نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    الطائرة الإغاثية ال20 تغادر الرياض ضمن الجسر الجوي السعودي لمساعدة الشعب اللبناني    "منشآت" و "كاوست" يوقعان مذكرة تفاهم لدعم وتمكين رواد الأعمال    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    «الإحصاء»: ارتفاع عدد ركاب السكك الحديدية 33% والنقل العام 176%    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    وجهة "مسار".. شريك الوجهة في النسخة الثانية ل "معرض سيتي سكيب العالمي 2024"    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    أمطار رعدية متوسطة إلى غزيرة على عدد من المناطق    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    الذهب يقترب من أدنى مستوى في أكثر من 3 أسابيع    إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام بلدة اليامون    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    الإعلام السعودي.. أدوار متقدمة    المريد ماذا يريد؟    البنوك المركزية بين الاستقلالية والتدخل الحكومي    الاتحاد يصطدم بالعروبة.. والشباب يتحدى الخلود    هل يظهر سعود للمرة الثالثة في «الدوري الأوروبي» ؟    الإصابات تضرب مفاصل «الفرسان» قبل مواجهة ضمك    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    «البيئة» تحذّر من بيع مخططات على الأراضي الزراعية    القبض على مخالفين ومقيم روجوا 8.6 كيلو كوكايين في جدة    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    السينما السعودية.. شغف الماضي وأفق المستقبل    اللسان العربي في خطر    ترمب.. ولاية ثانية مختلفة    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    الجلوس المطوّل.. خطر جديد على صحة جيل الألفية    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    درّاجات إسعافية تُنقذ حياة سبعيني    الإصابة تغيب نيمار شهرين    التعاون يتغلب على ألتين أسير    العين الإماراتي يقيل كريسبو    ليل عروس الشمال    الدراما والواقع    يتحدث بطلاقة    «الجناح السعودي في اليونسكو» يتيح للعالم فرصة التعرف على ثقافة الإبل    القابلة الأجنبية في برامج الواقع العربية    التعاطي مع الواقع    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    محافظ الطائف يعقد اجتماع مجلس اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمير تبوك يستقبل القنصل الإندونيسي    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    دشنها رئيس هيئة الترفيه في الرياض.. استديوهات جديدة لتعزيز صناعة الإنتاج السينمائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترجمة لكتاب ماكس فرايهير فون أوبنهايم عن القبائل العربية وعشائرها . رحلة المستشرق الألماني الى الشرق
نشر في الحياة يوم 20 - 05 - 2001

} يعتبر كتاب المستشرق الألماني ماكس فرايهير فون أوبنهايم عن "القبائل العربية وعشائرها" من اهم المراجع في هذا الحقل. فالكتاب يشرح في مجلد كامل نمط الحياة عند البدو وتتحدث بقية المجلدات عن عشائر العراق وسورية وشمال الجزيرة العربية ووسطها والاردن والحجاز وفلسطين وسيناء وشط العرب وايران ونهر الكارون. ويتضمن الكتاب الموسوعي دراسات عن العشائر العربية غير النقية والعشائر غير العربية في هذه المناطق.
شارك أوبنهايم في انجاز موسوعته آرش بروينلش وفيرنر كاسكل وصدرت تباعاً باللغة الالمانية في خمسة مجلدات، ظهر الاول منها في لايبزغ سنة 1939، والثاني في 1943، والثالث في 1952، والرابع في 1967، والخامس 1968. وتقوم دار الوراق لندن، بيروت بترجمة الكتاب - الموسوعة الى العربية. ويتوقع ان تصدر الاجزاء الخمسة تباعاً باشراف الدكتور ابراهيم الحيدري الذي كتب مقدمة الطبعة العربية وجهود فون أوبنهايم في انجاز هذا العمل الضخم.
يحتوي كتاب ماكس فرايهير فون أوبنهايم "القبائل والعشائر البدوية" في مجلداته الخمسة نتائج بحوث ودراسات معمقة استغرقت أربعين عاماً قضاها المؤلف في الشرق الأوسط، ودرس خلالها الأوضاع الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لسكان الصحراء العربية. خصوصاً العشائر العربية في الجزيرة العربية بأنماط حياتها وأساليب أنتاجها وترحالها وديارها. وشارك في إنجاز هذا العمل العلمي الكبير عدد من المستشرقين والمساعدين، في مقدمتهم ارش بروينلش وفيرنر كاسكل وهما من الذين أفنوا جل عمرهم في الدراسة والبحث حول العالم العربي والإسلامي وتعلم اللغة العربية وقواعدها وآدابها.
وكان أوبنهايم أخذ في الاعتبار جميع ما كتب ونشر ولم ينشر من مؤلفات ومخطوطات وإحصاءات ووثائق وخرائط ومواد اثنوغرافية حول العشائر البدوية ونمط البداوة والترحال. ولذلك جاء الكتاب دائرة معارف شاملة حول جميع العشائر العربية في الجزيرة العربية، من جنوب الأناضول شمالاً، حتى جنوب الحجاز جنوباً، من الجنوب الشرقي لإيران شرقاً حتى سواحل البحرين الأبيض والمتوسط والأحمر غرباً. إلى جانب العشائر ذات الأصول غير العربية التي تعيش في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك العشائر الكردية والتركمانية و اليزيدية والجركسية وغيرها.
كتب هذا العمل بأسلوب علمي ومنهجي، وفي الوقت ذاته، بأسلوب سهل الفهم عموماً، ولهذا فهو كتاب ليس للمتخصصين فحسب، بل لكل من له اهتمام بموضوع العشائر العربية وفروعها وأنسابها وديارها ومناطق ترحالها وثقافتها المادية والمعنوية، وكذلك عن الرحالة والمستشرقين الأوروبيين خصوصاً الألمان منهم، الذين رحلوا الى الجزيرة العربية وأطرافها وكتبوا عن إقامتهم بين العشائر البدوية، وعن الصراعات والغزوات في ما بينهم من جهة، ومع الدول والحكومات من جهة أخرى. إن الكتاب معد، بحسب قول المؤلف، للإجابة عن جميع الأسئلة التي تتعلق بأبناء الجزيرة العربية. كان للحرب العالمية الأولى، من وجهات نظر عدة ومختلفة، تأثيرات لا يستهان بها في كل بلد ومنطقة، وبالتأكيد لم تكن العشائر البدوية بعيدة من هذا التأثير، غير ان حياة البدو في الصحارى والبوادي الطبيعية سوف لن تبقى بعيدة، نسبياً من هذه التأثيرات ولمدة طويلة.
لقد أحب اوبنهايم حياة الصحراء في بساطتها ونقاوتها وكذلك في حريتها وخشونتها، مثلما أحب البدو وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وشجاعتهم. وبحسب قول أوبنهايم، فالبدوي شجاع وكريم ومحب للحرية، ومحارب ومضياف في الوقت نفسه.
اهتمام أوبنهايم بالعالم العربي
بدأ اهتمام اوبنهايم بالشرق عموماً وبالعالم العربي خصوصاً عام 1883م عندما زار مدينة القسطنطينية والأناضول وتعرف على العالم الإسلامي، الأمر الذي شجعه على السفر في رحلة دراسية الى المغرب العربي لتعلم اللغة العربية. غير أن البدايات الجدية لتعلم اللغة العربية والاطلاع على آدابها بدأت مع رحلته العلمية الطويلة مع عالم الاثنوغرافيا الألماني فلهلم بوست إذ قطعا أفريقيا، من المغرب الى القاهرة، في رحلة استغرقت شهوراً عدة. وفي القاهرة نزل أوبنهايم عند عائلة مصرية في حي شعبي من أحياء القاهرة ليعيش معهم "كرجل بلدي مسلم"، من أجل تقوية لغته العربية "وممارسة مبادئ الإسلام وروحه" وفي الوقت ذاته التعرف على تقاليد العرب والمسلمين.
وخلال وجوده في القاهرة كان يعد نفسه لرحلة أخرى طويلة في أرجاء العالم العربي. قادته رحلته عام 1893 الى دمشق ومنها سافر عبر حوران وبادية الشام الى الخليج العربي وتعرف على عدد من العشائر العربية وعقد صداقات مع شيوخها وخصوصاً مع الشيخ منصور ناصر ابن عم الشيخ مجول المصراب من عشيرة سباغة إحدى فروع عنزة. وجمع خلال رحلته تلك معلومات قيمة عن العشائر البدوية.
أيقظت الرحلة فيه حباً لحياة البدو والبداوة وخشونتها والحياة المتحررة والقيم والتقاليد البدوية. وبعد ان تعرف على الشيخ فارس، شيخ مشايخ شمر، وارتبط معه "بأخوة الدم" مثلما عقد صداقة مع أحد أبناء الشيخ مشعل وابن عمه الشيخ عجيل الياور.
وقبل عودته الى ألمانيا رحل الى الهند عبر سواحل الخليج، ومنها الى شرق افريقيا، التي كانت حينذاك مستعمرة ألمانية، وزار "أوزميرا" واشترى فيها قطعة أرض زراعية في إحدى مقاطعات "تنكا" وزرعها بالقهوة والقنب. وعند عودته بقي في القاهرة وتعرف على الزبير باشا، أمير السودان آنذاك، قبل استدعائه من قبل الخيديوي اسماعيل، بسبب الثراء الفاحش من طريق تجارة الرقيق. وخلال وجوده في شرق افريقيا خطط لرحلة طويلة الأمد في أعماق الصحراء الافريقية الكبرى، غير ان الرحلة لم تنفذ بسبب احتلال الإنكليز لمصر وقيام دولة "رانج" التي امتدت في الصحراء حتى السودان المصري.
وخلال إقامته في القاهرة أصدر بالاشتراك مع ونفريد والليدي بلنت كتاب "القبائل العربية في الفرات الأوسط" و"رحلة الى نجد". كما استدعته وزارة الخارجية في ألمانيا ليكون رئيساً للديبلوماسية الألمانية في القاهرة، فاستطاع ملاحظة ما كان يجري في العالم العربي والإسلامي. وبحسب قوله ليس هناك مكان أفضل من القاهرة، فالصحف العربية تكتب بلغة القرآن، وتقرأ في جميع بلدان العالم الإسلامي، من المحيط الأطلسي الى الصين، بعكس ما كان يجري في تركيا حيث لم يسمح السلطان عبدالحميد بحرية الصحافة، بينما القاهرة التي كانت مقراً لجميع اللاجئين السياسيين من الدول الإسلامية، وخصوصاً الهاربين من الدولة العثمانية.
وكانت علاقة اوبنهايم مع السلطان العثماني عبدالحميد وطيدة إذ حاز على ثقته من طريق صديقه الشيخ فارس، شيخ مشايخ شمر. كما كانت له علاقة صداقة مع الأمير فيصل بن الحسين منذ عام 1894 الذي أصبح ملكاً على العراق لاحقاً. وفي القسطنطينية تعرف اوبنهايم ومن طريق السلطان عبدالحميد على شخصيتين مهمتين كانت لهما معرفة جيدة بالعشائر البدوية، وهما عزت باشا العابد الذي ينتسب من جهة الأم الى عشيرة الموالي في شمال سورية، وابنه الذي أصبح رئيساً للجمهورية السورية في ما بعد. وكان عزت باشا هو المؤسس الحقيقي لخط قطار الحجاز الذي يربط دمشق بالمدينة. أما الشخص الثاني فكان الشيخ أبو الهدى وهو شيخ متصوف مهيب، من أصل بدوي، وقريب من عشيرة بني خالد في سورية وكان السلطان عبدالحميد قلده رتبة شيخ مشايخ الطريقة الرفاعية التي تعود في أصولها الى عائلة الرفاعية في البصرة. وكان الشيخ أبو الهدى تنبأ بأن الأمير عبدالحميد سوف يصبح سلطاناً وخليفة على المسلمين. وقد تحقق ذلك. وكان الأمير احمد باشا والد الأمير يوسف كمال الذي كان يقيم آنذاك في القاهرة عرفه على الشيخ محمد بن بسام من عشيرة عنزة، الذي كان من أكبر التجار العرب حينذاك، وكانت عائلته قريبة من عائلة الأمير محمد بن رشيد التي تسيطر على وسط الجزيرة العربية. وكان للشيخ محمد بن بسام قصور فخمة في مكة وجدة ودمشق وبغداد والبصرة، وكذلك في بومبي في الهند وغيرها. وكانت تجارته تعتمد على تصدير الخيول العربية الى الجيش الإنكليزي وخصوصاً الضباط الإنكليز. كما كانت لشركته فروع في القاهرة وطرابلس، وكان يمتلك مركباً بخارياً لنقل البضائع التجارية بين القاهرة وجدة. وبين عامي 1896 و1909م قطع اوبنهايم إقامته في الشرق الأوسط بعد ان عُين سفيراً لبلاده في الولايات المتحدة الأميركية ثم في فرنسا، ثم في وزارة الخارجية الألمانية في برلين.
وفي الواقع، كانت لصداقته مع محمد بن رشيد اهمية كبيرة في حياته العلمية وكذلك في دراساته وبحوثه حول العشائر العربية إذ كان محمد بن رشيد يرافقه في رحلاته خصوصاً عند إقامته في دمشق. كما قدم إليه الشيخ محمد بن بسام معلومات مهمة حول العلاقات الاجتماعية والسياسية بين العشائر ومع الدول والحكومات وكذلك حول السلطة والنفوذ في وسط الجزيرة العربية منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى. وكان أوبنهايم سجل تلك المعلومات في مخطوطة وطبعها قبيل الحرب العالمية الأولى لأغراض ديبلوماسية.
كما جمع معلومات دقيقة عن حياة العشائر البدوية في الصحراء وذلك بمساعدة عدد من أصدقائه في القاهرة - وخصوصاً حول العشائر في سورية والعراق والجزيرة العربية ونشرها في كتاب سمّاه "أبناء الصحراء"، ذلك الكتاب الذي كان أساساً لكتابه الكبير "القبائل العربية"، الذي صدر في خمسة مجلدات. كما قادته رحلاته الى الشرق الأوسط الى دراسة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية للقبائل الرّحل في تركيا الآسيوية، خصوصاً الأناضول خلال عام 1897.
خط قطار بغداد - برلين
قبيل رحلته الى وسط الجزيرة العربية استدعته وزارة الخارجية في برلين لأسباب سياسية كما يقول، فاضطر الى تأجيل رحلته التي كان خطط لها منذ زمن طويل. وكان مدير البنك الألماني جورج فون سيمنس طلب منه ان يترأس بعثة استطلاعية يمولها البنك لوضع مخطط كامل لمشروع بناء خط قطار بغداد - برلين. غير أن وزارة الخارجية اعتبرت من غير المنطقي ان يوكل هذا المشروع الى موظف مختص بقضايا الشرق لإدارته، خصوصاً أن الإنكليز والفرنسيين لهم اهتمام أكبر بهذا المشروع. وهكذا أوكلت إدارة المشروع الى القنصل الألماني العام في اسطنبول الدكتور شتمرايش الذي كان مهتماً بالشؤون التجارية في تركيا.
وبدلاً من أن يتوجه اوبنهايم الى مقابلة امراء الجزيرة العربية، ذهب عام 1899 على رأس بعثة علمية الى دمشق، ومنها الى العراق، مروراً بحلب ثم الموصل. وفي العراق استطاع أوبنهايم تحقيق رغبة رئيس البنك الألماني جورج فون سيمنس في وضع دراسة خاصة حول أفضل الطرق لمد خط قطار بغداد - حلب خصوصاً في منطقة تعتبر من أصعب الطرق التي توصل بين حلب والموصل. وفعلاً قُبِل مخططه من قبل وزارة الخارجية. ولكنه لم ينفذ تماماً، لأن هذا الخط يمر عبر طريق القوافل التجارية القديم ويخترق المدن الكبيرة - بيردجك وادرنة وماردين - وكذلك الطريق الفرعي الذي يمر عبر ديار بكر ونصيبين والموصل. واختير طريق ينحدر الى الجنوب منه، يبدأ من حلب مروراً بجبر انلوس على الفرات وتل العبيد جنوب عرفة ثم عبر رأس العين في منطقة منبع نهر الخابور حتى نصيبين، فلا يخترق الخط أية مدن أو مستوطنات، ما عدا نصيبين وبعض القرى الصغيرة التي تسكنها عشائر بدوية مستقرة وأكراد. وهي منطقة مغطاة بتلال كانت مأهولة قديماً بكثافة سكانية عالية، وبهذا فهي ليست صحراء مجدبة مثلما كان البعض يعتقد دوماً.
اكتشاف آثار تل حلف
الأراضي التي يمر عبرها قطار بغداد ليست رملية، وهي تعود الى ما أطلق عليه رئيس قسم الدراسات الشرقية "برستد" اسم "الهلال الخصيب" وهي منطقة نشأت فيها في عهود سابقة دول وإمارات مزدهرة. وكان القسم الأعلى من الهلال الخصيب مركزاً لدولة عربية قديمة ازدهرت في الألف الثالث قبل الميلاد وسيطرت على القسم الغربي من الشرق الأوسط وكانت عاصمتها "تل حلف" عند رأس العين. وقرب وادي تل حلف قامت أيضاً دولة: ميتاني، وهي إمارة عربية تعود الى الألف الثاني قبل الميلاد وكانت عاصمتها "واشلوكاني". وخلال تلك الفترة أسعفه الحظ باكتشاف منبع نهر الخابور عند رأس العين وهو النهر الوحيد الذي يصب في نهر الفرات.
دراساته حول القبائل والعشائر العربية
يمثل اكتشاف اوبنهايم لآثار تل حلف مدخلاً واسعاً لمعرفة الشرق الأوسط وحضارته، ما يشكل تعميقاً لمعارف اوبنهايم حول مجتمع البدو والبداوة الذي عاش فيه وعايش أفراده. كما أن هذا الاكتشاف جعله يحصل على امتياز من الحكومة التركية للقيام بالحفريات اللازمة هناك. غير أن التزامه بوظيفته حال دون الشروع في الحفريات والتنقيبات الأثرية، إلا بعد مرور عشر سنوات إذ ترك وظيفته الديبلوماسية ليتفرغ للحفريات والتنقيبات اللازمة التي استمرت بين عامي 1911 و1913 وبين عامي 1927 و1929، وكان العثور على آثار فريدة لحضارة وادي تل حلف، وهي معروضة في متحف تل حلف في برلين. كما نشر أوبنهايم كتاباً حول "حضارة جديدة في وادي الرافدين" في لايبزغ عام 1931، وكذلك أصدر دليلاً لمتحف تل حلف في برلين عام 1934. وخلال إقامته في وادي تل حلف لتنفيذ الحفريات والتنقيبات الأثرية أقام علاقات وطيدة مع العشائر البدوية هناك وزار شيوخ العشائر. وكان يفتح باب خيمته للبدو ويحضر لهم منسف الطعام المملوء بالرز ولحم الضأن. وكان يشاركهم الأكل والحديث حتى أصبح معروفاً بين العشائر البدوية. كما وظف عدداً كبيراً من أفراد العشائر البدوية للعمل في خط قطار بغداد وكذلك في حفريات تل حلف. وخلال تلك الحفريات والأعمال لم تحدث اية خلافات أو منازعات بين أفراد العشائر التي كانت العلاقات في ما بينها متوترة، مثل العلاقة بين فدعان من عنزة وفداجة وثابت من شمر. وكان أوبنهايم خلال تلك الفترة يوجه اهتمامه الى دراسة الدين عند البدو أيضاً وكذلك القصص والأساطير والخرافات التي يتداولونها. كما حصل على معلومات حول الطرق الصوفية وكذلك الغزوات والحوادث المهمة في حياتهم. وقد أخذ للبدو وشيوخهم صوراً فوتوغرافية عدة بنفسه. ونشر هذه الصور وصوراً لبعض مساعديه في كتاب "العشائر البدوية". وكذلك في كتابه "حياة وحضارة البدو".
ومن إنجازاته العلمية وضع جداول دقيقة ثبت فيها اسماء العشائر وفروعها بحسب ديارهم ومناطق ترحالهم في الصيف والشتاء وكذلك عدد خيامهم. كما كتب تاريخ كل عشيرة وتاريخ مشايخها بحسب المناطق الجغرافية التي يتجولون فيها. وقسمها الى عشائر سورية وفلسطين وبين النهرين والعراق والجزيرة العربية وغيرها. ودرس الأسلحة التي يستخدمها البدو في غزواتهم كالرماح والسيوف وما عندهم من بنادق وأسلحة نارية أخرى. وكان يقدر قوة العشيرة بعدد أفرادها المحاربين ومعيار قوتها بعدد خيامها. والمعتاد ان يكون عدد أفراد كل خيمة خمسة أفراد غير أنه زاد في عددهم الى سبعة. كما رأى أن عدد الرماح المعلقة على جانب الخيمة يشير الى عدد الرجال المحاربين فيها.
وكان يستخدم في جمع المواد الاثنوغرافية والإحصائية الطريقة التقليدية القديمة، كم كان عليه جمع مواد مستعملة من أثاث وأدوات ولوازم وأن يسجل بدقة الأسماء وما ترمز إليه وتعبر عنه. وسجل ملاحظات عن حياة البدو وعن أنسابهم وكذلك المأثورات الشعبية والقصص والأساطير وكل ما يرتبط بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعشيرة، الى جانب سلطة الشيوخ وما يتعلق بالحقوق والواجبات ونظام الزواج والخيانة الزوجية والرقيق، الذي كان في طريقه الى الزوال، وما يتعلق بالخيول والجمال والصيد والترحال والغزوات وقيم الضيافة واللجوء والثأر والاتحادات العشائرية.
وكان لأوبنهايم ولع شديد باقتناء الكتب والمراجع العلمية والمخطوطات وكتب الرحالة والرحلات وجميع ما كتب عن العشائر العربية في العربية والألمانية وغير ذلك. كما اقتنى أهم كتب المستشرقين وجميع ما كتب في الصحف والمجلات التي صدرت في الشرق حينذاك مثل جريدة "أم القرى" وغيرها. ووصل مجموع ما جمعه اوبنهايم حول البدو والبداوة الى أربعين ألف مجلد كونت مكتبة عامرة أوقفها باسم "معهد الشرق للدراسات" في برلين.
إن ما جمعه من معلومات ومواد اثنوغرافية إضافة الى دراساته ورحلاته ومعايشته وملاحظاته المباشرة في العالم العربي، وكذلك حبه ومشاركته الودية للعشائر البدوية في حياتهم في الصحراء، ساعدته في إنجاز ما ألف من كتب، إضافة الى مساعدة أصدقائه العرب وعلاقاته الاجتماعية والسياسية الواسعة مع عدد كبير من الأفراد والشيوخ والعلماء والأدباء والسياسيين والمستشرقين الذين عملوا معه بجد وإخلاص.
* باحث عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.