شتيفان كرويتسر شاب في مقتبل حياته الأكاديمية، استطاع أن يصنع له اسماً معروفاً بين كبار أساتذة الجامعات المتخصصين، وأن يفرض آراءه في كثير من القضايا الخلافية، وجد دار نشر ترحب بإصدار كتابه، على رغم صغر سنه، وشارك مع آخرين في نشر كتب أخرى، وفتحت له وزارة الخارجية الألمانية أرشيفها السياسي على مصراعيه، حتى يحصل كتابه على أكبر قدر من الموضوعية في تناوله لعلاقة القيصر الألماني فيلهلم الثاني والسلطان العثماني عبدالحميد الثاني أثناء فترة الحرب العالمية الأولى. يقول بتواضع شديد إنه لم يواجه أي صعوبات في التحضير لكتابه، وإنه لم يقصد صدور الكتاب بمناسبة الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى، بل بدأ بحثه قبل أعوام انطلاقاً من دوافع أكاديمية بحتة، ويكشف عن عدم رضاه عن عنوان الكتاب الذي وضعته دار النشر، رغبة في إثارة الاهتمام، وحتى يباع أكبر عدد من النسخ، لأنه يدرك تماماً أن الجهاد يكون في سبيل الله، وليس لأجل أحد سواه، ويوضح أنه على عكس السلطات الألمانية، فإن السلطات الإنكليزية ما زالت ترفض الكشف عن بعض وثائق الحرب العالمية الأولى، معتبراً أنه ذلك يعني أن هناك أشياء لا تحب هذه السلطات أن يعرفها العالم، ويقول إنه من الطبيعي أن يسعى كل طرف ليعرض رؤيته للأحداث، والتي لا تكون موضوعية. يرى أن العداء للغرب في نفوس الكثيرين من العرب، يرجع إلى ما أطلق عليه «نفاق الغرب»، الذي ظهر في أجلى صوره في الوعود الكاذبة التي أطلقتها السلطات الاستعمارية البريطانية للعالم العربي، بمنحه الاستقلال بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ثم حنثت بوعودها في مؤتمر فرساي. يشير إلى أن العالم العربي كان فيه مفكرون نابهون، بل إن بعضهم كانوا سابقين لعصرهم في أفكارهم، مثل شكيب أرسلان ومحمد رشيد رضا ومحمد عبده والشيخ السادات وجمال الدين الأفغاني، وأن المستشرق الألماني ماكس فون أوبنهايم، واضع السياسة الخارجية الألمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى، أخذ أفكاره عن هؤلاء المفكرين العرب الرواد الذين كان يعرفهم بصورة شخصية. يقول إن استغلال مشاعر الدين موجودة لدى أتباع كل الأديان، وأن الاتهامات باستغلال السياسيين في الحرب العالمية الأولى لرجال الدين المسلمين لإصدار الفتاوى التي تدعم سياساتهم لا يقتصر عليهم، فإن علاقة الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية بنظام الحكم النازي، ومدى تواطئهما مع سياساته لم يتم البت فيها بصورة مرضية حتى الآن، ومازالت هناك اتهامات بأنهما شاركتا في هذه السياسات، أو على الأقل لم تعارضاها. يتمنى انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وإن كان يرى أن البديل الأفضل لتركيا أن تتعاون مع العالم العربي على إنشاء تحالف مشابه، يوحد جهودها لتمثل ثقلاً كبيراً للعرب والمسلمين، الذين يمتلكون مجتمعات شابه، وقدرات واعدة، والآن إلى نص الحوار: كيف جاءتك فكرة هذا الكتاب، الذي استمر العمل فيه ثلاثة أعوام كاملة، ويحمل اسم «الجهاد في سبيل القيصر الألماني»؟ - أثناء دراستي الجامعية، تناولنا كتاب «التطلع للقوة العالمية»، ووجدت بعض النقاط غير مقنعة، خصوصاً فيما يتعلق بقضية تثوير الشعوب في أثناء الحرب العالمية الأولى، فبدأت أبحاثاً قادتني إلى الأرشيف السياسي لوزارة الخارجية الألمانية، ووصلت إلى نتائج مختلفة تماماً، فجعلته موضوعاً لرسالة الماجستير، ثم واصلت البحث فيه من منظور علم التاريخ وعلم الاستشراق، ثم أصدرت هذا الكتاب. هل كان صدور الكتاب في مناسبة الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى متعمداً؟ - بدأت الكتابة في عام 2008، ولم أفكر في تلك المناسبة، لأنه لم يكن أحد يتحدث آنذاك عن هذه الذكرى، وأكتب حالياً كتاباً آخر يتناول حياة ديبلوماسي آخر في فترة الحرب العالمية الأولى أيضاً، وسيصدر الكتاب بعد المناسبة، لذلك فإنني لا أراعي ذلك، ربما يهم ذلك دار النشر، لأنه يمثل عنصراً إيجابياً لتسويق الكتاب، لكن في الحقيقة لا علاقة للكتاب بهذه المناسبة. ما الذي تغير في بوصلتك قبل الموضوع وبعده؟ وهل كانت هناك مفاجآت لك؟ - كانت هناك مفاجئة إيجابية، بالنسبة لي الكثيرون اعتبروا عملي تتويجاً للبحث العلمي في هذا المجال، وصدرت بعد كتابي كتباً أخرى تعتمد على ما توصلت إليه من نتائج، وتؤيدها وتدعمها، وأستطيع أن أقول بأنني فتحت مجالاً جديداً للبحث التاريخي، نسخت نتائج بحثي كل ما كان سائداً قبله من آراء، وأصبحت الرؤية التي توصلت إليها هي المعتمدة في الدوائر الأكاديمية والعلمية. وثائق للحرب العالمية هل ما زالت هناك وثائق للحرب العالمية الأولى سرية ولا يمكن الاطلاع عليها؟ - بالنسبة لألمانيا لا توجد أية وثائق سرية من الحرب العالمية الأولى لم يكشف عنها، على عكس الإنكليز الذين ما زالوا يفرضون السرية على بعض الوثائق بهذا الشأن، أما الفرنسيون فالحقيقة لا أعرف كيف يتعاملون مع هذه الوثائق. ما الذي يجعل الإنكليز يفرضون السرية بعد 100 عام على وثائق ما؟ -لا بد من أن يكون لديهم ما يريدون إخفاءه، وعدم إطلاع العالم عليه، أو على الأقل عدم معرفة التفاصيل المتعلقة به. هل نحتاج إلى 100 عام لفهم حقيقة الأحداث السياسية والحصول على الصورة كاملة؟ - نعم، لأن هناك معلومات تظهر تباعاً، وعند وجود فاصل زمني، تكون الرؤية أكثر موضوعية وعقلانية، وخصوصاً في قضية مثل الحرب العالمية، التي تكون محملة بالكثير من المشاعر والانفعالات، ولأن الأشخاص الذين شاركوا في الحرب، لا يمكن أو يدلوا بآراء محايدة، وأرى أنه ما زال من الممكن العثور على معلومات جديدة. التاريخ هل كتب بصدق.. أم كل يكتب على هواه؟ - كل طرف يحاول أن يروج رؤيته لما حدث، أو ما يمكن أن نسميه الحقيقة من وجهة نظره، ومن الطبيعي أن يكون لكل طرف رؤية مغايرة، وعلى الباحث أن يفتش عن الحقيقة الموضوعية، وفي الغالب تكون في الوسط بين الرؤيتين، وفي النهاية يسعى للوصول إلى أقرب رؤية من الحقيقة. عنوان الكتاب مثير للاستغراب، لأن الجهاد يكون في سبيل الله، وليس في سبيل القيصر. فهل الغرض من العنوان لفت الأنظار والإثارة، حتى ولو كان مضللاً بعض الشيء؟ - لم أختر هذا العنوان، بل وضعته دار النشر، أما العنوان الأصلي فكان: «مواجهة الإمبريالية في المشرق». أعتقد أن الكتاب لم يكن سيجد من يشتريه بهذا العنوان الذي اقترحته أنت.. -... تماماً، على عكس مصطلح «الجهاد»، الذي يرتبط ببعض الصور في أذهان الأوروبيين، وهذا بالطبع ما كانت دار النشر تريده أن يحدث، عموماً دور النشر تبحث دوماً عن عناوين استفزازية. لكنك تتفق معي أنه عنوان مضلل؟ - نعم، نسبياً، لأن ما يفهمه القارئ العادي اليوم من مصطلح الجهاد، لا علاقة له بمفهوم المصطلح نفسه أثناء الحرب العالمية الأولى، دعني أقول بصراحة إنني كنت مضطراً لقبول هذا العنوان، حتى يجد الكتاب طريقة إلى النشر. ورد في كتابك أن القيصر فيلهلم الثاني أمر البعثات الديبلوماسية الألمانية أن تسعى لإشعال الثورات في كل أرجاء العالم الإسلامي. فهل من المقبول أخلاقياً تثوير شعوب، وما ينجم عن ذلك من قتلى ومشردين، من أجل تحقيق أهداف استراتيجية لدولة أخرى، مثل رغبة ألمانيا في إضعاف الخصم البريطاني؟ - وهل من المقبول أن يستمر استعباد شعوب وقهرها والحيلولة بينها وبين الحرية، أي الطرفين هو الشرير: من يحتل ويقهر، أم من يشجعها على التحرر؟ كذلك ينبغي علينا أن ننظر للأمر من منظور حربي، لقد كانت هذه استراتيجية سائدة في القرن ال19، أقصد إشعال الثورات بين الأقليات في المستعمرات، ودعم طموحاتها نحو الحرية... لكن الدول التي تشعل هذه الثورات، لا تأبه بحرية الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، بل تسعى لتحقيق مكاسب سياسية وحربية، من خلال إضعاف الخصم، أليس كذلك؟ - بلى، هذا صحيح من جانب، ولكن هناك جزئية أخرى، والتي طرحها ماكس فون أوبنهايم، وهي الرغبة الصادقة في مساعدة هذه الشعوب المقهورة، وهو لم يكن يفعل ذلك انطلاقاً من تكتيك، كان يحلم بحرية الشعوب العربية والفارسية والعثمانية من الاستعمار أياً كان مصدره. لكن ماكس فون أوبنهايم وغيره من الأوروبيين الذين كانوا صادقين في حبهم للعرب، لم يكونوا أصحاب الكلمة، القيصر الألماني أصدر هذه الأوامر من منطلقات تكتيكية بحتة، أليس كذلك؟ - أولاً: لا ينبغي أن تعطي القيصر كل هذه الأهمية المبالغ فيها، لأنه كان شخصية رمزية، هو أصدر هذه التوجيهات بعد رحلته إلى المشرق، والتي أثرت فيه بشدة بصورة إيجابية لمصلحة العرب والمسلمين، ثانياً: كان الألمان يشعرون دوماً أنهم لا يحظون بأهمية كبيرة على مستوى العالم، لم يكونوا أبداً قوة مؤثرة في الصف الأول، ولذلك كانوا يتعاطفون مع الأقليات ومع المظلومين، وكانوا يتضامنون مع الحركات التحررية. مارد الجهاد تشير في كتابك إلى الاتهامات البريطانية بأن ألمانيا التي أخرجت مارد الجهاد الإسلامي قبل الحرب العالمية الأولى، تتحمل الآن مسؤولية التنظيمات الإرهابية الإسلاموية مثل «القاعدة» و«داعش» وغيرهما. فكيف دحضت هذه الآراء في كتابك؟ - من يدقق في المصادر التي نشرت هذه الاتهامات والمزاعم في مقالات صحافية، يتوصل إلى أن من كان وراءها هم أناس معروفون بقيامهم بالبروباجندا، ولجأوا إلى اختلاق وتزوير مستندات، الأمر الذي يفند هذا الرأي... لكن الأمر لم يقتصر على إعلاميين مأجورين، بل نجد مستشرقاً هولندياً مرموقاً وهو كريستيان سنوك هورخرونيه ينشر مثل هذه الأفكار، ويوجه انتقادات حادة للاستراتيجية الألمانية باستغلال الجهاد، فهل وظف نفسه لخدمة المصالح الاستعمارية لهولندا، وتجاهل المبادئ الأكاديمية؟ - أعتقد أنه لا يوجد إنسان موضوعي تماماً، حتى الأكاديميين ليسوا معصومين، فهم يتأثرون بالأوضاع السياسية السائدة، ومن الطبيعي أن يتخذ الإنسان قرارات، ويحدد رؤاه انطلاقاً من الأوضاع الحياتية، وينظر للأمور من خلال هذا المنظور. لكن هذه الظروف الحياتية لا ينبغي أن تطغى على القيم الأكاديمية والعلمية، فهل كان سنوك هورخرونيه في تقويمه للاستراتيجية الألمانية شخصاً أكاديمياً أم موظفاً في خدمة المستعمرات الهولندية؟ - لا أحب أن أكيل الاتهامات للأشخاص، ولا أزعم أنه باع القيم الأكاديمية، لتبرير المصالح الاستعمارية لبلاده، خصوصاً أنه وجه بعض الانتقادات لسياسات بلاده الاستعمارية، لكنه بالتأكيد ارتكب خطأ في هذا الموقف، وكان عليه أن يوجه انتقاداته للمستعمر البريطاني الذي كان يمارس الاضطهاد في العالم العربي، بدلاً من اتهام ألمانيا بأنها تثير كراهية العرب ضد الغرب. هل يمكن القول انطلاقاً مما ورد في هذا الكتاب، بأن علاقة الصداقة بين ألمانيا والدول الإسلامية لم تبدأ في الحرب العالمية الثانية من خلال التحالف بين هتلر ومفتي القدس كما يشاع كثيراً، بل تعود إلى قبل ذلك بكثير، وتحديداً إلى عهد فيلهلم الثاني، أي أنها ليست قائمة على العداء لليهود؟ - الحديث عن بدء العلاقة بين العرب وألمانيا مع اللقاء بين الزعيم النازي ومفتي القدس هو هراء مطلق، بل إنني أعتبر ذلك من أقبح الأكاذيب التاريخية. هل أمكنك تصحيح هذا الخطأ، وترسيخ رأيك في الدراسات التاريخية في الجامعات الألمانية حول هذا الأمر؟ - هذا ما أتمناه، أستطيع القول بأن هناك بعض الكتب التي صدرت بعد كتابي، أحدها يحمل عنوان «الحرب العالمية الأولى والجهاد»، أصدره بروفيسور ألماني مرموق وله مكانة رفيعة، وجمع فيه آراء الكثير من المتخصصين حول هذا الموضوع. وهناك كتب أخرى تتناول نشأة الصداقة بين العرب والألمان، وكلها توصلت إلى أن العرب رأوا في ألمانيا القوة الكبرى الوحيدة، التي لا تتبنى توجهات استعمارية، فأسهم ذلك في نشأة هذه الصداقة، ولا علاقة للأمر بالعداء لليهود. تقرير المصير هل الدول الغربية مقتنعة بحق تقرير المصير للشعوب العربية أم أن القضية في المقام الأول والأخير مصالح هذه الدول؟ - لا أستبعد أبداً حرص الدول الغربية على مصالحها في سياساتها، والقضية أن العرب تعرضوا خلال مراحل التاريخ المختلفة إلى خداع من الدول الغربية، وطالما تبين لهم أن السلوك الغربي تميز بالنفاق، الأمر الذي يجعل الشعوب العربية حتى يومنا هذا تساورها الشكوك تجاه الغرب. أنت متخصص بالدرجة الأولى في الدراسات الإيرانية، فكيف ترى علاقة الدول الغربية مع إيران؟ - أنا من أكثر المؤيدين والداعمين لانتهاج سياسة مختلفة مع إيران، وأرفض أن تسير الدول الأوروبية خلف السياسية الأميركية في هذا الشأن، وإذا كانت هناك دول لا ترى إلا مصالحها في صياغة سياساتها فهي الولاياتالمتحدةوبريطانيا أيضاً، عموماً يمكنني القول إجمالاً بأن مراعاة المصالح في رسم السياسات تمثل دوماً عنصراً مهماً. اتضح أيضا من الكتاب أن ألمانيا ليست على استعداد لإغضاب جيرانها الأوروبيين إلى الدرجة التي تجعلها تعاني من العزلة، فهل هي مستعدة للتخلي عن مبادئها من أجل ذلك؟ - لابد أن ندرك أن سياسات الدول لا يصنعها شخص واحد، دائماً هناك مجموعات تمثل مصالح مختلفة، ولكل مجموعة آراؤها وتوجهاتها، وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية الألمانية تجاه الشرق، فهناك الكثير من القوى ذات التوجهات المختلفة، وعند تبني سياسة داعمة لطرف ما، فإنها تنال من مصالح الطرف الثاني. هناك أمر آخر مهم للغاية، وهو أن ألمانيا لم تكن تمتلك المعلومات الكافية عن منطقة الشرق الأوسط حتى مطلع القرن ال20، ولذلك كانت تحصل على معلوماتها من البريطانيين، لأنهم كانوا موجودين هناك من قبل، فمن الطبيعي أن تتأثر الرؤية الألمانية للأوضاع في الشرق الأوسط بالمعلومات التي كان يحصلون عليها من البريطانيين. ولكنني لا أنكر في الوقت ذاته أن ألمانيا كانت تنظر إلى مصالحها، ومصالح جيرانها الأوروبيين، قبل النظر إلى مصالح الدول العربية أو حتى تركيا. ترجع أصول المستشرق ماكس فون أوبنهايم إلى عائلة يهودية، فهل أثرت خلفيته اليهودية على فهمه للعالم العربي والإسلامي؟ - بصراحة لم أجد في المراجع أي شيء يشير إلى تأثير سلبي أو إيجابي لهذا الأمر على رؤيته للعالم العربي والإسلامي، النقطة الوحيدة التي ظهر فيها تأثير خلفيته اليهودية هي رفض مسؤولي وزارة الخارجية الألمانية تعيينه دبلوماسياً فيها. وأعتقد أن القضية كانت متأثرة أيضاً بأنه من عائلة تملك مصرفاً، فكانت هذه التركيبة يهودي وتمتلك أسرته مصرفاً هي السبب في رفضه، لأنها ترسخ الصورة النمطية لليهود آنذاك، بل إنني أعتقد أن مشكلة الخلفية المالية كانت أكثر تأثيراً من الخلفية الدينية. الدولة العثمانية هل توافق على مقولة أن «ألمانيا لا تحتاج أن تفعل أي شيء لكي يحبها العرب، وينظرون لها بإجلال وتقدير كبيرين، ويحتاج العرب لجهود ضخمة، للحصول على معاملة منصفة من ألمانيا»؟ وما دور التاريخ في ذلك؟ - ربما لعب الخوف من الدولة العثمانية دوراً سلبياً، لكن انطباعي أن الاتجاه الغالب في نظرة الغرب للعرب في مطلع القرن ال20 كان فيها الكثير من الانبهار بهذا العالم، كان الغربيون مبهورين بالحديث عن المقاتلين النبلاء في الصحراء، وبحياة البدو، علاوة على ما كانت حكايات ألف ليلة وليلة ترويه عن الحريم. كان مجتمع الأثرياء الغربيين مفتونين بهذه الخيالات الجنسية، كان الشرق بالنسبة للكثيرين رمزاً لعالم غريب ومثير. أما في الوقت الحالي فأتفق معك على الإعجاب الشديد بالألمان في الشرق. في المقابل هناك صورة سلبية ربما بدأت مع فترة التعاون بين الإرهابيين الألمان من جيش الألوية الحمراء والإرهابيين العرب، بصراحة لست متخصصاً في هذا المجال، هو مجرد رأي شخصي. ما أستطيع قوله كأكاديمي أن الشعور الغالب في مطلع القرن ال20 كان هو الانبهار بالشرق، حتى الأكاديميين الألمان كانوا يشعرون بذلك. تناولت في كتابك شخصيات كانت مؤثرة آنذاك مثل شكيب أرسلان ومحمد عبده وسعد زغلول والشيخ السادات وجمال الدين الأفغاني، وقلت إنهم أسهموا في صياغة أفكار ماكس فون أوبنهايم. فهل يمكن القول بأنه مذكرته التي كتبها عام 1914، حول تثوير العالم الإسلامي، نابعة من فكر هؤلاء، وليست من ابتكاره هو؟ - لقد أخذ فون أوبنهايم الكثير عن هؤلاء المفكرين العرب، ولعل أهم ما أخذه عنهم، هو الاقتناع بكذب الاتهامات الانجليزية للعرب بأنهم ليسوا ناضجين فكريا بالدرجة الكافية، لكي يكونوا قادرين على حكم أنفسهم، وإدارة شؤون بلادهم بطريقة مستقلة. عندما تناقش أوبنهايم مع هؤلاء المفكرين العرب، اتضح له أنهم أصحاب فكر راق، وأنهم ليسوا مفكرين فحسب، بل إنهم مفكرون سبقوا عصرهم بآرائهم، وأن أفكارهم لم تقتصر على الجانبين الاجتماعي والديني، بل شملت الجانب السياسي أيضاً. وتعرضوا بسبب ذلك لمشاكل مع السلطان العثماني، لأنهم كانوا يعارضون أنظمة الحكم الاستبدادية، وكانت الفكرة التي يتبناها فون أوبنهايم أن تتحول الدولة العثمانية إلى ولايات متحدة شرقية، على نمط الولاياتالمتحدة الأميركية، تتمتع فيها كل ولاية بحق تقرير المصير، ويتمتع مواطنوها بكافة الحقوق الليبرالية، وأعد دراسة في هذا الموضوع. الحركة السلفية ورد في كتابك ذكر الحركة السلفية، والتي يساء فهمها حالياً في الغرب، فكيف فهمها أوبنهايم آنذاك؟ - لقد تبين لي من المراجع الأكاديمية المتعلقة بهذه الفترة، أن الحركة السلفية كانت أهم حركة إصلاح إسلامية في مطلع القرن ال20، وكانت تدعو إلى حصول المسلمين على حق تقرير المصير، وشعور المسلمين بالقوة والعزة، في تعاملهم مع الغرب، لقد كانت تتمتع بصورة إيجابية بالتأكيد. ما الفرق بين مفهوم الجهاد في الحرب العالمية الأولى والجهاد الإسلاموي الحديث من حيث قتل الأبرياء والمدنيين؟ - كان مصطلح الجهاد في مطلع القرن ال20 مرادفاً للسعي من أجل الحصول على الحرية ضد المحتل الاستعماري، كان الأمر يعني حرباً دفاعية في المفهوم الألماني وعند المستشرق فون أوبنهايم، على عكس المفهوم الحالي أو الصورة المنتشرة للجهاد في الغرب، والتي تشمل قتل الأبرياء، والعمليات الانتحارية في المساجد، أما في الماضي فقد كان مبدأ قتل الأبرياء غير مطروح على الإطلاق. ورد في كتابك أن الفتاوى كانت تصدر بالطلب من خلال رشوة العلماء مثل آية الله بهباني آنذاك، فهل وجدت حالات أخرى مشابهة سواء تعلق الأمر برجال الدين المسلمين أم المسيحيين؟ - وردت في المراجع حالات عدة، كانت الفتاوى فيها تأتي بالطلب، وكان الإنكليز وغيرهم يطلبون إصدار فتاوى تحقق مصالحهم في مقابل دفع مبالغ من المال، أما في المسيحية فما زالت علاقة الكنيسة بنظام الحكم النازي، تشوبها الكثير من علامات الاستفهام حول تواطئها مع هذا النظام، مع أنه كان بمقدورهما التصرف بطريقة مختلفة، لذلك أقول إن الدين يمكن دوماً وضعه أمام القاطرة السياسية، ولا يقتصر ذلك على دين بعينه. هل يوجد مفهوم مشابه للجهاد في الديانة المسيحية، كما حدث مثلاً في الحروب الصليبية؟ - دائماً ما يكون الناس أكثر حماسة في المعارك، إذا كان هناك العامل الديني قوياً عند المقاتلين، عندها تكون الدعوات للمشاركة في المعارك أكثر تأثيراً، لكن إذا كنت تقصد وعوداً بدخول الجنة إذا مات المقاتل في المعركة، فإنني لم أجد في المراجع المسيحية ما يفيد بذلك، كانت الشعارات الدينية مستخدمة مثل (الرب معنا)، أو (الرب مع الحق). في وسائل الإعلام الألمانية يقترن الحديث عن الجهاد دوماً، بذكر رغبة المسلم أن يدخل الجنة، ويجد 70 امرأة من الحور العين تنتظره، فلماذا هذا الافتتان الغربي بهذه الجزئية؟ - إنه نوع من الإدراك المبتور، تختار وسيلة الإعلام هذه الجزئية التي تعتقد أنها تثير اهتمام القراء، ويكون التركيز عليها بعيداً عن الموضوعية. بماذا تبرر ما يقال عن الكراهية العربية للغرب؟ - أنا أعتقد بوجود تلك الكراهية، لكن السبب في ذلك كان خداع الغرب للعرب، وفي العالم العربي باحثون كتبوا تفاصيل ما حدث مع الوفد العربي في فرساي، إذ لم يحظ الوفد باهتمام القادة الغربيين، ولم يستمع أحد لأعضاء الوفد، كانت هذه هي بداية الإحباط العربي، وهو موقف أوضح أن الغرب كان منافقاً، هذه بداية المشكلات الموجودة حتى اليوم بين العالمين العربي والغربي. وجود رجب طيب أردوغان ألا يشكل قلقاً لأوروبا لعودة الرجل القادر على إعادة الدولة العثمانية؟ - أستطيع أن أتفهم أن يكون الكثيرون من الأتراك مولعين به، لأنه يجمع بين الرموز الأتاتوركية من جانب والعثمانية من جانب آخر، لكن ما يؤسفني أن يعاني الشعب التركي من الانقسام بشأنه. معذرة، سؤالي كان عن الموقف الأوروبي منه، واحتمال وجود قلق؟ - قلق؟ لا أعتقد على الإطلاق. إنني أؤيد بشدة أن تكون مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي جادة. سيسعدني جداً انضمام تركيا إلى هذا الاتحاد، فهي واحدة من أكثر الدول انتعاشاً، ولديها شعب فيه نسبة شباب عالية، ومثير للإعجاب، لا أجد ما يبرر أي قلق، بل العكس هو الصحيح. في الحقيقة أعتقد أن الأفضل لتركيا أن تتعاون مع العالم العربي على إنشاء تحالف مشابه، يوحد جهودها لتمثل ثقلاً كبيراً للعرب والمسلمين، الذين يمتلكون مجتمعات شابه، وقدرات واعدة. الأوروبيين والجهاد وجود أوروبيين في ثكنات الجهاد في سورية والعراق إلى ماذا تعزوه؟ - أنا لست خبيراً في الشؤون الأمنية، لكني أعتقد أن الدوافع إلى ذلك اجتماعية في المقام الأول، هؤلاء الشباب لا ينالون التقدير الذي يستحقونه، وكذلك الظروف المعيشية لهم ليست مرضية، كثير منهم يعيش في فقر وفي عزلة عن بقية المجتمع. علاوة على ذلك فإن هناك دافعاً آخر للسفر إلى هناك، وهو حب المغامرة، إن ما يعرف باسم (السياحة القتالية) أمر معروف في التاريخ، مثلاً في فترة الحرب الأهلية الإسبانية، كان الشيوعيون الألمان والإنكليز يسافرون إلى هناك لدعم شركائهم في الآيديولوجية، وفي المقابل كان الفاشيون الإيطاليون يسافرون إلى هناك ليدعموا حلفاءهم، لكن العامل الاجتماعي أقوى وأهم. أي أن المعالجة الأمنية وحدها لا تكفي؟ - صحيح، لابد من مراعاة البعد الاجتماعي المهم جداً. هل هناك جدوى من الحوار مع المتطرفين والاستماع إليهم؟ - أنا مؤمن بجدوى الحوار، ولا أرى بديلاً عنه، الحديث بين مختلف الأطراف، يسهم في التوصل إلى حلول، مهما كان الاحتمال ضئيلاً، فهو أفضل من رفض الحوار، الذي يستحيل معه التوصل إلى أي حل. الحربان العالميتان الأولى والثانية أعادتا تشكيل الخريطة السياسية في العالم، هل أعاد من يطلقون على أنفسهم اسم المجاهدين تشكيل خريطة العالم الإسلامي؟ - حسناً أنا أرى بأن اتفاق سايكس بيكو هو أساس المشكلة في العالم العربي، وما زال له آثاره السلبية حتى اليوم، وهناك كثيرون يرفضونه، ولا يقتصر الأمر على «داعش»، بل لعل هذا الرفض الشعبي لهذا الاتفاق، هو الذي يوفر المزيد من الدعم لهذا التنظيم، لذلك من الأفضل السعي لحل مشكلات الحدود والأقليات العرقية في المنطقة العربية، والمشكلات المذهبية، والعنصرية، كل ذلك سيسهم في تهدئة الأوضاع. ذكرت في كتابك أن وسائل الإعلام البريطانية استطاعت فرض روايتها للأحداث، فهل ما زالت وسائل الإعلام الحديثة تمارس هذا الدور الدعائي، على رغم ما تزعمه من استقلالية وموضوعية وحيادية؟ - قضية فرض رؤية أحادية للأحداث، لم تعد بالأمر السهل، على الأقل بسبب وجود «الإنترنت»، والذي يتيح للكثير من القوى المستقلة عن وسائل الإعلام، نشر رؤية مخالفة لها. طبعاً هناك قنوات تلفزيونية لها توجهات واضحة مثل (فوكس) في الولاياتالمتحدة، ولذلك فإن الخطوة التي قامت بها قناة (الجزيرة)، بتوفير رؤية مختلفة للمشاهد الأميركي، سيكون لها تأثيره الإيجابي، فكلما تعددت الرؤى والآراء، كلما استفاد المشاهد من هذه التعددية. اسمح لي أن أشير إلى أن كتابك كان ملتزماً دوماً بالحيادية وعرض رؤى متعددة، إلا في أمر واحد، عندما تحدثت عن نبي الإسلام، إذ ورد هناك قولك: «حتى محمد كان يضع المبررات الدينية للأهداف الدنيوية». أليس في ذلك كثير من التجني عليه؟ - دعني أولاً أوضح أنني لست شخصاً متديناً، ولذلك أنظر إلى محمد وعيسى بطريقة دنيوية، إنني أعتبرهما شخصيات عظيمة ومثيرة للإعجاب. عيسى كان شخصاً ثار على الحكم الروماني والمفاهيم اليهودية بالطريقة التي كانت تمارس بها آنذاك، وكذلك فعل محمد في قومه، بهذه الطريقة الدنيوية أنظر إليهما، كم كنت أتمنى أن أكون مؤمناً بالدين، عندها كنت سأنظر بالتأكيد لهذه الأمور بطريقة مختلفة. «جهاد - صنع في ألمانيا» دوافعه إيجابية يتحث ضيفنا عن مصطلح «جهاد - صنع في ألمانيا»، الذي استخدمته الدول الاستعمارية وخصوصاً بريطانيا فيقول: «هذا المصطلح عبارة عن وسيلة لإساءة السمعة وانتقاد الاستراتيجية الألمانية، والمقصود بالمصطلح هو المزاعم بأن السلطان العثماني أعلن الجهاد بناء على رغبة الألمان، وأن الألمان هم الذين أغروا العرب بل والشرق الأوسط كله بخوض المعارك في إطار الجهاد ضد الغرب. لكن من يراجع تاريخ الدولة العثمانية يجد أن السلطان العثماني طالما أعلن الجهاد في مناسبات عدة، ولذلك لا ينبغي المبالغة في تقويم إعلان الجهاد في هذه المرة». ويضيف أن الجهاد آنذاك لم يكن منطلقاً من مفاهيم دينية بقدر ما كان منطلقاً من دوافع قومية تحريرية لإني «أعتقد أن المفهوم الديني للحرب أو الجهاد، إنما ينطلق من دوافع إيجابية، ليس الهدف منها التدمير، بل له أهداف إيجابية كثيرة مثل الدفاع عن الشعب وعن الوطن ونيل الحرية ومنع الظلم. وفي فترة الحرب العالمية الأولى كان هناك تطابق بين الأهداف الدينية والقومية، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الألمان أيضاً كانوا يدخلون المعارك وهم يرفعون شعار «الرب معنا»، ولذلك فإن شحن المشاعر الدينية في المعارك ليس مقتصراً على المسلمين». وحول استخدام المشاعر الدينية في الحروب يرى كرويتسر «أن البريطانيين استغلوا المشاعر الدينية واستغلوا مفهوم الجهاد أيضاً، ووجدوا رجال الدين المسلمين الذين دعموهم، لكنهم كان يدعون إلى الجهاد ضد الألمان، أما المبررات العقلانية التي ساقوها حول منح العرب استقلالهم، فكانت كاذبة كما ذكرت في سؤالك، حتى لورانس الذي كان صديقاً للعرب صدق هذه المزاعم، ثم تبيّن أنه تعرض أيضاً للخديعة من زعماء بلاده». سيرة ذاتية... - من مواليد عام 1978، درس التاريخ القديم والحديث، وتاريخ الشرق الأوسط وثقافته، علاوة على علم الدراسات التركية. - تتركز أبحاثه على فترة حكم القيصر فلهلم لألمانيا، أو ما يعرف بألمانيا الفلهلمينية، وذلك في الفترة من 1890 – 1918، وعلاقات ألمانيا في هذه الفترة مع الشرق الأوسط، وبخاصة مع كل من تركيا وبلاد فارس وأفغانستان، وتاريخ الحرب العالمية الأولى. - يقوم حالياً بإعداد أطروحة الدكتوراه في جامعة لودفيج ماكسميليان في ميونيخ، والتي يتناول فيها حياة الديبلوماسي الألماني فلهلم فاسموس وأعماله. - نشر العديد من الأبحاث حول المستشرق ماكس فون أوبنهايم، والديبلوماسي فلهلم فاسموس، واستخدام الغازات السامة في الحروب العالمية. علاوة على كتابه «الجهاد من أجل القيصر الألماني».