عندما سئل رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري وهو في طريق عودته الى بيروت في ختام جولة قادته الى واشنطنونيويورك وأوتاوا وباريس والفاتيكان عما يتوقعه من نتائج، فأجاب: لو لم اكن اتوقع نتائج ملموسة ستترك آثارها على الوضعين الاقتصادي والمالي، لما قمت بهذه الجولة ولكنت فضلت البقاء في لبنان، بدلاً من ان اتحمل مشقة السفر والانتقال بين كل الدول التي زرتها، انما يجب ان نعرف منذ الآن ان تمديد موعد اجتماع باريس -2- يحتاج الى تحضير وخصوصاً من الجانب اللبناني لنضمن وضع لبنان على الطريق الصحيح الذي نسهم من خلاله في ايجاد حلول للمشكلة المالية المترتبة على زيادة خدمة الدين العام. ويضيف: ان ما نطمح اليه في نهاية المطاف الوصول الى ما يضمن تحقيق التوازن المطلوب بين واردات الدولة اللبنانية ونفقاتها ولا اعتقد اننا سنواجه مشكلة، وان كانت المسألة تحتاج الى جهد وهذا ما نسعى اليه. اللافت في جولة الحريري ان واشنطن شكلت المحطة الرئىسية بغية التأسيس لعقد مؤتمر باريس -2- ومشاركة اطراف جديدة فيه حتى لا يقتصر الحضور على الذين شاركوا في مؤتمر باريس -1- برعاية الرئىس الفرنسي جاك شيراك، في حضور وزارة المال الفرنسية ورئىس البنك الدولي جايمس ويلفنسون، ورئىس المفوضية الاوروبية رومانو برودي ويقصد رئيس الحكومة اللبنانية بتوسيع المشاركة في المؤتمر العتيد بانضمام الولاياتالمتحدة الاميركية وكندا والمانيا وصندوق النقد الدولي واليابان ودول اوروبية اخرى اضافة الى دول عربية تأتي في مقدمها المملكة العربية السعودية. وقد يكون من نافل القول ان تشجيع المزيد من الدول والمنظمات الدولية المعنية للاشتراك في مؤتمر باريس -2- يحتاج الى تحضير اقله من الجانب اللبناني الذي يراهن على امكان اطفاء الدين القديم المترتب على الخزينة اللبنانية البالغ حوالى 25 بليون دولار بدين جديد انما بفائدة اقل وبتسهيلات في الوضع لفترة اطول. إضافة الى خصخصة بعض القطاعات والمرافق العامة وتحديد الهاتف والكهرباء والمياه كخطوة اولى وهذا ما يحتاج الى موافقة البنك الدولي على المشروع الذي اعدته الحكومة في هذا الصدد اضافة الى تأييد صندوق النقد الدولي للخطة الاصلاحية المالية والاقتصادية التي اعدتها الحكومة. ويتبادر للوهلة الاولى الى ذهن المواطن اللبناني أن الدول القادرة على مساعدة لبنان لم تكن في يوم من الايام بمثابة "جمعيات خيرية" تتجنب وضع شروط في مقابل توفير المساعدة له. وفي هذا السياق اخذ يتردد من وراء الكواليس وبين اعضاء الوفد اللبناني المرافق للحريري أن لدى الادارة الاميركية والبنك الدولي مجموعة من الشروط تتجاوز الشق التقني والفني الى الشق السياسي المتمثل بنشر الجيش اللبناني في الجنوب ووقف عمليات "حزب الله" في مزارع شبعا المحتلة، واعادة النظر في تلازم المسارين اللبناني - السوري وتطبيق اتفاق الطائف لجهة وضع خطة جديدة لانتشار الجيش السوري في لبنان. وقبل ان تتكشف نتائج اللقاءات التي عقدها الحريري في محطته الاولى بدءاً بواشنطن مع الرئىس الاميركي جورج بوش الابن وجميع اعضاء ادارته الامنية والسياسية والاقتصادية، كان لرئيس الحكومة اللبنانية وجهة نظر استحضرها عشية بدء محادثاته ليؤكد ان لا شروط اميركية على مساعدة لبنان، وان الجميع يعرف حقيقة الموقف اللبناني وبالتالي ان من يعتقد اننا جئنا الى هنا لعقد صفقة من تحت الطاولة سيكتشف ان تقديراته في غير محلها. وفي هذا السياق يضيف الحريري امام اعضاء الوفد اللبناني، لقد ابديت رغبة في مشاركة كل اعضاء الوفد اللبناني في المحادثات لابعاد اي اتهام بحصول مفاوضات سرية وللتأكيد على عدم عقد لقاءات بمنأى عنهم، علماً ان كل الامور رهن بموافقة مجلس الوزراء، ومن يحاول التشويش منذ الآن على الزيارة سيتبيّن له بشهادة الوزراء ان السلطة التنفيذية وحدها المخولة للبت فيها، ولا استطيع القفز فوقها او الانابة عنها في الموافقة على مسائل تعترض عليها. ويتابع، جئنا الى واشنطن ومواقفنا معروفة، من قبل الادارة الاميركية التي تدرك ان لا تغيير فيها من حيث الجوهر، ونحن نعتقد ان لبنان بدأ يمر في مرحلة دقيقة وحرجة وان ظروفه الاقتصادية والمالية لم تعد تحتمل الى وقت طويل، وهذا يستدعي مساعدة لبنان وتمكينه من الوقوف على قدميه وخصوصاً ان تعثره، سيجر الى مشكلات في المنطقة من شأنها ان تهدد الاستقرار في غياب التسوية العادلة والشاملة لأزمة الشرق الاوسط. ويؤكد الحريري ان ما يهمه اولاً استكشاف مواقف الادارة الاميركية الجديدة من ازمة الشرق الاوسط، ومعرفة مدى استعدادها لمساعدة لبنان من دون ان يكون لذلك اي ثمن سياسي، مضيفاً أن محادثاته مع بوش حملت تأكيداً على وجود رغبة اميركية بحث الدول القادرة على مساعدته ونافياً ان يكون ثمة شروط اميركية على هذا الصعيد، اذ ان موقف الادارة الاميركية كان واضحاً ومنسجماً ولم يتبيّن له ان لديها موقفين من لبنان خلافاً للتشدد الذي اظهره عدد من اعضاء في مجلس الشيوخ والكونغرس الاميركيين. وعلمت "الحياة" ان مناظرات مفتوحة دارت بين الحريري والوفد اللبناني من جهة وبين اعضاء في الكونغرس ومجلس الشيوخ الذين هم بأكثريتهم الساحقة يبدون تضامناً وتعاطفاً مع الموقف الاسرائىلي اذ تقدم رئىس الحكومة من هؤلاء بمناظرات تناولت التنسيق القائم بين لبنان وسورية على مستوى تلازم المسارين وأزمة الشرق الاوسط والوجود العسكري السوري في لبنان والعمالة السورية ومقاومة حزب الله لاسرائيل في مزارع شبعا المحتلة. وعليه فإن التشويش الذي قوبلت به محادثات الحريري في واشنطن من قبل مجلس الشيوخ والكونغرس الاميركي لم يكن له من اثر في لقاءاته الرسمية مع اركان الادارة الاميركية المحدثة. اما لماذا هذا "التساهل" الاميركي مع لبنان، على رغم ان الحريري لا ينتظر في يوم من الايام ان يعود وهو يحمل في جيبه "شيكا" اميركياً بمقدار ما انه يراهن على نفوذ واشنطن وامكان توظيفه لدى الدول الحليفة والمنظمات النقدية العالمية لحثها على الاستجابة لطلب المساعدة؟ في الاجابة عن السؤال، لا بد من الاشارة الى الدور الفاعل الذي لعبه الرئىس الفرنسي جاك شيراك عشية وصول الحريري الى واشنطن اذ اشار بوش الى انه تلقى منه اكثر من اتصال وهذا ما دفع عدد من الوزراء الى الحديث صراحة عن "البصمات الفرنسية" التي كانت حاضرة في المحادثات في واشنطن او في اوتاوا لدى انتقاله للقاء رئىس وزراء كندا جان كريتيان الذي ابدى استعداداً لحضور مؤتمر باريس -2- والمساهمة فيه في شكل جدي مشترطاً بطريقة غير مباشرة مساهمة واشنطن وعواصم اوروبية اخرى. ويذكر ان بوش تحدث بمرارة عن لبنان وضرورة توفير الدعم والمساعدة له، واستخدم لغة لم يسبق لأي مسؤول اميركي ان استخدمها وكأنه استعارها من مفردات القاموس الفرنسي الذي يستخدم عادة من قبل المسؤولين الفرنسيين في احاديثهم العاطفية عن لبنان. حتى ان الرئىس الاميركي اشار صراحة الى ان لا مصلحة لواشنطن السماح بتقويض الركائز والدعائم التي يستمد منها لبنان مصدر صموده. وشدد على ضرورة توفير كل الدعم مشيراً الى انه سيتحادث مع الفريق الاميركي الذي سيلتقيه الوفد اللبناني في اشارة واضحة الى اظهار تضامنه مع لبنان. وبالنسبة الى عدم اثارة النقاط التي تعتبر خلافية من وجهة نظر واشنطن وتتعلق بوقف عمليات "حزب الله" وبنشر الجيش اللبناني في الجنوب يعزو عضو في الوفد اللبناني السبب ان لا مجال للخوض فيها كنقاط تمنع عن لبنان المساعدة الاميركية ما دامت الحلول السياسية متعذرة في الشرق الاوسط. ويضيف: لو كانت الحلول قائمة لأبرزت واشنطن تشددها حيال هذه القضايا ظناً منها انها يمكن ان تستخدم لاحباط التسوية او الضغط عليها من خلال لبنان، خصوصاً اذا كانت المسألة متعلقة باتفاق فلسطيني - اسرائىلي غير قائم على الأقل في المدى المنظور. ويتابع: ان المسؤولين الاميركيين لم يغمزوا صراحة من قناة رئىس وزراء اسرائىل آرييل شارون في معرض تحميله مسؤولية افشال الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي على غرار ما فعلوه بتحميل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات مسؤولية ضرب اتفاق كامب ديفيد الذي كان يمكن ان يرى النور على يد رئيس وزراء اسرائىل السابق ايهود باراك. لكن عدم تحميل شارون مثل هذه المسؤولية، لم يمنع المسؤولين الاميركيين من ادخال تعديل على خطابهم السياسي من ازمة الشرق الاوسط وتحديداً الشق المتعلق بالفلسطينيين، وبدا واضحاً انهم تجاهلوا دعواتهم السابقة الى ضرورة توفير الفرصة له، وعدم الشروع في اطلاق الاحكام عليه استناداً الى تاريخه السابق، يوم كان وزيراً للدفاع عندما اجتاحت اسرائىل لبنان في حزيران يونيو 1982. وبكلام آخر لم يشر اي مسؤول اميركي الى تمديد الفرصة لشارون، تماماً كما انه لم يتحدث عن انقضاء مهلة السماح التي اعطيت له، في مقابل عدم انزعاجهم من قول الحريري إن رئىس وزراء اسرائىل يتحمل مسؤولية مباشرة ازاء ما آلت اليه الاوضاع في المنطقة ويحاول الآن فرض الحل الأمني كبديل من الحل السياسي وفي نيته وضع المنطقة امام امر واقع تدفع الدول العربية الى التسليم له بما كانت رفضته في الماضي. واعتبر الحريري ان باراك ومن بعده خلفه شارون فوتا الفرصة للوصول الى تسوية عادلة، ولفت الى ان الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تتناقض مع نفسها عندما تدعي بأنها ترغب في الوصول الى حل وتصر في الوقت نفسه على الاحتفاظ بقطعة ارض في لبنان مزارع شبعا المحتلة وثانية في هضبة الجولان المحتلة وثالثة في الاراضي الفلسطينية المحتلة اذ انها بادرت الى ضرب اتفاق اوسلو مع انها وقعت عليه مع عرفات وكان للبنان وعدد من الدول العربية ملاحظات عليه، تجلت في الدرجة الاولى في ان الحل المنفرد لن يخلق المناخ امام استعجال حل ازمة الشرق الاوسط وهذا ما هو حاصل الآن. الا ان غياب النقد الاميركي المباشر لشارون، لم يمنع بوش من ذهابه بعيداً في محاولة لتبديد ما هو عالق لدى عدد من الدول العربية من انه لا يريد ان يحرق اصابع ادارته في الشرق الاوسط وبالتالي سيدير ظهره لهذه المنطقة ولن يلتفت اليها في الوقت الحاضر. ونقل عضو في الوفد اللبناني عن بوش تأكيده بأن لا صحة لما يشاع على هذا الصعيد، وان ايفاد وزير الخارجية الاميركي كولن باول الى الشرق الاوسط في اول مهمة له فور تعيينه في هذا المنصب دليل قاطع على مدى اهتمامنا. مشيراً الى ان للادارة الاميركية الجديدة آلية وأسلوب عمل يختلفان عن الاسلوب الذي اعتمدته الادارة السابقة في اشارة غير مباشرة الى ان الهم الاساسي لسلفه بيل كلينتون شد الانظار الى حديقة البيت الابيض من خلال حث عرفات وباراك على ضرورة مصافحة بعضهما او عبر ايفاد دنيس روس المسؤول الاميركي السابق عن ملف المفاوضات الى المنطقة مطلقاً مواعيد سرعان ما تبين بأنها لم تكن صادقة لتحقيق السلام. وبمعنى آخر، ان بوش يرفض اعتماد اسلوب كلينتون وتحديداً بالنسبة الى ايفاد مندوب عنه يقيم في شكل دائم في الشرق الاوسط، او استغلال الاعلام لتحقيق انتصارات آنية ثبت انها كانت في غير محلها. وتبقى الاشارة الى ان الحريري وأعضاء الوفد لمسا وجود رغبة لدى ادارة بوش في التعاون مع الرئىس السوري الدكتور بشار الأسد تجاوزت حدود ابداء النيات الطيبة الى الحديث عن الصفات التي يتمتع بها، وكأنه بذلك اراد تمرير رسالة الى دمشق من خلال بيروت. إضافة الى ابداء استعداده لاعادة النظر في العقوبات المفروضة على الشعب العراقي على قاعدة التخفيف منها شرط منع الرئىس العراقي صدام حسين من استغلالها لتقوية قدراته العسكرية التي قد تشجعه على التورط في حرب جديدة يراد لها تهديد الاستقرار في منطقة الخليج. وهكذا انعكست الاجواء الايجابية لمحادثات الحريري في واشنطن على اللقاءات الماراثونية التي عقدت مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اذ انهما ابديا استعداداً للتعاون خصوصاً من جانب الاخير الذي اخذت تتبدل مواقفه من تقويمه لمشروع الاصلاح الاقتصادي والمالي الذي اعدته الحكومة، وظهر واضحاً ان الاجواء التي سيطرت على الاجتماعات اخذت تتبدل خلافاً للاجتماع التمهيدي الاول الذي خيمت عليه اجواء مشدودة حتى لا يقال ان التباين في التقويم ظهر واضحاً للعيان. اما في المحطة الثانية لجولة الحريري في اوتاوا والتي جاءت بعد فاصل من المفاوضات السياسية مع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في نيويورك لاحظ الوفد اللبناني ان رئيس وزراء كندا ابدى تجاوباً واعتبر انه تلقى تشجيعاً اميركياً اضافة الى تشجيع شيراك. وبرزت ملامح التحول في الموقف الكندي من زيادة المبلغ الذي كانت قررته كندا مساهمة منها في استضافة بيروت للقمة الفرنكوفونية الى موافقته على ايفاد وزير خارجية الى لبنان في اطار جولة يقوم بها على عدد من دول الشرق الاوسط. علماً ان دورها على الصعيد الخارجي يبقى محدوداً وغالباً ما تتأثر كندا بموقف الولاياتالمتحدة اضافة الى موافقة كريتيان على حضور مؤتمر باريس -2-. وشكلت باريس محطة للحريري لتقويم نتائج جولته مع شيراك ليعلن في ختام اللقاء ان موعد انعقاد مؤتمر باريس -2- قد يتحدد في خلال اسبوعين وربما يعقد في نهاية حزيران او في مطلع الخريف. اما لماذا يتأخر لبنان في تحديد الموعد؟ في الاجابة عن هذا السؤال هناك من يعتقد ان من بين الاسباب وجود رغبة لاستكمال التحضيرات التي تشمل المزيد من الاتصالات مع الدول الراغبة في الحضور اضافة الى ان الحكومة اللبنانية لا ترغب في حرق المراحل وتتأنى في تعيين الموعد الى حين الانتهاء من اعداد الدراسات التي يجب ان تتابع مع البنك الدولي وصندوق النقد وما يزيد في كسب الوقت قبل تحديد الموعد النهائي لمؤتمر باريس -2- تأكيد الحريري امام الوفد اللبناني انه لا يبحث عن تحقيق انجاز اعلامي بمقدار ما انه يطمح بأن يأتي المؤتمر تتويجاً لاستكمال التحضيرات، لتسفر عنه خطوات ملموسة على صعيد تصحيح الوضعين المالي والاقتصادي. وهنا يمكن القول ان لبنان الذي يتمنى من الدول المساندة له، الصبر ما امكن ريثما ينتهي من الاستعدادات المطلوبة كشرط لتوجيه الدعوة فإنه في المقابل يطمح الى اشاعة المناخ الداخلي الذي من شأنه ان يسهم في خفض حدة التوتر السياسي وصولاً الى تمكينه من ان يقدم نفسه على انه الدولة القادرة على الافادة من المساعدات او القروض المالية الجديدة لالغاء الدين القديم بجديد بفائدة اقل تؤدي الى تراجع خدمة الدين العام والى خفض نسبة العجز في الموازنة. وأخيراً يبدو ان فكرة الدعوة الى مؤتمر باريس -2- التي طبخها الحريري مع شيراك اخذت تتطور ولم تعد مجرد رغبة غير قابلة للتنفيذ ولكن ترجمتها الى اجراءات ملموسة تنتظر وضع اللمسات الاخيرة على التحضيرات، ليأخذ الانقاذ طريقه الصحيح.