انتهت المحاضرة. وقف مدرّسنا الشاب ماركوس بقامته المديدة وبوجهه الطفلي المسكون بالبسمات، أخبرنا انه سيأخذنا الى الكاتدرائية القديمة في وسط المدينة. أود لو تكونوا جميعاً هناك في الثالثة بعد الظهر... ثم نظرني من خلال عينيه الزرقاوين الضاحكتين، وكأنّ عينيه هما اللتان تسألان: فهمت كلامي؟! هززتُ له رأسي: نعم... ثم بدأ يطفئ أجهزة الكومبيوتر التي كنّا ندرس عليها، نملأ الفراغات بكلمات موضوعة في أعلى الشاشة، أو نقوم بتركيب الجمل كيفما اتفق مطبّقين قواعد اللغة التي يعلّمنا اياها. وبشقّ الأنفس نحلّ تلك الألغاز. انها عملية شاقة فلم يسبق لي ان جلست وراء مثل هذا الجهاز... وكان ألمٌ حاد يصلّ في ظهري، يكاد يقطع انفاسي. لكني تعودت تحمله على مضض. وكنت أعفيت من الدراسة. الا اني فضلت التعب والمعاناة على الاسترخاء والكسل في غرفتي أجلسُ ساعاتٍ أقابل النافذة المطلة على فضاء أخضر فسيح مكتظ بالأشجار والمساحات الخضراء أقرأ وأكتب حيناً وأنام أحياناً، ففي المدرسة التقي أصدقاء جدداً، وأمضي ساعات في الدرس والحوار. عدت وحدي الى مركز المدينة ماشياً عبر طريق خيطي يسلكه السابلة، مشاةً وراكبي دراجات، وتلاميذ صغار من رياض الأطفال تأخذهم معلماتهم في نزهات يومية لإغناء تجاربهم وايقافهم على قوانين الحياة. كنت أحسّ بالمتعة عبر هذا الطريق المحاط بالشجر والزهر والعصافير والعمائر. مضيتُ مسافة ثم عبرتُ جسر المشاة فوق سكك القاطرات. ولم أكد أتجاوزه حتى مر من تحتي قطاران، احدهما صاعد الى الشمال والثاني عائد الى الجنوب. أهبط الجسر بهدوء وأتوغل في الشارع المقابل للمحطة. وأرى الى يساري ساحة كبيرة تحوّلت سوقاً شعبياً، تُعرضُ فيها ألوان من البضائع: ألبسة، تحف، أوان منزلية، لوحات، زهور، أطعمة، فواكه وخضار. بقعة غير عادية أشبه من بعيد بلوحة تشقشق بالألوان والحيوات. ويمرّ السابلة عبر رصيفين ضيقين لا يكادان يستوعبان جموع الناس، لا سيما الطلاب العائدين من قاعات الدروس، وأناس جاؤوا للتسوق والتجول. وفيما كنت أواصل السير نحو الكاتدرائية، استوقفتني واجهة زجاجية تعرض عدداً من اللوحات لفنانين ينتمون الى مدارس فنية مختلفة. ووجدتني مسمّراً الى هذه العوالم المتباينة حيث اغترف كلّ فنان رسوماته من عمق الذاكرة ومن طيوف المشاهد والرؤى التي تلتقطها أبصارهم هنا وهناك. ألوان عجائبية، خطوط غريبة، وجوه، مشاعر، حيوات، وأجمل ما رأيت لحظتئذ صورة ديك رمادي مزهوٍ كما لو كان غمس قامته في الرماد. أو أنّه غرير متكبر يقف فوق صخرة عالية، ومن حوله دنيا خضراء مزدحمة بالشجر والناس والحيوان. لكن، لا كائن يضاهيه جمالاً ولا اختيالاً كنت مضطراً الى مغادرة هذا الطائر ذي الرداء الرمادي. وإذ ابتعد عن هذه الواجهة الزجاجية التي تسرق شيئاً من وقتي كلما مررت أمامها، كانت أبواب المكتبة العامة تغريني أيضاً، فلطالما امضيت ساعات بين أرففها ومجلاتها وصحفها، هناك أقتل أوقات الملل والتعاسة، وألتقي أصدقاء النخبة. حين التففت يميناً رأيت مبنى الكاتدرائية يربض مثل جبل راسخ يتحدى عوادي الأزمنة. غذذت السير تجاهه وعاينت بضعة محال تجارية، ومقاهي أنيقة تكتظ واجهاتها الزجاجية بألوان الزهور. الزهور كالأعين ترنو إليّ بأشكالها المخملية. كان بودي لو انحني على هذه الكائنات الطرية الجميلة اشم شذاها الآسر. وأقبّل تويجاتها الريّانة. عبرتُ الشارع الى الجهة الثانية وصرت تماماً أمام الكاتدرائية، رفعت رأسي ناظراً الى برجيها العاليين الحادين مثل نصلين يخترمان السماء المحشوة بقطع من الغيوم بيضاء رصاصية قريبة وبعيدة. أقف عند الباب الكبير المفتوح بضلعيه الصلبين الكالحين، كل ضلع ينطوي على اثنتي عشرة لوحة بارزة صنعت باتقان ومهارة. ذكّرني هذا الباب العجائبي بمسلة حمورابي وأبواب أشور وبابل وآكد، في الأسفل وعلى أحد الضلعين صورتا فيلٍ وشجرة، ثم حوتٍ يتقلب في عباب اليمِّ تعلوهما عشر لوحات لكهنة وملوك وفرسان يتحاورون جالسين وواقفين. ربما أراد الفنان ان يحوّل حكاية ما الى شظايا صورية. أما الضلع الآخر فاكتظ أيضاً بحشدٍ من الصور، في الأسفل طائر كبير ينظر بكبرياء الى الرائي، وطائر آخر يستعد للطيران وقد فتح جناحيه. لكنّ المصور النحات أبى إلا ان يظلّ هكذا على وضعه، وفوق الطائرين حشد من البشر في أوضاع مختلفة عبر عشر لوحات أخر، الباب الكبير بضلعيه قاتم بلون الكحل، لكنه صقيل بارز الصور، يكاد الناظر اليه يرى أدقّ تفصيلاته. بل يستطيع ان يسمع أصوات هذا الحشد من الكائنات، قلت مع نفسي: ليس من المعقول ان اقف جنب الباب كل هذا الوقت مستغرقاً في النظر الى هذه التحفة الباذخة الجمال. بعد قليل رميتُ بقامتي الى داخل الكاتدرائية. صرتُ داخل فسحة نصف دائرية ذات سقف عال ومقوّس، على اليمين واليسار ثمانية أعمدة رخامية بيضاء، بين كلّ عمود وعمود فضاء ضيّق مضاء بنور مخفي، ثم باب آخر من الخشب يُرتقى اليه عبر بضع درجات. حين أجلت نظري داخل الكاتدرائية رأيت اناساً منتشرين هنا وهناك، دخل احدهم قبلي، وقف لحظات يقدّم تحية طقسية ثم مضى الى الداخل. أخذتني الجرأة وتبعته. وكانت على يساري، على يسار الباب فسحة مضاءة جيداً مزدحمة بالوجوه، من بينهم بعض زملائي في المدرسة. كانوا يجلسون فوق مصطبات أنيقة، وقبالتهم، على الجدار دائرتان حاشدتان بالألوان والرسومات والكتابات والأرقام. الدائرة العلوية تنطوي على ساعة قديمة كبيرة. وتحتها الدائرة الثانية. تحتوي على كتابات دقيقة، وخطوط متشابكة. إذاً، هي ساعة فلكية تنطوي ايضاً على الأبراج الاثني عشر بارزة موزّعة بشكل دائري: الحوت، السرطان، الأسد، الجوزراء... الخ... وكان بين الدائرتين مجسم بارز يحتلّ فراغاً مناسباً تتوسطه السيدة العذراء بردائها الأزرق حاملة وليدها على جنبها الأيسر، وعلى يمينها ويسارها أربعة أبواب. داخل البابين في أقصى اليمين واليسار، يقف حارسان يرتديان الملابس العسكرية ويحمل كل منهما بوقاً نحاسياً. ولم أكد أجلس بين الجالسين حتى أطلّ علينا وجه مدرسنا ماركوس الذي جلس الى جانبي. سألني بصوت هامس: هل حضر الطلاب جميعاً؟/ قلت بنبرة واطئة: أجل موجودون كلهم. وسألته بعد ان امتلأت المقاعد بالناس، رجال ونساء وأطفال، زوّار ومن سكان المدينة: أهناك محاضرة؟ أجاب بهمس: سترى وتسمع شيئاً جميلاً. وكان يجلس الى جانبي الأيمن، زميلي الأفغاني وطالب ايراني من القاعة الثانية في مدرستنا، كانا مشغولين بحوار حول الحرب الأفغانية والقتال الدائر في ذلك البلد الذي رمى ثوب الحضارة والعصر ليدثّر بأسمال القرون السحيقة، وأعاد سكانه الى الأزمنة الغابرة، زمن آدم ونوح ولوط وشيت. فجأة ارتفع صوت الموسيقى من خلال الساعتين الكبيرتين، وانفتح أحد البابين على يمين السيدة العذراء ويسار الحارس الواقف على يسار المشهد. تدفّق من خلاله بضعة اشخاص يحمل أولهم صليباً ساروا فوق سكة غير مرئية ومرّوا أمام السيدة العذراء ثم دخلوا الى الباب الآخر على يسارها، وعلى يمين الحارس الواقف على الطرف الأيمن. وكان الحارسان رفعا بوقيهما الى فميهما وظلاّ يواصلان النفخ فيهما. حين ابتلع الباب في اقصى يمين المرأى آخر الأشخاص، انقطع صوت الموسيقى، وانزل الحارسان بوقيهما، وعادا الى سكونهما. لم يستغرق هذا المشهد سوى لحظات الا انه بدا مدهشاً وغرائبياً تماثيل صغيرة أشبه باللعب تعود اليها الحياة، تتحرك تمرّ من أمام السيدة مريم. وحارسان ينفخان في بوقيهما، والعذراء لمّا تزلْ تحتضن وليدها الصغير، وموسيقى تنهمر وتنساب مع حركات هذه الحيوات. بعدئذ تصاعد الهمس ثم الأصوات تبدي اعجابها بهذه اللحظات الساخنة. نظرني مدرّسي وقال: هيا نلقِ نظرة على معالم الكاتدرائية. نهض الجميع من أماكنهم مع نهوضنا فاخترقنا صفوف مقاعد الفضاء الواسع عبر الممر الطويل. وحوالينا ثمانية أعمدة عملاقة تحمل مع الجدران السميكة سقف الكاتدرائية المقوّس العالي. كانت الأعمدة في أعلاها مزدحمة بالصور والكتابات لقدّيسين يتوسطهم السيد المسيح في أوضاع مختلفة، وما زالت الألوان متألقة تضيئها من كل جانب تسع نوافذ عالية تنهمر من خلالها اضواء الخارج. ظللت اعاني هذا الحشد من الرسوم حتى أحسست بالتعب، قلت لصديقي صبري وهو شاب في الثلاثين: هلمّ ننزلْ الى السرداب فثمة عالم آخر مركون فيه. ابتلعنا باب ضيّق يفضي اليه عبر أربع عشرة درجة. كان السرداب أو المقبرة شبه معتم، فامتلأ صدرانا برائحة القبور وقد سبقنا بضعة أشخاص اليه، فاسترعت انتباهي صور لقادة وكهنة داخل مستطيلات فوق البلاط والى جانبها كتابات باهتة. إذاً، هي ذي القبور... فثمة تحت الصور هياكل عظمية ربّما صارت رميماً، استراح اصحابها من مشاكل الدنيا والتوترات السياسية والقيل والقال. وحسبُهم انهم عاشوا في أتونها طوال أعمارهم ثم لاذوا بالسكون الأبدي. وانتقلنا من قبر الى قبر نعاين صور أصحابها يرتدون كامل ثيابهم ويحملون سيوفهم وصور لجاناتهم، لكنهم مجرد صور تبحلق في سقف السرداب الواطئ. وفي العمق الأقصى قبر مميز يرتفع عن البلاط قرابة متر ونصف المتر، يعلوه تمثال لقديس متمدد على ظهره بكامل ثيابه الكهنوتية مستغرق في رقاد أزلي. تمتم صبري بلا مبالاة: يبدو مرتاحاً وسعيداً برقدته بعد ان نال حظه من الحياة وتمتع بلذاتها. لكنّ طفلاً مشاكساً قطع حواره، كان يزحف ويتقلّب فوق الرسوم القبور المرمية فوق البلاط يخرمش الوجوه صارخاً يعاكس أمه التي تحاول سحبه برفق. ظلّ الطفل يصرخ، يزلزل هدوء السرداب قلتُ في نفسي: انه الملك غير المتوج، يفعل ما يشاء في أي مكان، في الشارع والبيت والمدرسة وفي الحدائق. فضربُ الأطفال، أو ردعهم بقوة، ممنوع. وتمنيت لو أعود طفلاً - ولو لبضع ساعات - أعيش هنا، أتمتع بآلاء طفولتي السعيدة في ظلّ قوانين تحمي الطفولة، ولي أبوان يفهمان لغة التربية الحديثة، اتمتع بلحظات عمري من غير قهر او اضطهاد، الا ان طفولتنا كانت مستغرقة في ما يشبه اليُتم، كأننا بلا آباء. وآباؤنا اما في العمل أو في أحضان نسائهم. وقد زُجّ بنا، وعظامنا لم تزل طرية هشة في أتون العمل في نهارات الصيف القائظة أيام العطل الصيفية، بدلاً من اللعب والمطالعة والتردد على نوادي الأطفال. تركنا السرداب. تنفسنا هواءً جديداً. كان الناس، وقد جاؤوا من كل مكان، ينتشرون داخل جوف الكاتدرائية كيفما يشاؤون. فحين تقف في الوسط ترى في المؤخرة منصة عالية تشبه مسرحاً كبيراً مقسماً الى ثلاثة أجزاء: يمين، يسار، وسط. الجزء الأوسط أوسع يصعد اليه عبر أربع عشرة درجة. وكذا اليمين واليسار. في نهاية الفسحة الوسطى مائدة حجرية كبيرة مزدحمة بالشموع المشتعلة، على جانبيها صفّان من المقاعد الأثرية، يعلوها جميعاً سقف مقوّس تتوسطه صورة السيد المسيح، تحتها مباشرة ثلاث نوافذ زجاجاتها ملونة ممتلئة بصور لوجوه كهنوتية يهمي من خلالها ضياء الخارج بألوان قزحية. على يسار الدرجات الصاعدة الى هذا القسم أرغن عال من خشب أبيض بلون الحليب، من فوقه صفوف أنابيب نحاسية هي الأجراس التي تحمل وتنقل أنغام الأرغن. وللجزء الأيسر من فسحة المسرح الكبير معلم خاص ينطوي على أسدين على جانبه الأيسر. كأن النحات شطر كل أسد الى نصفين أبقى الرأسين والصدرين والذراعين. وأهمل بقية الجسدين. وبين الأسدين ومائدة رخامية بعيدة في أقصى الفسحة كأسٌ رخامية كبيرة. ويمكن الانتقال من أقصى يسار المسرح الى أقصى اليمين عبر فتحتين، فمعالم الجزء الأيمن أغنى وأكثر ازدحاماً، يباغتك هناك حامل شموع نحاسي عال في أسفله دائرة انبوبية تربض عليها أربعة أُسود، ثم تتفرع من منتصفه أربعة أغصان يحمل كل واحد حيواناً ثور، أسد، نسر، أدمي لكل منهم جناحان، ثم تعلوها سبعة اغصان أخرى مستقيمة يحمل كل غصن شمعة كبيرة مضاءة، وغير بعيد صندوق أثري كالح ثم ثلاثة كتب تراثية داخل صندوق زجاجي محكم الاغلاق. الكتب مفتوحة. وفي عمق الفسحة مجسّمة منارة بالشموع تنطوي على سور حجري، وهضاب صخرية ذات تضاريس يرتفع في وسطها صليب تسقط ظلاله على جدران السور من خلال أضواء عدد من الشموع، وثمة بعض الكهنة مبعثرون كيفما اتفق كأنهم يمضون الى مكان ما. عدنا انا وصبري الى مقدم الكاتدرائية نروم مغادرتها، وكان مدرّسنا الشاب يشرح لبعض زملائنا تواريخ الكتب التراثية الثلاثة، وقبل ان نرمي بجسدينا خارج هذا العالم القديم رأينا على يسار مجسمة خشبية دقيقة الصنع لهذا الصرح الديني الشامخ: الواجهة الجميلة، البرجان العاليان، ومن ورائهما مضلع طويل يمتد طولاً ويخترق مضلعاً آخر يمتد عرضاً، يمثل كل ذلك سطح البناء الشامخ عندما تنظره من فوق. حين تلقفنا الخارج بهوائه النقي وضيائه الساطع بدت البناية الحجرية مثل حيوان خرافي يربض وسط عدد من المباني الواطئة ومديات خضراء مسكونة بالنبض والحياة ترتعش خلال جو ربيعي خلاّب، عندئذ تركني صبري عند محطة الباص. كانت رأسي لمّا يزل منشغلاً بذلك العالم الساجي طيَّ الهدوء والعتمة ورائحة الأزمنة الغابرة وكان بودي لو تنهض تلك الصور الممددة فوق بلاط المقبرة المعتمة، تستعيد حيواتها ونشاطها وتخرج الى الضياء، تختلط بأناس ينتمون حقاً الى نبض العصر وديمومته وعنفوانه. أغلب الظن انهم يحبّون الحياة مرةً إخرى، لكن هل تتقبل داعيتهم هذا الزخم من الانجازات والابداعات التي تتالت بعد غيابهم؟! كنت أحسّ ساعتئذٍ اني استيقظت من حلم غريب، وها ان ذاكرتي تستعيد معالم الكاتدرائية معلماً فمعلماً... بل تتغور الى العمق البعيد تلاحق تأريخ هؤلاء الناس. عليّ ان انزل الآن من الباص وأغلق الباب على ذاكرتي لتظل تلك الكائنات خيوط أحلام شاحبة داخل صندوق مغلق. * كاتب عراقي مقيم في السويد.