صك استسلام المانيا الهتلرية وقع ليل 8/9 أيار مايو 1945 وفي هذه المناسبة تحتفل روسيا بعيد النصر الذي ترى انها اسهمت بقسط وافر في تحقيقه. كيف ترى موسكو تلك الأيام بعد انهيار الدولة التي حققت ذاك الانجاز؟ يخيل لزائر روسيا خلال احتفالاتها بعيد النصر انها عادت الى العهد الشيوعي، اذ تغطي الأعلام الحمراء شوارع موسكو وترفرف قرب الكرملين بينما يتجول من بقي على قيد الحياة من قدامى المحاربين وقد علت صدورهم اوسمة كانوا حصلوا عليها في سنوات الحرب. وينزل مئات الألوف الى الشوارع وهم يحملون لافتات ويرددون شعارات تذكر بزمن الدولة العظمى وتعود القنوات التلفزيونية الى ارشيفها لتختار منه افلاماً قديمة عن النصر الذي كلف شعوب الاتحاد السوفياتي زهاء 30 مليون قتيل. وبعد 56 سنة على توقيع المانيا النازية وثيقة استسلامها غدت ذكرى هذا اليوم العيد الوحيد الذي يجمع عليه الشعب الروسي كله بمختلف التيارات والتلاوين السياسية. وهو المناسبة الوحيدة التي لم يتمكن الليبراليون انصار الغرب من ادراجها ضمن التراث الشيوعي الذي ينبغي اهماله. وعلى رغم ان موسكو اعدت استقبالاً حافلاً ليوم النصر الا ان قلة ممن شاركوا في صنعه سيتمكنون من الاحتفال به وبعد ان كان شارك في العرض العسكري الذي اقيم بهذه المناسبة العام الماضي زهاء 5000 من قدامى المحاربين فإن أقل من 3000 انهك معظمهم المرض وسوء التغذية سيحضرون هذا العام غير انهم سيكتفون بالجلوس على مقاعد المتفرجين وسط استعدادات احتياطية منها ان 20 سيارة اسعاف ستقف قرب الساحة الحمراء على اهبة الاستعداد لمد يد المساعدة لمن يحتاج منهم خصوصاً ان العرض العسكري المزمع تقديمه قد يثير لدى بعضهم شجوناً وذكريات مر عليها أكثر من نصف قرن. واعدت موسكو "لأبطالها" هدايا مختلفة منها انهم سيتمكنون في يوم العيد من اجراء اتصالات هاتفية مجانية مع دول الاتحاد السوفياتي السابق للتحدث مع "رفاق السلاح" إذا كانوا ما زالوا على قيد الحياة وتبادل التهاني معهم أو الهموم. كما شكلت مجموعات خاصة لزيارة عدد من المحاربين القدماء الذين اقعدهم المرض والشيخوخة عن حضور الاحتفالات وسيجري تقديم بطاقة بريدية لكل منهم مرفقة بملبغ 500 روبل اي قرابة 17 دولاراً كهدية، وستعمل حكومة موسكو على احياء ذكريات 500 من قدامى المحاربين بشكل مبتكر اذ رممت قاطرة بخارية كانت تستخدم خلال سني الحرب لتحملهم في جولة ضمن خط سيرها القديم وستقف خلف عجلة القيادة خلال الرحلة يلينا تشوختيوك التي كانت أول امرأة تمنح لقب "بطل الاتحاد السوفياتي" بعد ان قادت قطاراً مماثلاً وانقذت حياة ركابه تحت وابل من القصف المركز في منطقة حاصرتها القوات النازية، لكن هذه "الهدايا" تقدم مرة واحدة في العام فيما يعيش معظم صانعي هذا النصر تحت خط الفقر الآن بعد ان قضت "الاصلاحات" التي شهدتها روسيا خلال العقدين الأخيرين على كل الامتيازات التي كانوا يحصلون عليها وغدوا مهملين ويعيشون على هامش الحياة. وليست مصادفة ان تختار المعارضة اليسارية شعار محاربة "طواغيت المال" لترفعه خلال احتفالاتها بأعياد أيار مايو التي بدأت بيوم العمال العالمي في مطلع أيار وتستمر حتى عيد النصر في التاسع منه، وبعد ان كان صانعو النصر الذي أبرز الاتحاد السوفياتي كدولة عظمى يتمتعون بوضع خاص ويحصلون على ضمانات اجتماعية وصحية مختلفة تركت الخطط التي وضعها الاصلاحيون آثاراً كارثية عليهم، ويبدو مشهد احد "أبطال الاتحاد السوفياتي" وقد عرض أوسمته للبيع كي يسد بثمنها رمقه أبرز دلالة على الحال التي انتهت اليها هذه الفئة في روسيا. وعلى رغم ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاول اصلاح بعض ما كان "المصلحون" أفسدوه فأصدر قراراً بتحسين رواتب المحاربين القدامى التقاعدية وتسوية بعض مشكلاتهم الا ان الصورة تظل قاتمة بالنسبة لهم. وتقول الكسندرا ايفانوفا 80 سنة ل"الحياة" ان راتبها اصبح بعد التعديل 1600 روبل شهرياً أي ما يعادل 60 دولاراً تقتطع الحكومة زهاء ربعه بدل خدمات. وعلى رغم ان هذا الرقم يبدو معقولاً مقارنة مع رواتب المتقاعدين من المدنيين الا انه بالكاد يكفي ايفانوفا التي خدمت خلال سنوات الحرب في احد المطارات العسكرية وخصوصاً انها حرمت من الخدمات الطبية المجانية والمتاجر الخاصة لقدامى المحاربين التي كانت في زمن الاتحاد السوفياتي تقدم اسعاراً خاصة جداً لهذه الفئة من المواطنين. وتستغرب ايفانوفا ان صانعي الانتصار الذين باتوا في هذا العمر بحاجة للمزيد من الرعاية يعيشون أسوأ الظروف في حين تقدم المانيا اعلى مستوى من الخدمات لجنود الرايخ المهزومين سيما وان من بقي على قيد الحياة من مشاركي الحرب قلة قليلة متسائلة "هل تعجز الدولة حقاً عن تأمين معيشة أفضل لنا". وتضيف بحرارة "أم أننا اصبحنا جزءاً من ذكريات الاتحاد السوفياتي المنهار". وليست هذه احاسيس ايفانوفا وحدها إذ ما زال يعيش في روسيا زهاء 3 ملايين من مشاركي الحرب التي خلفت لدى ثلثهم تقريباً آثاراً لا تمحى على شكل اعاقات جسدية ويشمل هذا الرقم العسكريين من الذين شاركوا مباشرة في العمليات القتالية اضافة الى المدنيين الذين كانوا يشكلون خط المواجهة الخلفي، وأصغر قدامى المحاربين في روسيا الآن تجاوز عمره 74 عاماً ما يعني المزيد من الأعباء الصحية التي اصبحت همهم الأكبر اضافة الى انها الهم الأكبر للجنة قدامى المحاربين التي تعنى بشؤونهم في مجلس الدوما. وفي هذا الاطار قال ل"الحياة" أحد مسؤولي هذه اللجنة فيكتور فيدتشينكو ان محاولة تحسين الظروف الحياتية لهذه الفئة تبدو مهمة بالغة الصعوبة في ظل الأحوال الاقتصادية المتردية التي تعانيها البلاد، مشيراً الى ان اللجنة نجحت بعد جهود حثيثة في استصدار عدد من القوانين التي أولت قدامى المحاربين المزيد من الرعاية كما نجحت بتعديل بعض القوانين التي وضعها الاصلاحيون في مطلع التسعينات وأدت الى انحدار مستوى الخدمات الحكومية لهم في شكل ملحوظ، ويضيف فيدتشينكو ان تطبيق هذه القوانين يصطدم بالامكانات الواقعية للحكومة الأمر الذي تعاني منه جميع قطاعات الخدمات الحيوية الأخرى. ويبدو تطبيق مثل هذه القوانين في الكثير من الاقاليم مستحيلاً بسبب عجز المركز عن الوفاء بالتزاماته من الموازنة الفيديرالية نحوها. واضاف فيدتشينكو ان تقديم الخدمات الطبية اللازمة لقدامى المحاربين يزداد صعوبة مع حاجة فئة كبيرة منهم الى معدات طبية مختلفة مثل عربات المقعدين وغيرها، سيما بعد ان طاولت برامج الخصخصة المؤسسات الطبية الحكومية وتحول الدواء سلعة تجارية تخضع لاعتبارات السوق، علماً بأن الأدوية كانت في الاتحاد السوفياتي مدعومة من الحكومة وبالتالي رخيصة الثمن وكانت الخدمات الطبية تقدم مجاناً، أما بعد ان اصبح انتاج الأدوية في يد القطاع الخاص فقد بات على الدولة ان تخصص جزءاً من موازنتها لشراء الأدوية والمعدات الطبية اللازمة، وقد يفسر هذا توقف العيادات الطبية الحكومية عن وصف أدوية "غالية الثمن" للمرضى من المحاربين القدامى. والأسوأ من ذلك ان "أبطال الحرب العالمية" لا يعدون "مشكلة" في حياتهم فقط وانما بعد مماتهم ايضاً، إذ يموت منهم سنوياً زهاء 300 ألف نسمة، الأمر الذي يبرز مشكلة أخرى تتمثل بتكاليف خدمات الدفن التي غدت باهظة أو تحاول لجنة قدامى المحاربين تقديم المساعدة في هذا الشأن أيضاً، خصوصاً ان جزءاً كبيراً منهم بات في سنواته الأخيرة وحيداً من دون أسرة ترعاه. وعلى رغم ان تغييراً مهماً طرأ على أوضاع قدامى المحاربين مع وصول بوتين الى سدة الحكم إذ أولى المزيد من الاهتمام لهم وتمكنت اللجنة المختصة برعايتهم من احراز نجاحات مهمة في زيادة حجم الموازنات المقررة لخدماتهم وبرز ذلك في شكل واضح من خلال موازنة السنة الحالية التي زادت اربعة أضعاف عن العام الماضي، الا ان العاملين في لجنة قدامى المحاربين عبروا عن أساهم لأن اعداد المستفيدين من تحسين الظروف المعيشية تتضاءل بسرعة كبيرة، وخلال اقل من عشر سنوات لن يبقى في روسيا أي شاهد على الحرب العالمية الثانية. وحتى يأتي ذلك اليوم سيظل الباقون على قيد الحياة يشعرون بالمرارة التي لا تقف عند حدود اهمال احتياجاتهم المادية بل تتعدى ذلك الى شعورهم بأنهم غدوا كماً مهملاً يجري تجاهله ويفتقدون حتى للرعاية المعنوية. وفي حين تستعيد وسائل الإعلام الروسية عند الاحتفال بعيد النصر "انجازات الجيش الجبار" فإنها تتجاهل طوال العام المصير الذي آل اليه من بقي على قيد الحياة من هذا الجيش أولئك الذين قد تسعدهم كلمات أحد الشبان المشاركين في الاستعراض العسكري عندما عبر عن فخره بهذه المشاركة آملاً "ان يصبح ذات يوم مثل جده" ولكن في المقابل هل يستطيع صانعو النصر ان ينسوا كلمات احدى "رائدات" الحركة اليمينية الموالية للغرب ايرينا خاكامادا التي قالت تحت قبة البرلمان ان "اختفاء هذا الجيل عن الحياة بأسرع وقت ممكن سيسهم في حل مشكلات روسيا".