يتعرّف الجمهور السويدي حالياً على الكاتب الصيني غاو كسينغيان الفائز بجائزة نوبل لهذا العام كمؤلف مسرحي من خلال مسرحية له تعرض على خشبة المسرح الدرامي الملكي السويدي وعنوانها "بين الحياة والموت". تحكي المسرحية عن امرأة في منتصف العمر تمر بأصعب مراحل حياتها عندما تشعر انها أصبحت مستهلكة دنيوياً، وتبدأ بالعودة الى الوراء لتستعيد الذكريات الجميلة والمؤلمة التي مرت بها والتي يمر بها كل انسان. يجلس شريك حياتها على كنبة قديمة، بنية اللون، صامتاً لا ينطق بأي كلمة طيلة فترة المسرحية بل يكتفي بالاستماع الى زوجته التي تتكلم عن نفسها بصيغة الشخص الثالث. وهنا يظهر أسلوب كسينغيان بوضوح، فالذي يميز مسرحياته ورواياته انه يتكلم عن الأنا بلغة الشخص الثالث، كما في روايته "انجيل الانسان الوحيد" 1999 فيعود بالذاكرة الى الثورة الثقافية في الصين ومراحل التغييرات الاجتماعية والسياسية في بلده الأم ويصف الشخصيات المختلفة التي لبسها منذ دخوله مرحلة الشباب حتى انتقاله الى فرنسا في منتصف الثمانينات، ويتكلم عن تلك الأحداث مع فتاة المانية بصيغة الشخص الثالث. ولكن شخصية كسينغيان لا تقتصر على المشهد الأول للمسرحية، فهي موجودة في كل تفاصيل المسرحية التي تحمل المشاهد الى منزل صغير من غرفتين معتمتين في مكان ما في هذا العالم. الغرفة الثانية المقابلة لمدرجات المسرح خالية من الآثاث نهائياً. الضوء الخفيف مسلط عليها في شكل دائري. أما الغرفة الامامية حيث خشبة المسرح، فموصولة مباشرة بالمدرجات، أي لا يفصل خشبة المسرح عن مدرجات الجمهور أي حاجز. وعلى أرض المسرح بعض الأثاث الشبيه بأثاث الفنادق الزهيدة الثمن. والزوجة تتجول في أرض الغرفة الصغيرة موجهة حديثها للرجل حيناً وللجمهور احياناً وتتكلم عن مراحل حياتها منذ فترة الشباب، وتقول: "هي تقول، انها عندما تريد ان تملك شيئاً فهي تريد امتلاكه حتى النهاية. تريد ان تملكه هو، تملكه وتملك كل مشاعره، حتى العتمة وكل الحركات والأصوات التي تتسع العتمة لها". وتستمر بالشرح على هذا المنوال طوال فترة المسرحية محاولة ان تجذب اهتمام الشخص الجالس على الكنبة وبيده صحيفة ولكن من دون جدوى، فهو لا يعيرها أي اهتمام كما انه لا يهتز لأية حادثة ترويها المرأة المتألمة من جروح السنين والمتعطشة لحب مجهول اشتاقت الى رائحته. وكلما وصلت الى حدود فقدان السيطرة على اعصابها تقول: "هي لا تريد ان تعيش هذه الحياة بعد الآن، انها تريد الخروج من هذه الدوامة، تريد ان تلتقي شخصاً يبادلها مشاعر الحب، هذا كل ما تطلبه، اظهار المشاعر التي كان يطوقها بها منذ زمن طويل، كان اذ ينظر اليها تشعر بالرغبة في امتلاكه، الحصول عليه كله". وعندما تقول تلك الجمل تقدمها بأسلوب غرامي ممتاز فيتفاعل، مع النص ويستسلم للرحلة المشوقة الغرامية، ثم تتابع: "ولكنها لا تشعر انه موجود معها في الغرفة نفسها، تريد الانفصال عنه والبحث عن حب جديد، لا تريده بعد اليوم وهي تشعر بندم كبير لأنها شاركته السرير نفسه وطاولة الطعام نفسها والجلسات الاجتماعية نفسها طيلة هذه السنين، كل ذلك انتهى وتحلم اليوم ان تحصل على أي شيء، أي شيء حتى ولو اقتصرت على ليلة غرامية واحدة مع أي شخص كان". وتنجح الممثلة بالانتقال من دور غرامي نوستالجي الى دور تراجيدي يتخلله بعض الكوميديا السوداء. وتستخدم في سردها ترجمة تتطابق تماماً مع النص الأصلي للمسرحية. تقول: "انها تشعر بالحياة الميتة معه، تشعر انها لا يمكنها ان تعيش برفقته بعد الآن، علاقته وعلاقتها تشبه الخيالات التي تتحرك من دون ارواح". ينتظر الجمهور لفترة طويلة ان يأتي الرجل الجالس برده فعل ما. ولكن كلما اشتكت زوجته من الحياة الميتة وقالت انها تريد ان تهجره يمد يده بسرعة ويعطيها مفتاح الباب لتخرج الا انها تعود عن قرارها. وفي هذا المشهد الذي يتكرر مراراً ينجح كل من الكاتب كسينغيان والمخرج السويدي ستافان روس، في وصف حال التردد التي يقع فيها الانسان عندما يريد ان يتحرر من دائرة الملل المميتة التي تحيط به في علاقاته البشرية المهترئة، وكلما اراد ان يخترق دائرة العنف النفسي اصطدم بجدار وعاد الى الدائرة ليتصارع مع نفسه ومع المشكلات اليومية. ويرافق هذا الصراع والتردد الذي يدور في خيال الممثلة التي لا تعطى أي اسم فني في المسرحية تماماً مثل الشخصيات الموجودة في معظم روايات كسينغيان المجردة من الأسماء ترافقها طيلة فترة احداث وتفاصيل المسرحية المرأة جميلة المظهر تقف في الغرفة الثانية الخالية من الأثاث. ولكن المميز في تلك المرأة انها لا تتكلم بل ترافق حركات صاحبة الدور الرئيسي الموجودة في الغرفة الأولى. دور امرأة رقم 2 ان تظهر من خلال حركات جسدها الوجع الذي تصفه المرأة الأولى بالكلام. وعندما تحكي صاحبة الدور الرئيسي عن مرحلة مؤلمة تتألم الأخرى جسدياً، وتبتسم فرحاً عندما تمر المرأة الأولى على حكاية جميلة. وبعد وقت قصير يكتشف المشاهد ان المرأة في الغرفة الثانية هي نفسها الموجودة امامه في الغرفة الأولى، ولكن صاحبة الدور الرئيسي التي تتكلم طيلة الوقت يظهر على وجهها تجاعيد السنين والتعب الا ان الواقفة ضمن دائرة الضوء تتمتع بوجه أبيض جميل يبعث الطمأنينة في النفوس. وهنا تظهر اشارة اخرى يبرز خلالها الكاتب كسينغيان، فهو يفصل الروح عن الجسد ويعطي الجسد تعب السنين الا ان الروح الواقفة في دائرة الضوء والتي تنده لصاحبة الجسد المثقل بالهموم ان تنتقل اليها، تتمتع بجمال خلاب. يعطي الكاتب شكلاً ملموساً لإيمانه، وهذا يصبح أكثر وضوحاً عندما تقول الممثلة الرئيسية: "انا أعرف ان بوذا قال ان الانسان يعيش حياة مؤلمة طيلة فترة وجوده في الحياة الدنيا، ولا يتحرر منها الا بعد ان ينتقل الى الحياة الأبدية"، وكما هو معروف فالاعتقاد البوذي مبني على تفسيرات كهذه عن الحياة والموت، كما ان البوذية تشجع على التجرد من الماديات والتمسك بالحياة الجميلة المنتظرة خلف جدار الموت، وهذا ما يحاول كسينغيان ايصاله الى الجمهور. ينجح المخرج السويدي ستافان روس في رسم كلمات كسينغيان على خشبة المسرح بطريقة ممتازة، كما انه يساعد في رسم التفاصيل التي يظهر منها وجه كسينغيان مرات عدة الا ان أكثرها وضوحاً تلك التي تأثر بها الكاتب في بيئته مثل النظرية البوذية والتجرد من الكماليات والصراع بين الروح والمشاعر. هذا الصراع لا ينتمي الى أي بيئة معينة، فله تفسيرات مختلفة في المجتمعات الا ان مضمونه هو هو، الصراع الأبدي بين التمتع بالحياة التي تفسر في معظم الاحيان بطريقة مادية، والراحة الروحية التي يعتقد في معظم الأحيان ان الانسان يمكن ان يحققها من خلال الترفع عن الماديات. وفي الحالين يحاول كسينغيان ان يقول للمشاهد انه من المستحيل تحقيق كل ذلك، ليس في الحياة الدنيا على الأقل. وبما ان كسينغيان يدور وينتقل من حياة دنيوية الى حياة خلف الموت فيتمكن من رسم دائرة واسعة لترجمة احداث المسرحية فهو ينجح في الوصول الى مشاعر كل فرد من الجمهور لأن الذي تحكيه المسرحية له ارتباط مباشر بكل البشر من دون اي اعتبار للثقافة أو البيئة أو حتى الديانة، فصراع الروح والمشاعر موجود منذ ولادة أول انسان على الأرض ويستمر مرافقاً للبشرية حتى نهاية المخلوقات الانسانية على الأرض. فالمشكلات اليومية التي تمر بها الأنثى مع الذكر هي مشكلات كونية موجودة في كل المجتمعات، واختيار كسينغيان لهذه المادة بالذات تخوله الدخول الى أي خشبة مسرح عالمية. ولكن كسينغيان المعروف عن رواياته ان لها شعار "البقية تتبع"، لا يشبع الجمهور فالجميع ينتظر ان يعطي كسينغيان اقتراحاً لحل معين قد يكون ملائماً لما يصفه بالصراع الأبدي بين الروح والمتعة، الا ان كسينغيان كغيره من البشر لا يعطي جواباً واضحاً وعلى الأرجح فان تمنع كسينغيان عن اعطاء جواب واضح عن تلك الأسئلة المعقدة ينبع من اقتناعه بأن لا جواب واضحاً على تلك الأسئلة، لذا يترك لكل فرد منا ان يشاهد ما يعرضه الكاتب لنحلله بطرق متنوعة تكون متلائمة مع حجم مشكلات كل فرد في الدنيا. يتمتع النص الذي يقدمه كسينغيان بصفات فنية عدة، فهو درامي وعاطفي، وكوميدي وتراجيدي، كما انه من السهل الجميل الذي يفرح الانسان لمشاهدة وقائعه، ولكن الذي يساعد في خلق صور للنص المكتوب التقنيات المسرحية الناجحة التي تقدم على مسرح الدراما الملكي. فالمخرج يختار تقنية اظهار الجدار الفاصل بين الغرفة الأولى والثانية،أي غرفة الحياة وغرفة ما بعد الحياة، والجدار هو فتحة باب فاصل بين الغرفتين ولكنه مفتوح ويعطي اشارات الكترونية تشبه الصاعقة. تلك الاشارات التي تلمع عندما تنفصل روح الممثلة عن جسدها ولحظة انتقالها الى خلف الجدار، وبهذا يسهل المخرج على المشاهد فهم ما يعنيه بالغرفتين، أي الحياة الدنيا والحياة الآخرة. كما يرافق كل الحركات والضربات اشارات صوتية تساعد على اجتذاب مشاعر الجمهور ليرافق احداث المسرحية. والنص المسرحي لا يخلو من مشاهد غير متوقعة مثل الانتقال المفاجئ من الحال الدرامية الى الحال الكوميدية أو العكس. كما ان الرموز الكثيرة والمتنوعة الموجودة في المسرحية تشرك المشاهد في الذي يحدث، فالمقصات الموجودة على أرض المسرح منذ البداية والتي يدوس عليها الجمهور من دون ان ينتبه اثناء دخوله المسرح، تجاوب عن نفسها عندما يتبين في منتصف ونهاية المسرحية ان المرأة التي تسرد وقائع حياتها تحاول الانتحار مرات باستخدام المقص الا انها تفشل دوماً في تنفيذ رغبة الروح في الانتقال الى العالم الآخر. وتستمر تلك المحاولات حتى آخر مشهد عندما تدخل الروح بنفسها الى عالم الاحياء وتحمل تلك المرأة وراء جدار الموت. ويدب الصمت المعتم على خشبة المسرح.