هل تعلم جورج بوش الابن أن رئاسته للدولة العظمى الوحيدة في العالم لا تعفيه من التعاطي مع الآخرين، من حلفاء ومن خصوم، برفق أكثر وبفظاظة أقل، وان ذلك ما جعله يسلك لدى إعلانه يوم الثلثاء الماضي عزم بلاده المضي في إقامة درعها الواقي من الصواريخ، سلوك اللين والوعد بتوخي اسلوب التشاور والحوار، على خلاف ما كان عليه أمره قبل أسابيع حين عمد إلى التنكر لاتفاقية كيوتو المتعلقة بحماية البيئة على نحو فج تلقته عواصم العالم على أنه صفعة توجه إليها؟ أم أن الفارق في السلوك ذاك مما لا يتعين التسرع في استنتاج أي ميل إلى الاعتدال قد يُتوهَّم أنه يشي به، وان الرئيس بوش إذا كان قد توخى الفجاجة لدى إعلان إدارته قرارها التنكر لاتفاقية البيئة، فإن الأمر لم يكن بالنسبة إليه هفوة ارتكبها، بل صدمة تقصّد الإقدام عليها للتعبير عن أن الرئاسة الأميركية الجديدة ستتبع سبيل الحزم في اتخاذ قراراتها وفي انفاذها، على خلاف إدارة بيل كلينتون التي يصفها الجمهوريون بأنها كانت ضعيفة مهادنة، وان السلوك ذاك أدى الغرض المراد منه، بما قد لا يستوجب تكراره؟ يبدو أن العالم، بدءاً بالحلفاء الأوروبيين وببقايا القوى العظمى التليدة أي روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي، فهمت الأمور، أو حدستها، وفق هذا التأويل الأخير، إذ هي تعلم علم اليقين أن الولاياتالمتحدة اتخذت قرارها بانشاء الدرع الواقي من الصواريخ، وان القرار ذاك آحادي الجانب مبرم لا رجعة فيه، وان الإدارة الأميركية تمتلك وسائل انفاذه، مالاً وقدرات تكنولوجية وإرادة سياسية، في حين أن المعترضين على تلك المبادرة الدفاعية لا طاقة لهم ولا حول. فمن توفر لديه المال أو بعض القدرة التكنولوجية، شأن بلدان الاتحاد الأوروبي، أعوزته الإرادة السياسية. ومن حاز على هذه الأخيرة على ما قد تكون حال روسيا، أقعدته قلة ذات اليد... أما الصين فهي مهما بلغت من السطوة والنفوذ تبقى قوة اقليمية مجالها الشرق الأقصى والمحيط الهندي لم تبلغ مصاف التأثير الكوني وقد لا تبلغه في المستقبل المنظور. ولعل ذلك ما يفسر أن ردود الفعل الأوروبية والروسية انصرفت في غالبيتها إلى هوامش المبادرة الدفاعية الأميركية لا إلى صلبها، فتعلقت بما وعد به الرئيس جورج بوش من أنه سيكثف الحوار بشأن المبادرة اياها وأطوارها مع بقية الأطراف حليفة كانت أو لم تكن. فانطلقت ردود الفعل تلك تثني على ذلك الوعد أو تتفاءل به خيراً، في حين أن أحداً لم يعد يجادل، على ما يبدو، في الدرع الواقي من الصواريخ في حد ذاته وفي الجدوى منه وفي العقيدة الاستراتيجية التي يتأسس عليها، على خلاف ما كانت عليه الأمور في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، ذلك الذي ربما ساوره بعض تردد بشأن تلك المبادرة، وقد يكون قد تأثر في ذلك، وان جزئياً، بحجج المعترضين داخليين كانوا أم خارجيين ما دفع به إلى الاحجام عن اتخاذ أي قرار في ذلك الصدد، وترك أمر البت فيه لخلفه في البيت الأبيض. وخلَفه ذاك لم يضع وقتاً، إذ لم يمض على تسلمه الحكم أكثر من ثلاثة أشهر حتى بادر إلى اطلاق استراتيجية الدرع الواقي من الصواريخ. ذلك أن ما وصل إلى البيت الأبيض كان أميركا التي لا تسمع، أو لا تفعل ذلك إلا بالقدر الذي تتيحه هي من خلال الوعد بحوار هي من يعين حدوده ومجاله، كما جاءت إلى البيت الأبيض أميركا التي في عجلة من أمرها... إذ أن كل الدلائل تشير على نحو قاطع في نظر الخبراء وهو ما توحي به كذلك الصيغة التي عرض بها جورج بوش الخطة الدفاعية الجديدة على نحو بالغ العمومية لا يتقيد بمراحل محددة ولا بروزنامة، إلى أن القرار المذكور والمباشر تنفيذه لم تنضج ظروفهما ولم تتهيأ أسبابهما، حتى أميركياً، ناهيك بمدى استعداد العالم لاستيعابهما... إلا على مضض شديد. فالخطة المذكورة تعترضها عراقيل كثيرة قد لا يكون من اليسير تذليلها، يتعلق بعضها بما هو منها في موقع اللب، نعني توافر الامكانات التكنولوجية لإنفاذ المشروع. وهكذا ومهما يكن من ثقة الولاياتالمتحدة بمقدراتها التكنولوجية وبمواردها المالية وعلمائها ومراكز أبحاثها، يبقى من التسرع الإقدام على مشروع لا يزال الكثير من مقوماته التقنية في حكم الغيب. هذا بطبيعة الحال إن سلمنا جدلاً بصواب العقيدة الدفاعية التي تتأسس عليها استراتيجية الدرع الواقي من الصواريخ، وبأن الدول الموصوفة ب"المارقة"، مثل إيران والعراق وليبيا وكوريا الشمالية، تشكل تهديداً للعالم أو للعالم الغربي بحجم وبفداحة ذلك الذي تلوح به الولاياتالمتحدة وتحذر منه وتتحسب له. وذلك ما لا يكاد يقنع أحداً. ما سرّ ذلك التسرع الأميركي؟ وهل يستند إلى مبررات فعلية يرشح بها الوضع الدولي راهناً وتستوي فيه ماثلة، أم هي الدوافع الايديولوجية تُحل واقعاً مفترضاً أو متوهماً محل الواقع القائم لدى يمين جمهوري يحن إلى أيام الحرب الباردة أو يحلم باستئنافها مع أنها ولّت وانفض عقد محاربيها؟ ما لا شك فيه أنه لم يبق هناك من إطار أمني ينظم حياة الأمم، ويتحكم في نزاعاتها الجارية أو المحتملة ويساعد على حل أو تطويق ما نشب منها أو على اتقاء تلك التي قد تنشب، أو أن مثل ذلك الإطار موروث عن حقبة الحرب الباردة وما عاد يفي بالغرض ما دام لم يعد هناك من خصم استراتيجي يتولى في الآن نفسه وظيفة الشريك المسؤول والمرجعية المضادة التي ينضوي تحتها كل الخصوم، فتكون بذلك مظلتهم وأداة ضبطهم في آن، على ما كانت حال الاتحاد السوفياتي في السابق. والولاياتالمتحدة قد لا تقول خطأ إن هي أشارت إلى أن اتفاقية كتلك التي وقعت قبل ثلاثين سنة بين ليونيد بريجنيف وريتشارد نيكسون حول منع انتشار الصواريخ العابرة للقارات، لا يمكنها أن تستمر أساساً يقوم عليه النصاب الأمني والاستراتيجي الدوليان، وقد تغيرت مواصفات العالم وجدّ انقلاب تكنولوجي بعيد الأثر. ذلك مما يمكن الإقرار للولايات المتحدة به... غير أن المشكلة في العلاج الذي تقترحه واشنطن، بل تفرضه فرضاً، لذلك الخلل. فهي عوض أن تسعى إلى مقاربة جماعية وهو، ربما، ما ساور إدارة كلينتون السابقة وإن لم يتحول إلى اتجاه واضح محدد، تشرك أكبر عدد ممكن من القوى المسؤولة وذات الشأن، إن من حيث نفوذها وان من حيث تمثيليتها، في وضع أسس نظام أمني عالمي جديد، حتى وإن حازت فيه الولاياتالمتحدة، بالنظر إلى كونها القوة العظمى الأولى في العالم وإلى امكاناتها الاقتصادية والعسكرية الضخمة، دور المحرك والطرف الراجح، نراها، خصوصاً مع هذه الإدارة الجديدة، تخلط بين أمن العالم وأمنها وتماهي بينهما، وتتطلع إلى توليهما معاً بمفردها وعلى نحو آحادي الجانب. كأنما الدولة الأولى في العالم بصدد التحول إلى "الدولة - العالم" على غرار ما يقال "الدولة - الأمة"، تعتبر أنها لا تمتد في أرجاء العالم فقط نفوذاً، بل كذلك سيادة. فالجوانب العسكرية والاستراتيجية، أي قضايا الحرب والسلام، هي أفعال سيادة بامتياز، ومن يقبل على الحسم في شأنها برسم العالم بأسره، إنما هو كمن يعلن سيادته على العالم بأسره. وذلك ما قد يكون من أشنع انحرافات العولمة، واعداً بكوارث مدمرة وبشرور مستطيرة.