كان المرحوم خالد بكداش زعيماً للحزب الشيوعي السوري في العام 1958، حينما قرر عدد من الفصائل السياسية أن بناء الدولة القطرية السورية يتهددها الخطر من الداخل والخارج، وأن أفضل السبل لحماية سورية من الأخطار هو الوحدة مع مصر. وشجع تلك الفصائل أن الوحدة العربية كانت أملاً يداعب الخيال السوري السياسي منذ أواخر القرن التاسع عشر. كذلك اختارت هذه الفصائل السورية مصر بالذات للتوحد معها، لا فقط لأنها أكبر الأقطار العربية، ولكن أهم من ذلك لأن نجم زعيمها جمال عبد الناصر كان في أوج ارتفاعه، بعد انتصاراته في معركة السويس ومعركة الأحلاف الغربية، التي أرادت القوى العربية المحافظة، في العراق والأردن ولبنان والسعودية في ذلك الوقت، أن تجر سورية إليها. المهم وقِّع اتفاق "الوحدة الاندماجية" بين مصر وسورية، في شباط فبراير 1958" ولكن بشروط عبد الناصر. وكان أحد هذه الشروط هو أن تحل الأحزاب السورية نفسها، لكي يصبح الكيان الجديد، وهو الجمهورية العربية المتحدة، بلا أحزاب، وبلا تعددية سياسية. وبالأحرى لا يكون في الجمهورية العربية المتحدة إلا تنظيم سياسي واحد، وهو "الاتحاد القومي"، تنضوي تحته كل القوى السياسية، ويترأسه الزعيم جمال عبد الناصر. هذه هي الصيغة التي أطلق عليها علماء السياسة والاجتماع الصيغة "الشعبوية" Populism، وهو تعبير مهذب للصيغة الفاشية نفسها التي عرفتها ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وإسبانيا الفرانكوية، والبرتغال السلازارية في ثلاثينات القرن العشرين. كما عرفتها الأرجنتين في ظل حكم الزعيم بيرون، باسم البيرونية. المهم في موضوعنا هو أن الحزب الشيوعي السوري بزعامة خالد بكداش رفض هذه الصيغة، ورفض أن يحل نفسه. فأمر الرئيس الجديد للجمهورية العربية المتحدة، جمال عبد الناصر، بإلقاء القبض على خالد بكداش، وقيادات الحزب الشيوعي السوري. ففرّ هذا الأخير من دمشق، ولم يجد من يختبئ لديه غير قبيلته الكردية في شمال غربي سورية، إذ ساعدته على الفرار عبر المناطق الكردية المتاخمة، في كل من العراق وتركيا وروسيا ، إلى موسكو. إننا نبدأ هذه الحلقة في هذه السلسلة عن المجتمع المدني في الوطن العربي بهذه الواقعة التاريخية المعروفة للمعاصرين لها، لا لأن خالد بكداش، أو حزبه الشيوعي السوري، كان أكثر إيمانا بالتعددية أو بالمجتمع المدني من جمال عبد الناصر. فالشاهد أن الماركسية الكلاسيكية، والماركسيين العرب من جيل خالد بكداش لا يوجد إيمان لديهم بقيم وممارسات المجتمع المدني أو الديموقراطية الليبرالية التي هي الوجه الآخر للمجتمع المدني. ولكن الواقعة هي نموذج للعلاقة التناقضية بين الدولة السلطوية والمجتمع المدني وكان جمال عبد الناصر هو النموذج الدرامي للدولة السلطوية. وحينما مارست هذه الدولة سطوتها على مواطن فرد مثل خالد بكداش، لم يكن أمام هذا الأخير من حماية في مواجهة الدولة السلطوية المستبدة، إلا قنوات محدودة. من قنوات الحماية هذه منظمات المجتمع المدني- مثل الحزب والنقابة والجمعية، ومنظمات حقوق الإنسان. ولكن الدولة السلطوية كانت حاصرت هذه المنظمات في مصر الناصرية، وسورية الجمهورية العربية المتحدة. فلم يبق أمام المواطن خالد بكداش إلا عائلته وعشيرته وقبيلته، يحتمي فيها من بطش الدولة السلطوية، بعد أن تم الأمر بحل حزبه ومطاردته. والمفارقة في لجوء خالد بكداش الى عائلته وعشيرته وقبيلته أنه بذلك كان يناقض مقولة ماركسية كلاسيكية تعتبر "العشائرية" و"القبلية" صوراً متخلفة للتنظيم الاجتماعي، مثلما العبودية قبلها، والإقطاع والرأسمالية بعدها. فبالنسبة إلى خالد بكداش، وغيره من الماركسيين العرب، فإن "الطبقة" هي التنظيم الاجتماعي الحديث، والذي يعتمد عليه في أي تحليل اجتماعي علمي، وأكثر من ذلك فإن الطبقة، وخصوصاً البروليتاريا العاملة هي أساس الحركة الاجتماعية الثورية، التي ستنهي الرأسمالية البرجوازية في ثورة دموية حمراء" لتحل محلها الاشتراكية، ثم الشيوعية الحديثة. وعلى رغم الهجوم على الجماعات القرابية مثل الأسرة، والعشيرة، والقبيلة فإنه حينما ضاقت الدائرة على خالد بكداش، ولم يجد حامياً أو نصيراً فإنه لجأ إلى هذه الجماعات القرابية لتحميه في مواجهة تعسف وبطش الدولة. إن العلاقة بين الدولة والجماعة القرابية هي علاقة معقدة تقوم على اقتسام ولاء الفرد. والتحدي هو الموازنة والتوازن في تقسيم هذا الولاء. فالأسرة أو الجماعة القرابية هي البداية، وهي النهاية في حياة الأفراد. فالفرد يولد في أسرة، وهي التي ترعاه وتحميه وتعلمه في طفولته. ولكن الدولة تبدأ في اقتسام تنشئته مع مراحل التعليم النظامي الحديث، ثم الخدمة العسكرية، ثم بتوفير ظروف العمل والسكن والخدمات الأخرى، وتتوقع منه في مقابل ذلك، أن يطيع قوانينها، ويدفع ضرائبها، ويشارك في أمورها العامة. ولكن الفرد بعد تقاعده يعود مرة أخرى عودة كاملة إلى الأسرة، ليقضي في رعايتها وحمايتها المرحلة الأخيرة من عمره، أي مرحلة الشيخوخة إلى رحيله. ولكن حتى في المرحلة الوسيطة - بين الطفولة والشيخوخة - وهي المرحلة التي تلعب فيها الدولة دوراً متزايداً في حياة الأفراد، وتتقاسم مع الأسرة أو الجماعة القرابية الأكبر مثل العشيرة والقبيلة جزءاً من اهتمام ونشاط وولاء هؤلاء الأفراد. لذلك فإن أحد تعريفات المجتمع المدني هو "شبكة التفاعلات والتنظيمات التي توجد بين الأسرة والدولة". وهذا الفضاء أو المجال بين الأسرة والدولة هو الذي أطلقنا عليه في بداية هذه السلسلة "فضاء الحرية". وهو فعلاً الفضاء الحر الوحيد الذي يدخله الفرد ويخرج منه بملء إرادته وحريته" وذلك بعكس عضويته في الأسرة التي يولد فيها، ولا رأي له في ذلك. بل ولا رأي له في ما تورثه له الأسرة - مثل ديانته ولغته، وطبقته، وتعليمه، في المراحل الأولى. كذلك فإن المجتمع المدني كشبكة من التفاعلات والعلاقات والتنظيمات هي الفضاء الحر الوحيد الذي يدخله الفرد ويخرج منه بملء إرادته وحريته، وذلك بعكس الدولة. "فمواطنة" أو "رعوية" دولة ما لا تتم بإرادة الأفراد. فمثلها مثل الأسرة، يولد الفرد فيها، أو تفرض عليه فرضاً. طبعاً نحن لا نتحدث هنا عن اكتساب مواطنة دولة أخرى غير التي ولد فيها الفرد بالاختيار. وهذا نمط أو ممارسة حديثة نسبياً في الخبرة البشرية، ويمكن أن يكتسبها الفرد بالهجرة والتقدم بطلب جنسية إلى دولة المهجر. وهكذا، فإن المجتمع المدني هو مجال الحرية الوحيد المفتوح أمام الفرد للتفاعل والمبادرة الطليقة. ويمكن بالطبع للدولة والأسرة ألا تتركا أي فضاء للحرية أمام الفرد على الإطلاق، أو تقوما بضغط هذا الفضاء أو المجال إلى أضيق الحدود. ويحدث ذلك بالاستحواذ على وقت الفرد أو تحجيم حريته. ويمكن لكل من الدولة والأسرة أن تفعل ذلك. كما يمكن لأي منهما وحده أن يفعل ذلك. ومن هنا، وعودة إلى رواية جورج أورويل "1984"، فإن نظام الدولة الشمولية يتدخل في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الفرد. فالنظام الشمولي يحاول أن يحدد لهذا الفرد مجال حركته، ونوع تعليمه، ومهنته، أو وظيفته، وقراءاته، وهواياته ونمط استهلاكه. بل ويصوغ له وعيه وتفكيره ومحتوى ضميره، بكل ضوابطه الداخلية. إنه "الأخ الأكبر" Big Brother الذي يراقب الفرد في كل حركاته وسكناته. أي أن الدولة الشمولية في رواية جورج أورويل لا تكتفي بابتلاع "فضاء الحرية"، الذي اصطلحنا على أنه المجتمع المدني، ولكنها أيضاً تبتلع دور الأسرة أو أوثق الجماعات القرابية ألفة إلى وجدان الفرد. إن هذه النزعة إلى الاستئثار أو الاستحواذ على جزء من فضاء الحرية أو كل هذا الفضاء حول الفرد بواسطة الدولة أو الأسرة، لا يمكن أن تنجح نجاحاً تاماً. وهذا لحسن الحظ. فيظل هناك هامش لا يمكن للأسرة أن تملأه، مهما كان حبها وعطفها وقدرتها على اجتذاب الفرد وتشكيل وجدانه. والشيء نفسه يصدق على الدولة. فمهما كانت سطوتها وجبروتها وكفايتها في غسيل الدماغ أو مراقبة حركة الفرد وهمساته، فسيظل هناك هامش للحرية، مهما كان ضئيلاً، أمام الفرد يمكن له أن يفكر، وأن يشعر، وأن يتحرك فيه. وهذه الهوامش على رغم ضآلتها، هي التي مكّنت حركات التغيير والتطوير والتنوير في الحياة الإنسانية. إن فضاء أو مجال الحرية حول الفرد -إذاً - هو ساحة للتنافس بين الدولة والأسرة والمجتمع المدني. وإذا كانت الأسرة هي رمز الحب والحنان، وهي الأقرب إلى قلب ووجدان الفرد، بحكم النشأة والرعاية والذكريات المبكرة، وإذا كانت الدولة هي رمز السلطة، وتوحي له بالحماية والأمان، وبالتالي فمن مصلحته أن يحترمها أو يخافها وأن يلتزم بقوانينها، فإن منظمات المجتمع المدني فيها شيء من الأسرة، وشيء من الدولة. فيها من الأسرة بقدر ما تقدم للفرد من الألفة والرعاية. وفيها من الدولة بقدر ما تقدم للفرد من المصلحة والحماية. إن ألفة ورعاية منظمات المجتمع المدني قد لا تكون بالعمق والحنان الذي توفره الأسرة والجماعة القرابية. وكذلك فإن المصلحة والحماية التي تقدمها منظمات المجتمع المدني قد لا تكون بالإحاطة والوفرة التي توفرها الدولة، ومؤسساتها. ولكن لأن فيها شيئا من هذا وذاك، وأهم من هذا وذاك أنها الوحيدة التي توفر فضاء للحرية، فإن منظمات المجتمع المدني، على رغم جدتها وهشاشتها، لها ما لها قدر من الجاذبية، وميزات التنافسية في مواجهة مع الأسرة أو الجماعة القرابية من ناحية" وفي مواجهة الدولة والمؤسسات الحكومية من ناحية أخرى. إن منظمات المجتمع المدني متنوعة، وليست على الدرجة نفسها من التبلور، أو القوة، أو الاستمرار. وهي تبدأ من جماعات اللعب والأصدقاء خارج الأسرة. وتمر بالفرق الرياضية في الحي، وجماعات الهوايات في المدرسة، والعضوية في الأندية الرياضية والثقافية، والجمعيات التطوعية في المجتمع المحلي، إلى النقابات والاتحادات المهنية، إلى الأحزاب السياسية. وتتدرج منظمات المجتمع المدني من حيث قربها أو بعدها من الأسرة، ومن حيث اقترابها أو ابتعادها من الدولة. فجماعات اللعب والأصدقاء والهوايات والجمعيات التطوعية في الحي السكني أو المجتمع المحلي هي الأقرب إلى الأسرة والجماعات القرابية، لجهة المسافة المادية أو الطبيعة الوظيفية للنشاط. إنها امتداد مجازي للأسرة بمعنى من المعاني. وتكون الأسرة عادة على معرفة بالكثير من الأعضاء الآخرين ونوعية النشاط في هذا النوع من منظمات المجتمع المدني. بل وقد تشجع الأسرة عليه، ولا تشعر أنه يتنافس معها تنافساً عدائياً على قلب ووجدان أبنائها، وتعبر عن هواجسها أن يكون ما يقضيه من وقت أو يبذله من جهد في هذه المنظمات على حساب واجباته الأسرية أو المدرسية. كذلك لا تشعر الدولة بانزعاج كبير من هذا النوع من منظمات المجتمع المدني أي جماعات اللعب والأصدقاء والهوايات. وبالعكس تشجع عليه ما دام يتم تحت رقابتها، وتجد فيها امتداداً لأجهزة الأمن والضبط الاجتماعي، حيث تحول أنشطة هذا النوع من منظمات المجتمع المدني بين الفرد والانحرافات أو السلوكيات الإجرامية. ولكن يبدأ الشعور بالمنافسة، أو حتى الصراع مع نوع آخر من منظمات المجتمع المدني، الأقرب إلى المنطقة الحيوية لنشاط الدولة، وهو ما يعرف بجماعات "الدعوة" Advocacy Groups أو "المصالح" Interest Groups أو "السعي مشاركة في السلطة" Power-Sharing Groups. فهذا النوع من منظمات المجتمع المدني يقوم في الواقع بمهام رقابية ووظائف نقدية تجاه الدولة. وأكثر من ذلك يسعى بعضها مثل الأحزاب إلى الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها. ويصبح هذا النوع من منظمات المجتمع المدني معرضاً للاصطدام بالدولة، بدرجة أو بأخرى. وقد يتعرض أعضاء منظمات المجتمع المدني هذه، مثل منظمات حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين، لأخطار الاعتقال والسجن، أو حتى الاعتداء الجسماني والاغتيال. وهنا ليست الدولة وحدها التي تمارس الضغوط على أعضاء هذا النوع من منظمات المجتمع المدني، ولكن تدخل الأسرة والجماعات القرابية أيضا في ممارسة الضغوط على أبنائها المنضوين في هذا النوع من منظمات المجتمع المدني، لا حباً في الدولة أو دعماً لممارساتها بالضرورة، ولكن حرصاً على سلامة أو حياة أبنائها. فمهما كانت درجة تأييدها وتعاطفها مع ما يحاوله هؤلاء الأبناء من إصلاحات أو تغييرات في النظام الاجتماعي- السياسي- الاقتصادي- الثقافي القائم، إلا أن سلامة أبنائها ورفاهيتهم تظل هي الأولوية الأعظم من جانب الجماعات القرابية. وكثيراً ما يشعر أعضاء منظمات المجتمع المدني هذه بالصراع الداخلي بين نزعات التهدئة أو المهادنة أو حتى الانسحاب، وهو ما تريده الأسرة والجماعة القرابية حفاظاً على أمن وسلامة وحياة الأبناء" ونزعات المواجهة والصدام والصمود والمقاومة وهو ما يريده ويحض عليه الزملاء والرفاق في منظمات المجتمع المدني إعلاء لقيم النضال وإيماناً بالقضية، مهما كانت التضحيات. وهنا يأخذ الصرع أبعاداً درامية، لا في الواقع الاجتماعي-السياسي فقط، ولكن على المستوى النفسي والوجداني أيضاً. وهناك تراث أدبي روائي عربي وعالمي حول هذه الدراما الاجتماعية - السياسية من جانب وتداعياتها النفسية - الوجدانية من جانب آخر. وطبعاً، هذا الصراع المثلث بين المجتمع المدني والأسرة والدولة، يشتد أكثر ما يكون في بلدان العالم الثالث، التي لم تستقر فيها قواعد الاشتباك، ولم تتبلور فيها قوانين إدارة الصراع بعد. من ذلك معرفة الخطوط "الحمر"، من تلك "الخضر"، وأهم من ذلك لحظة تغيير الألوان - من "أخضر" إلى "برتقالي" أو "أصفر"!! وهذا هو حالنا في معظم أقطار الوطن العربي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * كاتب مصري. والنص مقالة رابعة في متابعاته مفهوم "المجتمع المدني" في العالم العربي اليوم.