طغت أوضاع الأقباط ومكانتهم في إطار الجماعة الوطنية المصرية على الجدل الثقافي والسياسي في مصر طوال الشهر الفائت، وهو ما فتح الباب أمام مراجعة فكرية شاملة لمفهوم المواطنة ذاته. تصاعد الاهتمام بالموضوع ضمن حملة مكثفة في الاعلام المصري استهدفت الإجهاض المبكر لما اعتبر تدخلاً أميركياً في الشؤون المصرية عبر زيارة تقصي الحقائق التي قامت بها اللجنة الاميركية للحريات الدينية في مصر. لم تفت الدلالة السياسية لتوقيت الزيارة على المراقبين، فهي أتت "بالمصادفة" كما أعلن الطرف الاميركي - في أعقاب صدور أحكام قضائية في قضية "الكشح" التي راح ضحيتها عدد من الاقباط - وهي الاحكام التي اعتبرها البعض مخففة وغير ملائمة، كما جاءت قبيل زيارة الرئيس مبارك للولايات المتحدة، والتي تلاها مباشرة - وبالمصادفة ايضاً - زيارة رئيس لجنة الأممالمتحدة للتدخل الانساني وسيادة الدول، الى مصر! وكانت اللجنة الاميركية استُقبلت بحال من الرفض والغضب، ليس على المستوى الرسمي فقط، بل وعلى المستوى الاسلامي والقبطي أيضاً، لدرجة أن شيخ الازهر احتد على اعضائها قائلاً: "من جاءنا ليتعلم منا فمرحباً به، وأما من أراد أن يفرض علينا رأىاً معيناً فنحن نرفض ذلك"، وكتب سلسلة من المقالات في جريدة "الاهرام" توضح "المدى الواسع للحريات الدينية للاقليات في ظل الشريعة الاسلامية". أما الاقباط فرفضوا لقاء اللجنة في البداية، إلا أن البابا شنودة الثالث عاد ووافق على الالتقاء بها لمبرر واحد هو أن تحصل على المعلومات الصحيحة من مصدرها الصحيح، وبادر بتوجيه رسالة الى ابنائه من الاقباط في المهجر الاميركي حثهم فيها على حُسن استقبال الرئيس مبارك بعد أن رصد التحسن الملحوظ في أوضاع الاقباط خلال سنوات حكمه وبخاصة في ما يتعلق ببناء وترميم الكنائس، كما شدد على عدم مسؤولية الرئاسة او الحكومة عن أحكام "الكشح" التي صدرت عن القضاء المستقل، واشاد بقرار النائب العام تحويل القضية الى محكمة أعلى هي محكمة النقض لإعادة الحكم فيها. ولكن الجدل لم يلبث أن تطور الى نقاش فكري حول الأسس الثقافية للمسألة، وذلك اثناء الندوة التي نظمتها اللجنة الوطنية المصرية لليونيسكو 1-2 نيسان ابريل والتي تحولت عن موضوعها الاصلي "استراتيجية الثقافة العربية" لتصبح منبراً وجه من خلاله مسؤولون في وزارة الثقافة ومثقفون مستقلون أعنف نقد للتقارير الثقافية الدولية التي تصدر عن اليونيسكو بسبب ترويجها لمفهوم "التعددية الثقافية" الذي يقدم التبرير الفكري لمبدأ سياسي هو "حق التدخل الدولي"، وهو المبدأ الذي يمكن إثارته ليس فقط بالنسبة الى الاقباط أو النوبيين في مصر بل والاكراد في العراق والمسيحيين الافارقة في جنوب السودان والبربر في الجزائر، وخصوصاً أن تلك التقارير لا تقف عند حد تأكيد الحقوق الثقافية والدينية واللغوية لتلك الاقليات - وهو تأكيد إنساني مقبول - ولكنها تتجاوز ذلك الى دعوة واضحة وصريحة للحكم الذاتي، كما أكد الدكتور أحمد ابوزيد في بحثه أمام الندوة، وبديلاً من شعار "التعددية الثقافية" دعا الى إحياء الشعار الاصلي الذي كان تبلور في تقرير اليونيسكو الثقافي الأول العام 1998 وتجسد في عنوانه "التنوع الانساني المبدع" الذي يعني أن تصب كل التيارات والمذاهب في نهر الثقافة الوطنية بما يحقق الوحدة الثقافية والسياسية. كانت المشاركة القبطية في الندوة ذات دلالة وعبر عنها اثنان من أبرز الشخصيات المصرية والدولية أولهما الدكتورة ليلى تكلا الرئيس الاسبق لمجلس أوصياء حقوق الانسان في الأممالمتحدة والعضو العربي الوحيد في اللجنة العالمية للثقافة والتنمية التي شكتلها اليونيسكو ووضعت الأساس الفكري للتقارير الثقافية الدولية والتي وجهت هجوماً مضاداً اثناء اجتماع اللجنة الاميركية في وزارة الخارجية المصرية انطلاقاً من مقولة الانجيل: "قبل أن تخرج القشّة التي في عين أخيك، اخرج أولاً الخشبة التي في عينك" على اعتبار ان القشة التي في عين مصر هي "الكشح" أما الخشبة التي في عين اميركا فهي ذلك الدعم والتمويل الاميركي لتلك الجماعات المتطرفة التي توجه سهامها للمجتمع المصري بمسلميه واقباطه. وأما المشارك القبطي الثاني كان الدكتور ميلاد حنا الذي حذر من تنامي ظاهرة الحروب الداخلية الصغيرة على أسس دينية أو لغوية أو عرقية، ودعا الى احياء مبدأ "التعايش الثقافي" الذي يعد القانون الاساسي للتاريخ الثقافي العربي الذي تتالت عليه الأديان السماوية الثلاثة من دون أن ينفي التالي منها السابق، وللتاريخ الثقافي المصري ايضاً الذي تتالت عليه رقائق حضارية متكاملة: الفرعونية ثم اليونانية الرومانية ثم القبطية المسيحية واخيراً الاسلام. وانتقدت الدكتورة هالة مصطفى الاهرام 4/4 المنطق الاميركي لتجاهله الخصوصية التاريخية والثقافية لمجتمعات العالم الثالث التي تمر بمراحل انتقالية، من مجتمعات زراعية تقليدية الى مجتمعات صناعية حديثة ما يجعلها تفتقر بالطبع لتلك المنظومة الثقافية التي وصل اليها الغرب الحديث بعد قرون طويلة تعرض خلالها لصراعات اجتماعية وثقافية حادة وعنيفة. وفي حدس ثقافي لافت للنظر، كان السيد ياسين، وقبل إثارة الموضوع في الرأي العام، خصص سلسلة من المقالات الاهرام من 22/2 الى 26/4 لتناول تطور مفهوم "المواطنة" في التاريخ الثقافي والسياسي المصري الحديث باعتباره الجذر الفكري للعديد من المشكلات المثارة حول أوضاع الاقباط والحقوق السياسية للمواطن المصري عموماً والتدخل الاجنبي بخصوص حقوق الانسان والحقوق الدينية للأقلية القبطية. ويبدو أن خصوصية وضع الاقباط في مصر كانت وراء شدة توترهم إزاء مفهوم "المواطنة المصرية" وهو ما يفسر ان أوضح الاجتهادات المعاصرة حول الموضوع جاءت من ناحيتهم، حيث استدعى ياسين في مقالاته أطروحات المؤرخ القبطي الراحل وليم سليمان قلادة الذي وصفه بأنه فقيه المواطنة في الفكر المصري المعاصر والذي ارتبط مفهوم المواطنة عنده بوعي الفرد بكونه أصيلاً - لا طارئاً - في مجتمعه، متمتعاً بالحقوق والواجبات كافة ومشاركاً في حكم وطنه وليس مجرد فرد مقيم مجبر على الانصياع لأوامر صادرة من أعلى لا دور له في صوغها. أما المفكر المصري القبطي الآخر فهو سمير مرقص الذي يميز بين خمس مراحل لتطور مفهوم المواطنة في مصر: الأولى مرحلة "بزوغ المواطنة" وإقرارها من أعلى محمد علي، والثانية مرحلة تبلور المواطنة والالتفاف الشعبي تحت شعار وحدة عنصري الأمة ثورة 1919 والمرحلة الثالثة هي "المواطنة المبتسرة" التي ركزت على الحقوق الاجتماعية من دون السياسية للمواطن ثورة تموز - يوليو 1952. أما المرحلة الرابعة فهي مرحلة "تغييب المواطنة" ويقصد بها التحول عن المفهوم الحديث للمواطنة وربطها بدين معين الفترة الساداتية، واخيراً تأتي المرحلة الخامسة الاخيرة الراهنة ويسميها مرحلة "استعادة المواطنة" أي العودة الى المسار التاريخي الطبيعي "للمواطنة" بالمعنى الحديث التي يشارك فيها الجميع على اختلاف أديانهم. وفي مقاله الأخير يؤكد ياسين ان العنصر الجوهري في المفهوم الحديث للمواطنة يكمن في ارتباطها بمفهوم أكثر شمولاً ألا وهو "العلمانية". ولكن على رغم ان الفكر العربي - في اتجاهه العام - أعاد تعريف العلمانية وقصرها على مدلولها السياسي أي فصل الدين عن السياسة بعد استبعاد ابعادها الفلسفية الوضعية المعادية للدين التي صاحبت المفهوم في بيئته الأوروبية الاصلية التي نشأ فيها، إلا أن استقراء الواقع العربي - وليس في مصر فقط - يشير الى أن القضية لا تزال تحتل المرتبة الاولى على قائمة قضايا الجدل الثقافي والاجتماعي في ظل تراجع النزعة التوفيقية التي سادت الفكر العربي لعقود طويلة الأصالة والمعاصرة - الاسلام والحداثة - الاشتراكية والاسلام في مقابل صعود ميول قوية لخيارات ثقافية تتسم بالأحادية والتبسيط علمانية فلسفية خالصة او إسلامية ماضوية خالصة وهو الأمر الذي من شأنه تأكيد النهج الاستبعادي ازاء الآخر سواء كان في الخارج كالغرب أو في الداخل كالأقباط. * كاتب مصري.