين الفعل الشعري ولا أظن ان احداً من الشعراء اوجد قطيعة مع التراث، أولاً لأننا نحن نستعمل كل كلماتنا من التراث وذاكرتنا من التراث وعقولنا من التراث، ولهذا النصوص التي نقرأها في الحداثة الشعرية هي نصوص جديدة بقدرتها على تحويل مادة التراث من مادة نهائية الى مادة مقبلة ومفتوحة. طبعاً الحداثة الشعرية في الغرب وعندنا، منذ بودلير، لم تقم على قطيعة مع اللغة الموروثة ولكن على جعل اللغة قضية، اي لغة الشعر قضية بعد ان كانت من المسلمات والمقدسات، وعندما أقول قضية يعني محاولة تصديرها وتغيير تراكيبها وسياقاتها ودلالاتها وبناها من ضمن التجارب الشعرية الخاصة، وعندما تصبح اللغة الموروثة جزءاً من الحاضر جزءاً من الحواس جزءاً من الجسد جزءاً من المخيلة جزءاً من لعبة الشاعر لا جزءاً من ماض ميت. ولهذا الشاعر هو الذي يزيل تلك الثنائيات الأبدية بين الموروث والجديد بين الذاكرة والمخيلة والشعر الذي يعجز عن محو هذه الثنائية اما في حداثة ناقصة أو في تراثية مكتملة، المعركة هي داخل القصيدة وليس خارجها. أين تجد تجربتك من تجارب الشعراء العرب وأين تجد تجارب هؤلاء من الشعراء العالميين؟ - تجربتي من الشعر العربي تجربة متواضعة جداً، ولا ادعي لا ريادة ولا تكريساً ولا اجتراحاً لمسالك غير مطروقة. ولكن ضمن هذا الحيز أحاول ما استطعت ومن دون تنازلات ومن دون انخراط في الجوقات السائدة او العصابات المنتشرة في ارجاء الوطن العربي ان اكتب قصيدة عليها بصماتي وحياتي وتجربتي. يكفي انني لا أربط بأي مرجع شعري سائد ولا أحال على احد وقيل مرات عدة انني طائر يغرد خارج السرب. كل هذا يتم بجدية في تكوين ثقافتي الشعرية وتجديدها لكي أتمكن دائماً من تجاوز ما كتبت. لست ممروضاً بعد بأمراض العالمية ولا الشهرة ولا الادعاء بأني اذا ما ترجمت سأضيف شيئاً كثيراً الى التراث الشعري العالمي الحديث. هذا الادعاء نتركه لسوانا الذين انتفخت نرجسيتهم وتورمت لدرجة باتوا فيها يظنون انهم محور الشعر العالمي وهم في مظنهم ما زالوا يقتاتون من فتات موائد ذلك الشعر. نحن عندنا شعراء كبار يمكن ان ينخرطوا في هذه الحركة العالمية الواسعة، ولكن معظم هؤلاء الكبار مصادر بشعراء دونهم يدعون اختزال الشعر العربي في شخصهم والحلول محل كل الشعراء. بالطبع مجد هؤلاء قائم أما على علاقات وخدمات أو على مؤسسات تروج لهم. ولكن، هناك تفاوت بين شعرهم المحدود وبين انتشارهم العالمي. لا أدري لماذا علينا ان نسعى الى ترجمة شعرنا الى الآخر، اذ لم يكن عندنا من جديد نقدمه الى هذا العالم. العلاقات قد تصنع الشهرة والحضور الاجتماعي والثقافي والرسمي لكنها لا تصنع شاعراً كبيراً. فيا ليت هؤلاء الشعراء الذين يتهافتون على ترجمة شعرهم يهتمون اكثر بشعرهم نفسه وبثقافتهم الشعرية لكان هذا اجدى. فهو ألف لعنة على الترجمة والمترجمين لأنها صارت مرضاً جديداً عندنا، لا يصيب الكبار فقط ولكن الصغار ذوي التجارب المحدودة والضحلة والتي لا يستأهل بعضها النشر في بلدان المنشأ فكيف في بلاد الله الواسعة.