عندما مثل كولن باول أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي لإقرار تعيينه وزيراً للخارجية جرى بينه وبين السيناتور هاغل هذا التبادل حول العقوبات التي تفرضها الولاياتالمتحدة من جانب واحد على عدد من الدول: - هاغل: "نددتُ مراراً خلال السنين الأربع الماضية بموقفنا من العقوبات الاحادية، أما العقوبات المتعددة، مثلما على العراق، فهي قضية أخرى. ويهمني أن أسمع كيف تنوي التعامل مع هذه المسألة". - باول: "أولاً، احب تشجيع الكونغرس على التروي. اقصد أن يتوقف لكي يرى ويسمع قبل فرض العقوبات... لأنها تأتي بلا انقطاع...". ثم قال باول لاحقاً: "أود ان اشارككم في نقاش عن كيفية الغاء أكثرها العقوبات الاحادية. وارجو، مراعاة لمصالحنا، أن تصلوا فيها الى توقيت للمراجعة والانهاء. مثلاً، ان تسقط تلقائياً بنهاية السنة أو بنهاية فترة محددة أو عند حدوث تطور يؤدي الى اتخاذ تلك الخطوة. لنقم بانهائها في تلك الحال وليس مواصلة تجديدها وجعل بيروقراطيي وزارة الخارجية يقضون كل وقتهم في القيام بالخطوات اللازمة لكي تستطيعوا وصفهم بأنهم بيروقراطيو وزارة الخارجية الذين يقضون كل وقتهم في القيام بهذه الخطوات!". كان باول يشير بهذا الى التقارير والشهادات عن سير العقوبات الاحادية التي يطلبها الكونغرس وتحتاج الى الكثير من الوقت والجهد من صغار مسؤولي الخارجية والمحامين فيها. ومن بين ما يستوقفنا في هذا الشأن أن الشكوى نفسها كان يمكن أن تأتي من مادلين أولبرايت، سلفه في المنصب، أو حتى من سلفها. ذلك ان العقوبات الاحادية أصبحت منذ أكثر من عقد من الأسلحة الاقتصادية والديبلوماسية الرئيسية في ترسانة الولاياتالمتحدة. وبرز دافع استعمال تلك العقوبات في شكله الأقوى في علاقات الولاياتالمتحدة بثلاث دول في الشرق الأوسط، هي ايرانوالعراق وليبيا. فقد تسابقت الادارة والكونغرس على فرض مختلف العقوبات والقيود على التعامل الأميركي مع هذه الدول، لسبب ظاهر هو تشجيعها على تغيير سياساتها فيما يخص الارهاب كما تعرّفه الولاياتالمتحدة، أو لوقف محاولتها الحصول على السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل، أو، ببساطة، لمعاقبة وعزل تلك الدول. الا ان الدوافع في حقيقتها متنوعة، وهي على الأرجح ليست بالوضوح الذي يدعيه مؤيدو العقوبات. لكل من الدول الثلاث المعنية ثقافتها وتاريخها المتميز، المختلف عن الولاياتالمتحدة. ويخضع العراق وليبيا عملياً لنظام الديكتاتورية الفردية. أما ايران فيسودها نظام ديني، يخضع فيه المرشحون للتدقيق من جانب اعضاء مجلس الأمناء المحافظ، وحيث لا يسيطر المسؤولون المنتخبون على الجهاز القضائي أو القوات المسلحة أو أجهزة الاستخبارات. وينظر الرأي العام الأميركي بعداء الى الدول الثلاث: ايران، بسبب ذكريات أزمة الرهائن، والعراق بسبب حرب الخليج، وليبيا بسبب قضية لوكربي وربطها بالارهاب قبل ذلك. وليس لأي من الثلاثة مؤيدون في الكونغرس، عدا اهتمام بعض الاعضاء بين آن وآخر بايران. ويدلي قادة الدول الثلاث بتصريحات معادية للولايات المتحدة. ولا يقل عن ذلك اهمية تصريحاتهم المعادية لاسرائيل، التي تأتي احياناً في صيغة لا سامية حادة تستعدي في شكل خاص اللوبي الاسرائيلي "ايباك" وغيره من اصدقاء اسرائيل. كما ليس لأي من هذه الدول القدرة على تشكيل لوبي مؤيد لها في واشنطن، بل انها تكاد أن لا تبذل أي جهد للتأثير على صنع القرار هناك. والواقع ان معرفتها بعملية صنع القرار الأميركية بدائية في أفضل الأحوال، ومنفصلة تماما عن الواقع في أسوأها، خصوصاً عندما تستمدها من تجربتها الخاصة البعيدة بما لا يقاس عن أميركا. اذا اضفنا الى ذلك "مهارة" هذه الدول في الحساب الخاطىء واصدار التصريحات الخطأ بالضبط في الوقت الخطأ فلا غرابة في استمرار العقوبات الأميركية عليها بالرغم من الأدلة المتزايدة على لا جدواها النسبية عندما لا تشارك فيها الدول الأخرى. أظهر عدد من الدراسات التأثير السلبي على الشركات الأميركية، خصوصا في مجال الطاقة، لهذا النوع من العقوبات، من خلال فرص الاستثمار والتصدير الضائعة، لكن لا يمكن القول أنها تكلف الاقتصاد الأميركي أو القطاعات المعنية مباشرة ثمنا غير مقبول. وربما كانت الخسارة الأكبر تقع على شركات النفط، التي يقابلها مربح نظيراتها الأوروبية المنافسة، لكن ليس لذلك تأثير يذكر على الرأي العام. ذلك ان الاميركيين لا يبالون عندما يملأون خزائن سياراتهم اذا كانت المحطة تابعة الى شركة اكسون - موبيل أو بريتيش بتروليوم أو شيل أو غيرها. أي ان المشتري لا يكلف نفسه عناء تجنب محطة تابعة لشيل لأن للشركة استثمارات كبيرة في ايران. اضافة فإن الرأي العام الأميركي، اكثر مما الأوروبي، يتطلب من الشركات الأميركية أن تتصرف ك"مواطن صالح" وتستجيب للارادة العامة حتى لو كان ذلك، الى حد ما، على حساب ارباحها ومسؤولياتها تجاه حاملي اسهمها. قبل نحو أربع سنوات تسلم الكونغرس مقترحاً اشتراعياً باسم "لائحة اصلاح العقوبات" تتضمن تقييد اصدارها من جانب الرئيس أو الكونغرس في نواح عدة: - أن تنص بوضوح على موعد للمراجعة أو الرفع. - أن تترافق مع تقرير عن تأثيرها المحتمل على المصدّر الأميركي من جهة والحكومة أو الجهة المستهدفة من الجهة الثانية. - تحديد الأشخاص الذي تسببت سياساتهم في فرض العقوبات وبذل الجهد لتركيزها عليهم. - اعطاء الرئيس حق الالغاء أو الوقف. - حماية العقود المتواجدة. - خفض عرقلة الاغاثة الانسانية الى الحد الأدنى الممكن. لكن اللائحة، بالرغم من بعض الدعم لها في الكونغرس ومن منظمات في أوساط الاعمال مثل "يو اس انغيج" و"المجلس الوطني للتجارة الخارجية"، لم تحظ الى الآن بما يكفي لاقرارها من السلطتين الاشتراعية والتنفيذية، وحتى الرأي العام - وذلك لأسباب من المفيد النظر فيها: من بين التعليلات لكثرة العقوبات الاحادية المدرجة في التشريعات والأنظمة الأميركية جاذبيتها كخيار أمام صانعي القرار عندما تواجه الولاياتالمتحدة اعمالا غير مسؤولة، متوقعة أو متخذة بالفعل، من قبل دولة ما، وذلك في وضع لا يجدي فيه التحرك الديبلوماسي فيما يكون الخيار العسكري سابقا لأوانه أو غير مبرر. أي ان هناك نوعاً من الارضاء النفسي في فرضها. ومن الجهة الأخرى فإنها لا تطرح مبدئياً كسياسة ثابتة بل تستعمل فرادى حسب الظروف، ومن هنا ليس هناك عادة معارضة قوية لها ويتم فرضها لهذا السبب اكثر مما للتأييد الايجابي لها. لنأخذ كمثال قانون عقوبات ايران - ليبيا. فقد برهنت السنوات الخمس الماضية على ان القوانين الخاصة بها غير قابلة للتطبيق. ولم تحاول الولاياتالمتحدة عملياً تنظيم عقوبات جماعية على ايران لأن المحادثات المتكررة مع الاتحاد الأوروبي اظهرت دوماً ان لا جدوى من المحاولة. وفي أيار مايو 1998 اتضح ان شركات أجنبية كبرى ثلاث هي "توتال" و"غازبروم" و"بتروناس" انتهكت قانون العقوبات على ايران وليبيا، الا ان واشنطن اضطرت الى عدم العمل بنص المعاهدة الذي يضع عقوبات على الشركات المنتهكة، وذلك بدعوى "المصلحة الوطنية" - أي مصلحة الولاياتالمتحدة في ادامة التعاون مع الاتحاد الأوروبي وروسيا وماليزيا في جملة من القضايا الثنائية والمتعددة. لكن السبب الحقيقي بالطبع كان حصول تلك الشركات على مساندة قوية من حكوماتها، ما يعرض واشنطن لاجراءات مضادة، من بينها الشكوى الرسمية الى منظمة التجارةالعالمية التي كانت دون شك ستحكم لصالحها في حال قيام واشنطن بفرض عقوبات على شركات اجنبية. وكانت وزيرة الخارجية أولبرايت أوضحت وقتها أن الاستثناء من العقوبات سيشمل الشركات الأوروبية الأخرى التي وقعت عقودا نفطية أو غازية مع ايران، لكنها تستمر في معارضة انشاء خطوط للنفط والغاز عبر ايران. والواقع ان عدداً من الشركات غير الأوروبية تعاقدت مع ايران في مجال الغاز والنفط، الا ان واشنطن فضّلت الاستمرار في دراسة وضع كل منها الى ما لا نهاية بدل ادانتها بانتهاك القانون الأميركي. لأنها ستجد نفسها عند ذلك امام مأزق فرض العقوبات على تلك الشركات واستثارة غضب الحكومات المعنية، أو التغاضي عن وهو ما يغضب المتشددين في الكونغرس. ويمكن القول عموماً ان تأثير القانون كان على العلاقات بين واشنطن وحلفائها أكثر مما على ايران نفسها. وكان السبب الرئيسي لعدم تعاقد شركات أكثر مع ايران هو الشروط الصعبة التي يضعها الايرانيون وليس الخوف من التعرض لعقوبات أميركية. واذ يؤكد البعض رغم ذلك ان القانون الأميركي شكل رادعا على التعاون الاقتصادي مع ايران وليبيا لكننا نرى اليوم ان ايران تدخل في عدد متزايد من المفاوضات وتتوقع ابرام العديد من العقود بعدما فتحت أبوابها اكثر أمام المستثمرين. ومهما كان الأمر فلم يتضح بعد موقف ادارة الرئيس جورج بوش من تمديد العقوبات على ايران وليبيا، وهو ما بدأ مجلس النواب النظر فيه منذ 23 من الشهر الماضي. وحملت لائحة التمديد تواقيع اكثر من مئتي نائب، فيما اكد مسؤول من الحزب الجمهوري ان لائحة مماثلة ستطرح على مجلس الشيوخ حالما تحصل على تواقيع 67 من الأعضاء. ويظهر من هذا ان المبادرة في هذا الشأن لا تزال في يد اللوبي المؤيد لاسرائيل ايباك وغيره من مؤيدي التجديد وليس الادارة. وربما كان الموقف المعقول من الادارة الموافقة على التجديد سنة واحدة فقط وليس السنوات الخمس المتوقعة. اذ تكفي فترة السنة، في ما يخص ليبيا، لتغطية اجراءات الاستئناف في قضية لوكربي، فيما تغطي المرحلة الأولى من الرئاسة الايرانية الجديدة. وقد ترى الادارة خلال ذلك، وبعد المرحلة الطويلة التي استغرقها ترتيب وضعها، أن بامكانها اطلاق مبادرات جديدة تجاه البلدين. واذا لم يتوفر لها هذا ستجد نفسها ملزمة بإدامة العقوبات بقية عهدها في السلطة. من المستبعد أن يكون لقانون العقوبات على ليبيا وايران خلال السنوات الخمس الثانية من التمديد تأثير في سياسة ايران وسلوكها يتجاوز ما كان له خلال سنواته الخمس الأولى. إلا أنه سيعمل بالتأكيد على منع أو اعاقة أي تصالح بين واشنطنوطهران - وربما كان هذا هو الهدف الحقيقي للمطالبين بالتمديد. اذ ان الادارة لن تميل، مع احتمال التمديد، الى التخفيف من "الأوامر التنفيذية" لفرض العقوبات، فيما سيعطي هذا للمتشددين في ايران ذريعة اضافية للاستمرار في القطيعة مع اميركا. الجدير بالانتباه عدم تعرض أي استثمار من شركة اجنبية في ليبيا الى التحقيق خلال السنوات الخمس الأولى من القانون. مع ذلك فمن المحتمل ان يشمل التمديد ليبيا، في حال اقراره، رغم أن ظروفها مغايرة تماماً لظروف ايران، وتحسن سلوكها الى حد كبير عما كان عليه قبل عشر سنوات أو حتى خمس سنوات. من الأمثلة على ذلك تعاونها مع المحاكمة في هولندا لاثنين من ضباط استخباراتها. والمرجح ان هذا الملف سيقفل بنهاية السنة الحالية، عند صدور قرار الاستئناف في الحكم على واحد من الضابطين المتهمين. ومن المحتمل ان لا تجد ليبيا صعوبة في ايجاد مستثمرين في حقول الاستكشاف الجديدة، حتى في غياب الشركات الأميركية. وتنتج كل من ايران وليبيا النفط حسب الحصة التي تحددها "أوبك"، ما يعني ان من الصعب القول ان الدولتين تتعرضان الى خسارة في المدخول بسبب العقوبات. يمكن القول ان الطرف الأكثر تضرراً بالعقوبات الأحادية هو المصدّر الأميركي الذي يلتزم القانون. أما الجهات التي تضع الربح فوق القانون فهي تلجأ الى تغيير جنسيتها أو فتح اقنية للاستثمار والتصدير عن طريق طرف ثالث، وفي شكل يصعب اكتشافه من قبل المحققين الرسميين. واتذكر عندما كنت مسؤولا حكوميا أن نظيري الفرنسي قدم لي محتجا قائمة وضعتها السفارة الفرنسية في طهران بالكومبيوترات ومعدات المكاتب الأميركية الصنع المطروحة للبيع في معرض صناعي في طهران. تبين التجربة صعوبة التراجع عن العقوبات الاحادية، سواء من السلطة التنفيذية أو التشريعية، بعد فرضها. ويشكل هذا سببا آخر للاحتراز والتدقيق قبل اصدارها. اذ انها تعرقل مرونة الحكومة في التجاوب مع تغير الظروف أو الانفتاح من قبل الدولة المستهدفة. والمرجح ان المصدّر الأميركي سيواجه قريبا مفارقة مزعجة اذا افترضنا قبول مجلس الأمن ب"العقوبات الذكية" على العراق والسماح للشركات الأميركية بتوفير قسط اكثر من السلع الى ذلك البلد. ذلك ان المصدّر الأميركي سيتمكن من الاتجار مع العراق، الدولة التي لا تحظى بأي دعم من الولاياتالمتحدة، ولكن ليس مع ايران، التي تحاول واشنطن فتح حوار معها. المرجح في التحليل النهائي أن العقوبات الاحادية، بالرغم من كل نقاط الضعف والنواقص، وبالرغم من الحجج الدامغة ضدها، ودعم الرئيس ونائبه والحزب الجمهوري عموما لأوساط الأعمال، ستبقى خلال فترة الادارة الحالية وتشكل عائقا أمام اتخاذ سياسات جديدة، حتى عندما تبدو تلك السياسات مبررة تماماً. * مساعد سابق لوزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الأدنى. شريك في مكتب المحاماة الدولي Afridi, Angelli and Pelletreau ومستشار لBaker Botts LLP .