وضعت غادة السمان لروايتها الجديدة هذا العنوان الرئيسي "الرواية المستحيلة" صدرت عن دار غادة السمان في بيروت وأردفته بهذا العنوان الفرعي "فسيفساء دمشقية". وكما كان لي، قد يعاجل السؤال قبل القراءة: لِمَ هذه العنونة؟ وقد يعاود السؤال ويتوكد، والقراءة تمضي من فصل الى فصل فإذا بالفصول جميعاً كما بنت الكاتبة الرواية: فصلاً أولاً تتثنى عنونته بمحاولة اولى فثانية فثالثة فرابعة، اما المحاولة الخامسة فتدع الكاتبة القراءة تنتظرها: فصل لم يكتب بعد، لكأن الدعوة تصدع القارئ الى ان يشرع هو بالكتابة مع او مثل او قبل الكاتبة. وقد يعاجل الجواب بفذلكة مما علق بالحداثة الروائية، لكن القراءة لا تلبث ان تجلو تجربة جديدة في تلك الحداثة، تشتغل على السيري والبيئي، مرجّعة الاسلوبية الروائية للكاتبة من جهة، ومتقدمة الى ذلك الأفق الذي شرعت الرواية العربية تنعطف به وإليه منذ أكثر من عقد، لتودع لحظتي الحداثة والتقليدية بقدر ما تستثمر منجزاتهما وتجترح جديدها في منعطف جديد. فلنبدأ بشطر من السؤال - الجواب يتعلق بالرواية المستحيلة، حيث أحسب ان الكاتبة قد عنت استحالة السيري في الروائي او العكس. فالرواية تستدعي السيرة بالأشتات المتداولة من سيرة الكاتبة وببعض الوثائقي الذي انطوت عليه الرواية. ولكن الرواية ايضاً اشتغلت - وكما يبدو ان الكاتبة اختارت - على التذكر الرمزي، مما ينقل الأمر من صدق المطابقة الى صدق آخر وكذب آخر يصوغه الفن مفسحاً للنسيان الطبيعي وغير الطبيعي، وللتمويه، وللتخيل والابتداع مما لا يحدده حدوده احد سوى الكاتبة نفسها. فنلدع ذلك لها إذن ولنقبل على حفل تأبين هند الراشدي، كما تبدأ الرواية: في الحفل الذي أقيم على مدرج الجامعة السورية تبدأ مزاوجة السرد بين ما كان وما يكون: الآن امامنا صديقات المؤبّنة بأسمائهم الأولى التي ستكمل اغلبها الرواية في ما بعد: أديبات ومثقفات من دمشق الأربعينات: وداد سكاكيني وإلفت الادلبي وثريا الحافظ وعادلة بيهم الجزائري. ومما كان: تكتب الرواية بالخط الأسود وبين قوسين مونولجاتها وذكريات الدكتور امجد الخيال زوج المرحومة، فنرى عناء الرجل وهو يحمّل نفسه مسؤولية الموت، اذ اصرّ على ان تحمل ثانية كي تأتي بالذكر، رغم تحذير الطبيب اثر العملية القيصرية التي أتت بالبنت زين في صيف الحرب عام 1941. هو ذا إذن البناء الأليف لغادة السمّان في كوابيس بيروت - بيروت 75 - ليلة المليار حيث يقوم مستوى الحاضر الروائي ومستوى التذكر والمونولوج، والذي سيظل في هذه الرواية الجديدة ذا نصيب اكبر في نصفها الأول تقريباً، الى ان يكون قد نهض باستحضار اغلب الماضي، فيتراجع الى حدود مهمته المونولوجية مفسحاً الحضور الاكبر للمستوى الآخر. لقد قضت هند الراشدي بولادة توأمين ذكرين لحقا بها، وتركت لزوجها ان يكتبها كما ستفعل زين في ما بعد عندما تكتشف كتابات أمها، فإذا بهند العازفة عن الزواج الا من رجل استثنائي تجد هذا الرجل في امجد العائد من باريس حاملاً للدكتواره في القانون. لكنه - كما يقرع نفسه من حفل التأبين الى نهاية الرواية - وكأي رجل شرقي، يتبدل بعد الزواج، فيحول بين هند والكتابة بعدما نشرت باسم مستعار، ويعزف عن البيت الذي اشترته بعيداً عن زقاق الياسمين حيث البيت الكبير لآل الخيال، ويفرض الاقامة في البيت الذي يعجّ بأسرة الشقيق عبدالفتاح وبالشقيقتين المطلقة ماوية والأرملة بوران وبالأولاد... كانت هند تختنق في هذا البيت حيث لا مكان للخصوصيات وكل شيء عابر. وكانت أسرة الخيال قد تهاوت بسبب معارضتها للعثمانيين فالفرنسيين ومساعدتها للثوار. ولم يبق من معلمي البروكار وتجار الحراير سوى ظل باهت في عبدالفتاح، وطار أمجد الى الجامعة وباريس واضطر الى ان يعمل في المطاعم وأن يكتب اطروحة صديقه مطاع ليحصل عيشه، فيما قضى الشقيق سفيان مع الثوار، وعاد امجد الى مملكته وغابته: زقاق الياسمين ودمشق التي اججت باريس عشقه لها على الرغم من عشقه لإيفلين. والآن يعترف امجد انه في قاعه كشقيقه: ضحى بهند من اجل ذكر، وكره زين التي سماها بزين العابدين وسمتها هند بزنوبيا. الآن يعترف امجد ان كل ما قاله لهند قبل الزواج عن التضامن مع المرأة من اجل تحريرها كان دجلاً. وبموتها يتعرى من معظم قناعاته الأولى، ويناصب العالم العداء، ويستسلم للصغيرة التي تبدله وتوقظ في اعماقه الجانب الانثوي الذي كان يتستر عليه، ويربيها كصبي، ويقتات من فتات حبه، ويعزف عن الزواج متسائلاً: ألا يقطن في اعماقي كما في اعماق كل رجل شرقي مجنون صغير؟ الا يقلقني ذلك اليوم الذي ينهد فيه صدر زين وتحيض؟ وماذا لو كبرت وأصرّت على التصرف كصبي؟ تلك سيرة الشرقي الهزلي. كما قرع نفسه وهو يتذكر غيرته من علاقة ايفلين قبله بمطاع، ثم يميل في رملته الى دومينيك عاشقة الشرق، والى جولييت معلمة زين، وتمزقه رغبته بالمرأة ذات الخبرة من دون ان تختبر شيئاً. وتلك ايضاً سيرة هند التي ستكتمل عندما تنقب زين الشابة في صندوق الأسرار - الآثام الذي اخفى به والدها عنه أشياء امها، فإذا بالرسائل والمقالات ومخطوطة روائية قدمتها زين وفيحاء الى مسابقة مجلة النقاء ففازت بالمرتبة الأولى. ويأتي ذلك قرب نهاية الرواية. بيد ان السيرة الأهم والأكبر في هذه الرواية ليست سيرة أبوي زين، بل سيرتها. وعبر السير الثلاث تنسرب سير الآخرين وسيرة التحولات التي عاشها الفضاء الدمشقي من مطلع الاربعينات الى نهاية الخمسينات. ويبدو امتياز الكاتبة بخاصة في ما رسمت السير النسوية في الرواية من شخصيات بوران وماوية وفيحاء وجهينة وفهيمة والحاجة حياة وسواهن، حتى من الشخصيات العابرة. فلكل شخصية ميسمها الذي: صنعته حكاية. وليس بعيدا عن ذلك الامتياز رسم الشخصيات الذكورية. فإذا علمنا ان جماع الشخصيات الأساسية يربو على العشرين، وتربو على ضعفي ذلك الشخصيات الثانوية، كان علينا ان نقدّر - كما نؤخذ - بالقدرة الفائقة للكاتبة على النسج الحار والدقيق لكل تلك الحيوات الثرة والمعقدة. اما سيرة زين فأمر آخر: فلنبدأ بالبومة التي لازمت حياة غادة السمان نفسها. ففي فجوة من البيت الكبير تقبع البومة التي تنسب الأسرة اليها ما يحل بها من مصائب. لكن الطفلة زين مأخوذة بصوت البومة كما كانت امها. وتعنون البومة في الفصل الأول واحدة من حركاته شبح في البيت الكبير اذ تنضاف الى أشباح البيت. وفي نشأة زين ستدعوها البومة الى الطيران معها لترى أمها، وستكون البومة في بلودان اثناء المصيف، حيث تهتف: كم انت جميلة يا سيدتي البومة. وسوى ذلك كثير يجذّر ما ورثت زين من امها هند في سيران قبل الموت وفي سواه: البومة طائر جميل العينين، يخاف شرور الناس، ومقاتل شرس. وبقدر ما ترسم الرواية طفولة ومراهقة زين بدقة، تكون الشفافية ايضاً والتعمق، فترمح القراءة مع اخيلة الصغيرة مع البومه الى حصان عنترة الى المشي في النوم وهاجس الأم المتوفاة ومصيدة الفئران. وتبدو الاخيرة - كما البومة - واحدة من بصمات النشأة: مصائد فئران كيفما تحركت. مصائد ضخمة: في البيت والمدرسة والشارع. عيون مرشوشة بمصائد الفئران. افواه مختبئة فيها مصائد فئران. ومن البيت الكبير الى البيت الجديد في أبي رمانة تتفتح وتتضبب نشأة زين بين ختان ابن عمها، وانقطاع الدم عن معزز وسقوط هذه عن السطح بدفع كلام ابيها، وجيرة اسرة أبي عامر الفلسطيني اللاجئ من عكا إثر حرب 1948، وسباحتها في النهر البارد، وتزعمها لعصابة الصبيان، وصحبتها الى حمام النسوان، والكلام المحرم في الرحلات المدرسية، وصحبة ابيها الى الندوة الأدبية التي تتصدرها الشاعرة طلعت الرفاعي. تلك السنوات بين الطفولة والمراهقة تقفز بها الكاتبة عن بلوغ زين، لتركّز على فرادتها: وتريد ان تكون علقة: اي ذكراً وأنثى، وتهجس بالسباحة ضد التيار لنتذكرْ عنواني كتابي غادة السمان: السباحة في بحر الشيطان - اشهد عكس الريح، كما تهجس بقراءة الممنوعات، وبتشريح سوسة الكتابة بالنغل فيها منذ الطفولة اذ تكتب كوابيسها، لتكتب قصة للمجلة المدرسية، ولتغدو الكتابة كابوسها، فتنزع الى دراسة الأدب عكس ما يريد لها ابوها من دراسة الطب. وبالطبع يومض الحب في دنيا الطالبة المراهقة وهي ترقص مع زميلاتها رقصة الصباح في الصالحية بين البيت والمدرسة، على وقع عيون الشبان، فتحب الدكتور اورهان وتكتب له قصيدة، وتصدمها خطوبته فتحب المقعد المثقف مظفر، وتصدمها المفاجأة بالممرضة في حضنه فتعزم على الانتحار، لكن الشأن العام ينقذ العاشقة لكل شيء، اذ تتطوع في تعليم الأمية، وتندس في التظاهرات المحييّة لعبدالناصر اثر تأميم قناة السويس ومن اجل الوحدة الوشيكة بين مصر وسورية. وفي الآن نفسه تعزف زين عن دعوة زميلة الى الحزب السوري القومي وزميلة الى حزب البعث وزميلة الى الاخوان المسلمين، على الرغم من تضامنها مع بعض ما في برنامج كل حزب، لكنها تتطلع الى آفاق ارحب، مما يشير اليه تدربها على الطيران: دوماً احلم ان اطير - اريد ان ارى القارات كلها. الا ان الشارة الاكبر لشخصية وآفاق زين الشابة ستكون في القراءة والكتابة، وفي سرّ الأم الذي سيقودها من صندوق الأسرار الى الشاعر عدلون الشعلاني الذي كان يحب الأم، وتثبت الرواية من شعره فيها ما هو للصافي النجفي، فهل هي التقية التي تُلبِس السيرية غالباً؟ اخيراً، وبعد خمسماية صفحة من القطع الكبير، تتوقف سيرة زين عند مباراة الصيد بينها وبين دريد ولؤي. فيطلق لؤي عليها الرصاصة، وتنجو زين لتحلق في الطائرة الشراعية مع المدرب الألماني، وتدع لنا مع نهاية الخمسينات فصلاً اولاً - خامساً ومفتوحاً كي نكتبه.