ما العمل حيال اللاشيء؟ التموضع على مستوى الغبار؟ أم الاستمرار في الصراع من اجل ايجاد أعمال مسرحية، موسيقية وسينمائية؟ باختيار الصنعة الثقافية، نعلم جيداً اننا نعرّض أنفسنا لأخطار عدة، أكثرها أهمية يبقى حكم الجمهور... انها قاعدة اللعبة، ومن يرفضها يخرج من الدائرة، يلغى. لكن يقوم بين هذا الحكم وبيننا ما أُسميه الوسطاء، انهم النقاد. يوجد النقاد لوجود الفنانين وهم يستمدون كنههم من أعمال هؤلاء. ولكانوا اختفوا إذا ما اختفى الفنانون... أما العكس فغير صحيح. وما يدفعني الى مغادرة موقعي المعتاد كمحكوم عليه واتخاذ دور القاضي هو، أيها السادة، ما يبدو لي كأنه كراهية أو ظلم تبدونه وأيضاً صدمتي من تكرار الأخطاء التي ترتكبونها. وهكذا فقد انتحلتُ دوركم، وهو كما ينبغي لي ان اعترف، أكثر راحة. كاتب المقال الأول المنشور على الصفحة الأولى من جريدة "الحياة" ينعت الخلاف الناشب بين منظمتي احتفالي بيت الدين وبعلبك ب"خناقات تانتات"، غير مدرك على ما يبدو ان ما يدور في كواليس هذين المهرجانين هو خبز يومي في كل ارجاء العالم، حيث تتصارع المهرجانات على البرمجة الخاصة بكل منها... وهكذا تحوّل ما كان يفترض به ان يعلمنا عما يخبئه لنا الصيف من تظاهرات ثقافية الى بيان محتقِر مدعٍ، يخلط كيفما اتفق ذكورية سخيفة بدعاوى الدفاع عن مصالح البلاد، بنداء شعبوي "قومجي" مناضل... وانما أين كاتب هذه السطور بصفة كونه ناقداً أدبياً؟ وإذا كان يضع نفسه خارج مثل هذه التظاهرات، فكيف سيتمكن من أداء مهمته؟ كانت الهفوة الثانية تتعلق بمهرجان "كان". ففي مقالة تشكك في الوجود العربي في المهرجان، ذكر الكاتب اسمي فيلمين ومخرجين موجودين. الأول هو خالد غربال، صاحب الفيلم المغربي "فاطمة" المعروض في اطار تظاهرة "أسبوعَي المخرجين" والذي قُضي عليه بجملة: "لم يعجب هذا الفيلم أحداً". إنما المشكلة ان الفيلم لم يكن قد عرض بعد، حين كتابة ذلك المقال! ويبقى "أحداً" ذاك مجهولاً كبيراً... ولم يكتف السيد ابراهيم العريس بهذا الاغتيال الأول بل أكمل مجهزاً على الفيلم العربي الثاني للفلسطيني إيليا سليمان، ناعتاً إياه بأنه "لم يثر اهتمام أحد". ومرة ثانية، فهذا الفيلم لم يكن قد عُرض بعد! بعد ذلك بأيام، حاز الفيلم المغربي جائزة التظاهرة وقامت مختلف الصحف بتحية الفيلم الفلسطيني ومخرجه إيليا سليمان، بطريقة لم ينلها فيلم عربي قصير لا تتجاوز مدته 16 دقيقة، منذ زمن طويل... ومع الأسف، فإن الناقد الذي ادرك هفوته لم يصحح أقواله بل فضل ترك القارئ العربي تحت وطأة معلومة خاطئة محبطة، سلبية، كما لو ان سهام الأعداء الحقيقيين لا تكفي. بعد ذلك بأيام، استلحق كاتب آخر من "الحياة"، هو السيد عبدو وازن نفسه، وعلى الصفحة الأولى، بمقالة عن زياد رحباني، تتجاوز دوره كناقد لتغوص في الأعماق النفسية، مختصرة عمل زياد بتسلية رجل يرفض مغادرة المراهقة ومحيياً المقاومة الأوديبية لفيروز حيال انحدار ابنها الموسيقي، منهياً مقالته بنصائح الى زياد رحباني عن قبول العبور الى سن الرشد، مضيفاً هنا وهناك تقويمات عن قلة جدارة سلمى بلقب مغنية، واشمئزازه من وجود كلمات عامية غير ملائمة في النصوص "كسرولا، مازولا، بريز"، متوقفاً أمام جمل مثل "هل أنت متزوج؟ هل أنت لواطي"، بصفة كونها صادمة. هكذا تُضاءل سنوات من البحث وأشهر من التسجيل وأسابيع من المشكلات التقنية. هكذا يُتفه العمل الرائع للقدرة التحويلية السحرية لزياد، المتفرد في تمكنه من مزج موسيقى متعددة واستخراج اتساق في الايقاعات. لست في صدد الدفاع عن موسيقى زياد، فالجمهور تولى ذلك، لكنني أتساءل عن الأسس التي اعتمدها السيد وازن، وعن الحق في اشاعة ان فيروز رفضت اغنيات لزياد منسوبة الى "يقول البعض" والى ما يشبه نية التحول الى محلل نفسي، مدافع عن التقاليد والقيم. هل ينبغي ذكر بعض الأمثلة عن الموسيقى والكلمات العامية المغناة، من سيد درويش ومحمد عبدالمطلب وحتى إيف مونتان وسرج غينسبورغ وانتهاء بمغني "الراب" الحاليين؟ هل من الضروري التذكير بأن النغم الموسيقي يتدرج بكل الأشكال ما عدا بالشكل الطهراني وأن حظاً كبيراً يصيب من يتمكن من أخذ "جرعة" موسيقى أو "مونودوز" في حياته؟ الناقد يشبه قائد الأوركسترا، ينبغي له امتلاك كل النغمات، ومعرفة مفاتيح كل الآلات، ومعرفة التقنية المتعددة والمعقدة التي ترافق صناعة فيلم. يُفترض بالناقد أن يرتاد كواليس المسرح، أن يفكك خطوات الرقصة، ان يفرز الألوان... الناقد دارس أبدي، باحث لا يكلّ، وهو يتميز بحبه العميق والفريد للفن، بإخلاصه التام للثقافة. الناقد هو من يطرد الغبار للوصول الى النور. وإلا فلن يتمكن من اكتساب موقع الناقد ويبقى فحسب في موقع من يثير الغبار.