من بين المؤشرات الخطيرة في أولويات الحكومية الإسرائيلية الحالية للسنوات المقبلة برنامجها المعلن لتهجير مليون يهودي جديد الى إسرائيل. لقد أعاد آرييل شارون رئيس الحكومة أخيراً تأكيد ضرورة تهجير مليون يهودي جديد خلال فترة ما بين عشر سنوات الى 13 سنة، مضيفاً أن هذا "ينبغي ان يشكل اولوية مطلقة بالنسبة الى كل الحكومات الإسرائيلية". وكما تشير الإحصاءات فإن يهود إسرائيل يشكلون حالياً 38 في المئة مما تعتبره إسرائيل "الشعب اليهودي" في العالم البالغ 13 مليوناً وربع المليون يهودي. هؤلاء اليهود حول العالم هم اساساً مواطنون يحملون جنسيات دول يعيشون فيها حالياً، ومنهم ستة ملايين وسبعمئة الف في الولاياتالمتحدة وحدها، اي بنسبة 43 في المئة من يهود العالم. مع ذلك فإن ما يركز عليه رئيس الحكومة الحالية من إسرائيل ليس يهود الولاياتالمتحدة، وانما يركز على مواطني بلاد اخرى فحينما سئل شارون من اين سيجيء بالمليون يهودي جديد الى إسرائيل رد بقوله: "إن هناك نصف مليون يهودي في اميركا اللاتينية، يعيش عدد كبير منهم اليوم في حالة ضيق ويجب عليهم ان يغادروا الدول التي يقيمون فيها". واعتبر ان نحو ثمانين ألفاً من افراد الجالية اليهودية في جمهورية جنوب افريقيا وسبعمئة ألف في فرنسا ومئات الألوف الآخرين من اليهود في أوكرانيا مرشحون محتملون للهجرة الى إسرائيل. فالتفكير الحكومي السائد حالياً في إسرائيل يعطي لنفسه اذن سلطة التحدث باسم مواطنين يهود في بلاد شتى من الارجنتين الى البرازيل الى المكسيك الى فرنساوأوكرانياوجنوب افريقيا، معتبراً أنهم "يجب أن يغادروا الدول التي يقيمون فيها" ويهاجرون الى إسرائيل من خلال خطة منظمة تقررها إسرائيل نفسها. فإذا تذكرنا في هذا السياق ان إسرائيل توجد وسط منطقة تعاني أصلاً من نقص المياه - على سبيل المثال - وأن حكومة إسرائيل رفعت اخيراً سعر المياه بنسبة 48 في المئة للمزارعين و67 في المئة لمستخدمي المنازل يتضح لنا بُعد جديد في الصورة، أما إذا أضفنا الى ذلك السرقة الإسرائيلية المستمرة لمياه لبنان وهضبة الجولان السورية، وآبار الضفة الغربية الفلسطينية يتضح لنا ايضاً البعد الاقليمي في الصورة. وإذا كانت إسرائيل بسكانها الحاليين 4.6 مليون نسمة 81 في المئة منهم يهود وتعاني الى هذا الحد من نقص المياه، يصبح السعي الى تهجير مليون يهودي جديد خلال عشر سنوات مقدمة أكيدة الى وضع اقليمي لا تستطيع إسرائيل تحقيقه الا بالحرب أو بإذعان المحيط الاقليمي لأطماع إسرائيل في المياه تحت سيف التهديد بالحرب، هذا المحيط الاقليمي لا يشمل فقط ضفتي نهر الاردن سورية ولبنان، وإنما يمتد ايضاً الى مصر على ضوء انتقال مياه نهر النيل الى سيناء المصرية عبر "ترعة السلام" التي تفاءلت بها إسرائيل اخيراً. مع ذلك يظل الجانب الأكثر الحاحاً حالياً هو استمرار برامج التهجير واسعة النطاق التي "تستورد" بها إسرائيل بشرا جدداً لم يطلبوا اصلاً الهجرة الى إسرائيل ولا يتحدثون العبرية ولا علاقة لهم بفلسطين. والبرنامج الإسرائيلي الجديد هنا بتهجير مليون يهودي خلال السنوات العشر القادمة لا بد من اخذه بجدية كاملة على ضوء مليون يهودي قامت إسرائيل بتهجيرهم اليها فعلا خلال السنوات العشر السابقة. وطوال سنوات الحرب الباردة كانت الولاياتالمتحدة تستخدم سلاح "حقوق الإنسان" في مواجهة الاتحاد السوفياتي وعبأت في سبيله دولاً شتى من بينها دول عربية بهدف إرغام الاتحاد السوفياتي على فتح ابوابه لهجرة "المنشقين" عن نظامه السياسي. حينما جرى هذا فعلاً تبين ان المقصود عملياً بشعارات حقوق الإنسان وحرية السفر للمنشقين هو إطلاق هجرة اليهود السوفيات. ولأنهم اصلاً غير متدينين ولا ناطقين بالعبرية ودوافهم الاساسية كانت تحسين مستوى حياتهم فقد كانوا يتطلعون اساساً الى الهجرة الى الولاياتالمتحدة، أو بالقليل كندا. مع ذلك فبمجرد أن فتح الاتحاد السوفياتي أبوابه للهجرة، بالتلازم مع تفككه بذاته قامت الولاياتالمتحدة بإلغاء الامتيازات التي كانت تكفلها استثناء لحساب "المنشقين" السوفيات تحت غطاء اللجوء السياسي كخطوة اضافية تغلق بها ابوابها امام هجرة اليهود السوفيات اليها. وزيادة في التأكيد قامت إسرائيل بافتتاح خطوط طيران مباشرة مع جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق حتى لا يتسرب المهاجرون الجدد الى أي مكان آخر في الطريق ويصبح وصولهم الى إسرائيل خياراً وحيداً لا مفر منه. في سنوات التسعينات كان تهجير هذا المليون سوفياتي الى إسرائيل بخليط من الإغراء والإجبار عمل لا يقل عن اقامة دولة إسرائيل الثانية في المنطقة، حيث "إسرائيل الاولى" قامت في سنة 1948 بمجرد ثمانمئة ألف يهودي، وتلازم برنامج التسعينات هذا مع حصول إسرائيل من الولاياتالمتحدة على عشرة بلايين دولار ضمانات قروض لمساعدتها في استيعاب هذا المليون يهودي جديد في أكبر عملية من نوعها لنقل السكان في النصف الثاني من القرن العشرين. والآن تقرر إسرائيل علناً ورسمياً أنها في الطريق الى تهجير مليون يهودي جديد من اميركا اللاتينية وافريقيا واوروبا، بينما الصمت مطبق فلسطينيناً وعربياً في الحالتين. تتضح خطورة هذا الصمت في تلازم هذا كله مع إصرار إسرائيل، وبدعم أميركي كامل، على رفض اي التزام إسرائيلي بتنفيذ حق العودة والتعويض للفلسطينيين المشردين، حسب قرارات سابقة للامم المتحدة كانت الولاياتالمتحدة نفسها مستمرة في التصويت لصالحها سنوياً حتى جرت صفقة اوسلو السرية بين إسرائيل وعرفات. أكثر من ذلك فقد اتضح بعد مفاوضات كامب ديفيد الأخيرة في شهر تموز يوليو الماضي بين حكومة إسرائيل وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني برعاية الرئيس الأميركي وقتها، أن احد عناصر الصفقة كان إلزام الدول العربية من العراق الى مصر والجزائر والمغرب بدفع تعويضات مالية الى إسرائيل عن ثروات تزعم إسرائيل الآن بأثر رجعي أن الدول العربية صادرتها من اليهود المهاجرين. وبعد انكشاف هذا الجانب من صفقة كامب ديفيد الفاشلة في تموز يوليو الماضي اكتشفت الدول العربية المعنية انها أخذت على غرة بعد ان حولت إسرائيل نفسها من متهم الى مدعي، ومن لص الى صاحب حق. اما الوجه الآخر، والذي كان مفاجئاً بدرجة اقل، فهو إلزام الدول العربية بتوطين المقيمين فيها من لاجئين فلسطينيين تحت إغراء الالتفاف على دول البترول العربية لتتحمل تعويضات مالية سخية في هذا السبيل، تعفى منها إسرائيل بعد أن يتم إعفاؤها أصلا من الالتزام بعودة اللاجئين الفلسطينيين المشردين الى بيوتهم وقراهم التي أخرجتهم إسرائيل منها. والآن ليس واضحاً ما يقصده بالضبط اسحاق شامير الرئيس الاسبق للحكومة الإسرائيلية بقوله قبل ايام "إن الصهيونية لم تستكمل - بعد - كامل مهامها". لكن المؤكد حتى الآن حرص نجوم اتفاق اوسلو وتوابعه طوال سبع سنوات على تجاهل قضية اللاجئين الفلسطينيين بالكامل بل والحرص على إخماد اي صوت يحاول التعبير عنها موضعياً كشرط للتسوية. اما الأكثر تأكيداً من هذا كله، فهو أن مفاوضاً عربياً واحداً لم يشغل نفسه بالسؤال الجوهري، مع ماذا تجري التسوية؟ مع إسرائيل المقررة لها حدود دولية، أو مع حالة بخار؟. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.