منذ رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد، وولاية نجله بشار الأسد لرئاسة الدولة السورية، والوطن العربي يتابع باهتمام إرهاصات التغير والتغيير في هذا البلد العربي العريق. فقد حُجبت تفاعلات القوى الاجتماعية السورية، وتعبيراتها الثقافية، وتحركاتها السياسية عن بقية أبناء الأمة العربية طويلاً. وكان هذا الغياب السوري فكرياً وسياسياً بسبب تأميم الفكر والسياسة في هذا البلد العربي بواسطة الحزب الواحد، والزعيم الواحد. وبمرور السنوات، لم يعد هناك فكر ولا سياسة. أصبح هناك فقط "إدارة" للدولة والمجتمع في سورية. ولم يكن ذلك لأن سورية توقفت عن "الحمل" الفكري والسياسي، ولكن لأن هذا الحمل كان في الغالب "يجهض"" أو لم نكن نحن في بقية أرجاء الوطن العربي نسمع "بولادته". وإذا كان ثمة "إنجاب" سوري على الإطلاق، فقد كان يتم خارج الأرض السورية، أي في أنحاء أخرى من الوطن العربي، أو عادة خارج الوطن العربي كله. على أي الأحوال، إن حال سورية، هي حال عربية عامة. فحيث نشأت أنظمة "شعبوية" "سلطوية"، طرحت شعارات جماهيرية جذابة، ومنها تأميم "الثروة" لمصلحة قوى الشعب العاملة، فإنها أيضاً قامت بتأميم كل شيء آخر، بما في ذلك الفكر والثقافة والسياسة. ويحمد للرئيس السوري الجديد بشار الأسد أنه حاول، ولا يزال، تأسيس شرعيته على قواعد جديدة، تتيح فضاءً أرحب لتفاعل قوى المجتمع السوري، فوق الأرض وليس تحت الأرض، في "علانية" وليس سراً، وداخل الحدود وليس خارجها، حيث يكون اتجاهها سوري المولد، وليس مزدوج الجنسية. لقد تابعنا البداية وهي بيان التسعة وتسعين، الذي دعا فيه المثقفون والسياسيون السوريون في خريف 2000 إلى فضاء حرية أرحب، وإلى احترام أكبر لحقوق الإنسان، ولتعددية سياسية أوسع. وتابعنا ولادة منتديات المجتمع المدني، التي تكاثرت كمتوالية هندسية، حتى أصبحت بالمئات خلال شهور قليلة. وسعدنا برؤية مثقفين سوريين مخضرمين يدلون بدلوهم في سجالات المجتمع المدني من طراز صادق جلال العظم، والطيب تيزيني، وميشيل كيلو. ولكن، كانت سعادتنا أكبر بالتعرف من خلال وسائل الإعلام العربية على وجوه سورية جديدة بالنسبة إلينا خارج الوطن السوري - من أمثال النواب رياض سيف، وعبدالله الموصلي، ومحمد مأمون الحمصي - والتعرف على أكاديميين نشطين في حوارات المجتمع المدني السوري من أمثال الدكتور عارف دليلة، والدكتور وليد البني، وهشام الدجاني، ومحمد جمال باروت، وغيرهم. إن هذه الكوكبة - سواء بمخضرميها أو مستجديها - تبشر بعودة سورية إلى طليعة الحياة الفكرية العربية عموماً وإلى إنعاش ممارسات المجتمع المدني العربي بشكل خاص. وقد حبسنا أنفاسنا، كدعاة للمجتمع المدني والدويمقراطية، توقعاً لأن تنقضّ قوى الحرس الشمولي القديم على "الأجنة" الجديدة، لتجهضها. فقد كنا قد رأينا ذلك في بلدان عربية أخرى في السنوات الأخيرة: حيث كان يسمح "لألف زهرة"، أن تتفتح، ثم سرعان ما ينقض عليها الحرس الشمولي القديم. ويكون الانقضاض دائماً تحت ستار واحد، وبالحيثيات نفسها، وبالكلمات نفسها. تقول رسالة الانقضاض عادة: "لقد تجاوزتم الخطوط الحمر، وبدأتم تهددون الأمن القومي الخارجي والسلام الاجتماعي الداخلي للبلاد. وهناك أيد أجنبية وأموال أجنبية لاختراق دولتنا ومجتمعنا، ولن نسمح للمغرضين منكم أن يستغلوا كرم النظام الجديد. إننا سنفعل كل ما هو مطلوب، ولكن تدريجاً وبما لا يخل بالأمن القومي أو السلام الداخلي، فعودوا إلى جحوركم قبل أن تفتك بكم جماهير شعبنا، التي لن تتحمل عبثكم". تلكم هي الرسالة التي توقعناها. وهي التي بدأت تتردد بالفعل على لسان مسؤولين سوريين كبار، من شهر شباط فبراير 2001، أي قبل أن يدخل "الحمل" و"الجنين" شهرهما التاسع. فهل سيحدث إجهاض آخر لأجنة المجتمع المدني السوري؟ هذا هو السؤال. إن للمجتمع المدني في سورية، كما في لبنان ومصر والعراق والمغرب وتونس، جذوراً تقليدية تعود إلى ما قبل النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر. فمنذ القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثامن عشر، كان هناك تنظيمات عربية - إسلامية ينطبق عليها شروط ما اصطلحنا عليه في هذه السلسلة من المقالات باسم مؤسسات المجتمع المدني، من حيث إنها مستقلة نسبياً عن السلطة والسلطان. من ذلك الأوقاف والحبوس، والتنظيمات الحرفية، والطرق الصوفية. فقد كان المنضوون تحت ظل هذه التنظيمات يتمتعون بقدر أوسع من الحرية والاستقلالية. وكانت عضويتهم في هذه المؤسسات تضفي عليهم نوعاً من الحماية الجماعية، مثلما كانت الطوائف والقبائل والعشائر، وهي منظمات "إرثية" "قرابية"، تضفي على أبنائها. وعلى رغم تآكل هذه المؤسسات التقليدية للمجتمع المدني في سورية مع التحديث إلا أنها لم تختف تماماً، وتظل رافداً تقليدياً للمجتمع المدني حتى بمعناه الحديث والمستحدث. لكن للمجتمع بمعناه الحديث مؤسسات وتنظيمات حديثة تعود بدايتها في سورية، كما في بلدان الحزام الشمالي للوطن العربي، إلى القرن التاسع عشر. وقد كانت البذور الجنينية لتنظيمات المجتمع المدني في بلاد الشام هي الجمعيات والأندية والمنتديات التي قامت على أكتاف أبناء الطبقة الوسطى الجديدة. وكان هؤلاء في معظمهم ممن تلقوا تعليماً عصرياً، أو تعرضوا لتأثيرات أوروبية مباشرة أو غير مباشرة. كما كان أعضاء هذه الجمعيات من أبناء الأعيان، مثل كبار التجار، رؤساء القبائل والعشائر، وعلماء الدين، وكبار ملاك الأراضي. أي أن الجمعيات والأندية التي أنشئت في أواخر الحقبة العثمانية كانت منظمات مجتمع مدني حديثة، لكنها تستمد جذورها من تكوينات جيل آباء أعضائها، من التكوينات الاجتماعية التقليدية. وقد نشأت هذه التنظيمات المدنية في البداية، إما كامتدادات لمثيلتها في الإمبراطورية العثمانية التي كانت تبتغي إصلاح أحوال "رجل أوروبا المريض" - مثل "تركيا الفتاة"، أو كرؤوس جسور وامتدادات لجمعيات عربية قحة، مناوئة أو متمردة على السلطة العثمانية - مثل جمعيات "العهد"، و"القحطانية"، و"العربية الفتاة". ولكن، ظلت هذه البدايات الجنينية للمجتمع المدني الحديث في سورية الكبرى تمثل شريحة رقيقة للغاية، لم تستطع أن تجبر السلطان العثماني على المشاركة في السلطة، أو حتى اعتماد الإصلاحات السياسية والمؤسسية نفسها التي اعتمدها في الجزء التركي من الإمبراطورية. وكان من أسباب ضعف المجتمع المدني الحديث في سورية هو محليته المغرقة. فقد كان الأساس في هذه التنظيمات هو المدن المنفصلة عن بعضها البعض مثل دمشق، حلب، حماه. وعلى رغم ضعف هذه التكوينات المدنية الحديثة إلا أنها كانت ذات تأثير معقول حين وجدت دعماً وتأييداً عربياً أو دولياً من خارج سورية. ولعل المثال الواضح لذلك كان دورها في التمهيد للثورة العربية الكبرى، بقيادة الشريف حسين، ضد السلطة العثمانية. ورغم نجاح تلك الثورة في إسقاط الحكم العثماني واقتلاعه، إلا أن مؤسسات المجتمع المدني السورية وقريناتها في المشرق، لم تستط أن تحول ذلك الانتصار إلى إنجازات استقلالية حقيقية. وكان التواطؤ المعروف بين بريطانيا وفرنسا، في ما سمي بعد ذلك باتفاقية "سايكس - بيكو"، التي اقتسما بمقتضاها بلدان المشرق ووضعاها تحت الحماية الفرنسية سورية ولبنان والإنكليزية فلسطين، وشرق الأردن، والعراق. وظل هذا الضعف البنيوي ملازماً لمنظمات المجتمع المدني السوري خلال النضال من أجل الاستقلال، وصبيحة الاستقلال. فكثيراً ما كانت تلجأ التكوينات المدنية الحديثة - من نقابات وأندية وأحزاب - إلى دعم التكوينات التقليدية الإرثية مثل القبائل والعشائر والأعيان في أي مواجهات سياسية. لذلك كان من السهل نسبياً لتنظيم حديث لكنه غير مدني، مثل الجيش، أن يسيطر بسهولة نسبية على مقدرات الدولة والمجتمع في سورية منذ نهاية الأربعينات. وتوالت الانقلابات العسكرية بمعدل انقلاب كل سنتين، إلى أن استطاع حافظ الأسد أن يضع نهاية لهذا المسلسل الانقلابي. وشهدت سورية استمراراً غير مسبوق في نظام الحكم البعثي بزعامة الرئيس حافظ الأسد. وبقدر ما أعطى الرئيس حافظ الأسد لسورية استقراراً سياسياً لم تنعم به منذ الاستقلال، فقد كان جزءاً من الثمن هو تأميم العمل السياسي وتكميم المجتمع المدني السوري، على نحو ما نوهنا إليه من قبل. إن تركيزنا على سورية في هذه الحلقة الأخيرة من سلسلة مقالاتنا عن المجتمع المدني في الوطن العربي، هو لأنها تمثل حالاً نموذجية، نتوقع أن يكون لها تداعيات مماثلة في كل من العراق واليمن وليبيا. فهذه تتشابه مع سورية في طول عمر نظام الحزب الواحد، والزعيم الواحد في السلطة. ولهذا السبب تبلورت وقويت مفاهيم ومؤسسات الدولة، ولم يعد هناك خوف عليها لا من المؤسسات الإرثية التقليدية مثل القبائل والعشائر والملل والنحل، ولا من المؤسسات المدنية الحديثة. أغلب الظن أنه سيكون بين هذه التكوينات الإرثية التقليدية من ناحية، وتكوينات المجتمع المدني الحديثة من ناحية ثانية، ومؤسسات الدولة السورية من ناحية ثالثة توازن خلاق، حتى لو شابه بعض التوتر والعصبية في البداية. من ذلك، مثلاً، أنه بمجرد فتح الباب للتعددية الحزبية أن ينشأ على الفور ما بين عشرين وثلاثين حزباً . ولكن في غضون بضع سنوات، وبعد دورتين انتخابيتين للبرلمان أو المجالس المحلية، سيتقلص عدد هذه الأحزاب إلى أربعة أو خمسة على الأكثر. الشيء نفسه سيحدث إذا فتح الباب على الغارب لتكوين "الجمعيات" الأهلية أو المنظمات غير الحكومية. فستنشأ مئات إن لم يكن آلاف الجمعيات من كل نوع وشكل وغرض خيري، وثقافي، وعلمي، وتنموي، وبيئي، وخدمي، وشبابي، ونسائي، ومهني. لكنها لن تكون جميعاً بالقوة أو الحجم أو الكفاءة نفسها. وسيختفي معظمها خلال سنوات قليلة أو يتحول إلى جمعيات ورقية. إن هذا الاندفاع لتكوين الأحزاب والجمعيات سيكون رد فعل طبيعياً للحرية التنظيمية بعد أربعة عقود من الحرمان التنظيمي الحر. وهو ما رأيناه بالفعل في التكاثر الهائل لعدد المنتديات المدنية في الشهور الأربعة الأخيرة من عام 2000. ولكن، سرعان ما سيهدأ هذا الغليان التنظيمي، ويستقر في عدد معقول من الأحزاب والجمعيات. ولن يجد التخويف أو الترهيب الذي يحاوله الحرس القديم من حزب البعث والأجهزة الأمنية السورية في إجهاض كل المبادرات التنظيمية للمجتمع المدني في سورية. فالمجتمع المدني ليس فقط أشكالاً تنظيمية مثل الأحزاب والجمعيات والنقابات والأندية. أهم من ذلك هو رغبات السوريين العارمة في أن يلتقوا، ويتفاعلوا، ويتحدثوا ويشاركوا في الحوار العام حول حاضر سورية ومستقبلها. فإذا لم تسمح لهم القوى المهيمنة من الحرس القديم بقنوات شرعية رسمية وعلنية، فإن السوريين الذين تنسموا هواء الحرية في الشهور العشرة الماضية سيخلقون قنواتهم غير الرسمية في المقاهي والمُضايفات والمزارات والمآتم والأفراح لكي يقوموا بهذا التواصل. إن المجتمع المدني السوري أصبح حقيقة لا ريب فيها. لقد بدأ كما تبدأ كل الظواهر الاجتماعية "كفكرة" في عقول السوريين وقلوبهم ووجدانهم. وفي ذلك فإن عقل وقلب ووجدان الشعب السوري يبدو على تواصل مباشر مع عقل وقلب ووجدان بشار الأسد أكثر مما هو مع الحرس القديم. إن عودة المجتمع المدني السوري للحياة هو الذي سيجنب سورية أي تقلصات اجتماعية أو طائفية أو عرقية حادة. فمن طبائع المجتمع المدني ألا يتستر على مشكلاته. وأهم من ذلك أن يواجه هذه المشكلات ويعالجها أو يديرها بشكل سلمي. ولأن سورية تزخر بالتنوع العرقي والديني والطائفي فإن تنظيمات وممارسات المجتمع المدني هي الصيغة المثلى لإدارة هذا التنوع أو هذه التعددية الاجتماعية. هذا فضلاً عن أن تنظيمات المجتمع المدني هي تنظيمات أفقية تشمل في عضويتها خليطاً من ذوي الخلفيات الإرثية المتنوعة. فنقابة الأطباء أو المعلمين مثلاً تضم في عضويتها كل من تعلموا الطب أو التربية، ومن يمارسون الطب أو التربية، بصرف النظر عن خلفياتهم الجهوية مثل حلب، أو اللاذقية، أو دمشق، وبصرف النظر عن خلفياتهم الطائفية سني، شيعي، علوي، درزي، مسيحي، أو يهودي. فضلاً عن أن انتعاش المجتمع المدني في سورية سيكون حافزاً على عودة الطيور السورية المهاجرة إلى الشمال والجنوب. ونقصد بذلك فئتين تحديداً، وهما البورجوازية والانتيلجنسيا السورية التي هجرت سورية أو هجّرت منها خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين. ويقدر عدد هاتين الفئتين بحوالي ثلاثة ملايين سوري - موزعين بين لبنان والخليج وأوروبا والأميركتين. والبورجوازية السورية، خصوصاً فرعها الحلبي، من أنشط وأذكى البرجوازيات العربية على الإطلاق. وعودتها الفعلية إلى سورية، ولو بشكل جزئي، سيعني أكثر من انتعاش الاقتصاد. انه سيكون مؤشراً على الإحساس بالأمان. وفي أدبيات العلوم الاجتماعية هناك من يقولون أن المجتمع المدني هو أساساً مجتمع تجار. والتجار هم الذين يشيعون "الثقة" في النظام الحاكم أو ينزعونها عنه. وبالمنطق نفسه فإن الانتيلجنسيا هي التي تضفي "الشرعية" على أي نظام حاكم أو تسحبها منه. وبعودة الثقة والشرعية إلى النظام السوري، من خلال عودة الطيور المهاجرة، تكون سورية مهيأة للعب دور إقليمياً رائداً، لا بالمؤامرات أو الإرهاب، ولكن بأن تصبح المجتمع النموذج في المشرق العربي. وإذا كان لسورية أن تلعب دوراً إقليمياً رائداً، خصوصاً في قضية الوحدة العربية، التي كانت دائماً أعز القضايا إلى قلب الشعب السوري، فإن هذا الدور لن يصدقه أو يتجاوب معه أحد خارج سورية إلا إذا كان عماد هذه الدعوة الوحدوية هو مجتمع مدني سوري ديموقراطي، يتواصل في هذا الصدد مع مجتمعات مدنية ديموقراطية أخرى، خصوصاً في المشرق العربي. وحديث أي وحدة عربية مستقبلية لا بد من أن يكون حديث الديموقراطية. وهنا يكمن موقع وموضع سورية الحقيقيين. فالفضاء السوري الحقيقي لا بد أن يكون فضاءً عربياً، ولا بد أن يكون فضاءً ديموقراطياً. أقول قولي هذا وأدعو الله أن يغفر لي وللأشقاء السوريين أجمعين. * كاتب مصري. والنص مقالة خامسة أخيرة في متابعاته مفهوم "المجتمع المدني" في العالم العربي اليوم.