بدا سابقاً أن اللهجة التونسية إذ تستخدم في عرض مسرحي فإنها تشكل عائقاً أمام تحقيق تواصل أعمق لدى المشاهد الأردني. ليس من جهة فهم دلالته الواسعة بل من جهة التعرف الى البنية الحكائية للعمل وعلاقة الملفوظ بحركة الجسد الموازية له. غير أن "نواصي" تلك المسرحية المشتركة بين فرقتي "مسرح الفوانيس" - الأردن و"المسرح العضوي" و"فضاء الحمراء" - تونس وهو كان عرض الافتتاح في الدورة السابعة لأيام عمان المسرحية الملتقى الدولي للفرق المسرحية المستقلة التي تنتهي في العاشر من الجاري. غير أن "نواصي" باشتراك الممثلين محتسب عارف وسحر خليفة اقترنت بمسرح عزالدين قنون من المشاهد الأردني وأدت لهجتهما الأردنية أو العمّانية على وجه التحديد دوراً كبيراً في فهم مسارات البنية الحكائية للعرض ورصد التحولات الحادثة في الشخصيات في مستوياتها المتعددة. في هذا العرض تخفف قنون كثيراً من التفاصيل الكبيرة على الخشبة بل إن خفتها المريحة بصرياً أعطت للون /الضوء أن يكون فاعلاً وأكيداً في السينوغرافيا وفي توجيه إحساس المشاهد نحو بؤرة الحالة المسرحية التي يريدها أو يقولها العرض. وحقاً بدا قنون رساماً على عناية بمزج اللون وتحديد شدة اضاءته كأن يعطي المشاهد احساساً بتورطه بلحظة التوتر والانفعال التي انفتح عليها العرض واستمرت طيلة المشاهد التي خلت من الاسترخاء واستغرقت قرابة الساعتين. بدءاً من اللغة يتوتر جسد الممثل ليشمل ذلك الخشبة كلها ويبقى الممثلون فترات طويلة مشدودين كأوتار في قوس. هكذا كان العمل ممسوكاً بشدة الى رؤية اخراجية صارمة تتحكم في ايقاعه وتأبى الخروج عليه. ففي حين بدا أن الممثلين في تونس: ليلى طوبال وتوفيق العايب ومنعم الشويات وسيرين قنون قادرون على التعامل بيسر مع المخرج قنون بخبراتهم السابقة في "المسرح العضوي" و"فضاء الحمراء" فإن محتسب عارف وسحر خليفة قدما جهداً واضحاً في منح العمل طابعه الذي يميز مسرح قنون وفي الحفاظ على أنهما ممثلان قادمان من تجربة أخرى. غير أن ما أضيف إليهما هو المقدرة على تحقيق حضور صادم ومفاجئ في لحظة قصوى من التوتر على الخشبة هي لحظة الظهور. والى ذلك يمكن القول بأنه كان في الامكان تكثيفه أكثر من دون المساس بروحه. ففي العرض مشاهد مرسومة بعناية لكنها فائضة وتحتاج مقصاً جريئاً لأنها تسير بالمسرحية في خط أفقي وليس عمودياً على صعيد الشخصيات وصلتها بالموضوع المطروح وهو قضية المرأة عموماً. حتى تقديم مسرحية "أرخبيل" لعصام بوخالد من لبنان و"حكي جرايد" لرشيد ملحس من الاردن عرض عدد من المسرحيات من بينها "الأسى" لفرقة "النسر" من ساحل العاج و"صحراء" لمسرح بونير من هولندا و"قوة الجاذبية" لبيل شانون من أميركا و"شعلو الحرائق" لعماد عطوني المخرج المسرحي السوري المقيم في عمان و"عيشة" لفرقة مسرح الرصيف في سورية و"منطق الطير" لمؤسسة "يوم المسرح" من فلسطين. وتبقت عروض اخرى كثيرة من دول عربية وأجنبية من بينها "جسر العودة" لمسرح الفوانيس و"ورود حمراء حمراء" لكريس نيكلسون من هولندا و"الأمل" لمسرح فو من تونس و"تلات نسوان طوال" من لبنان وسواها. ومن شاهد العرض المسرحي الكوريغرافي "الأسى" الافريقي كان كمن ينتهي من قراءة قصيدة مدهشة قالها جسد. في حكاية نساء اربع جئن من ساحل العاج.. جسد يستجيب للنداءات الخفية الطالعة من الموسيقى بطاقة عنيفة وهائلة ومقدرة عالية في التحكم بأدواته. كانت الراقصة الواحدة من الراقصات الافريقيات الأربع حين يأتين بأوضاع مسرحية يبقين جسد الواحدة منهن في فرديته مما يمنح الرقص الجماعي ديناميكية وخيالاً. وعندما كان ينعتق الجسد لبعض الوقت من الموسيقى يظل محموماً فيما كانت أدوات الرقص والتمثيل تأخذ الجسد الى تجاوز الايقاع المسموع الى آخر من صنيع الاصغاء والى هواجس التكوين العميق لذات الجسد الافريقية. حدث ذلك من دون أن يبدو الجسد للناظر اليه مشدوداً بل كأنه يتنفس بارتياح وليس مغلقاً على توتر في منطقة معدومة الهواء ولا يحتاج الى أكثر من هوية لونه ليعبر عن وجدانه الحضاري وعمقه وثقافته على رغم اتصال التصميم بمدارس الرقص الحديث. وظل لا يحتاج الى ما هو خارج روحه للتعبير عن مقدرته على الاستيهام بمزاجه الخاص واشراك المشاهد في لعبته الى ذلك الحد الذي معه كان الجسد الافريقي في ليونته واختلاجاته كأنه قادم من حلم غابة خضراء... جسد "جننته" الموسيقى وظل يروي أساه وجماله في مخيلات الذين شاهدوا العرض ويلح عليهم بأسئلته عبر مفارقة شعرية... هي الشعرية الفائقة للجسد. مع مونودراما "عيشة" لرولا فتال اخراجاً وحكيم المرزوقي كاتباً والتي جسدتها الممثلة مها الصالح ندخل الى حياة امرأة في "انتظار" من شأنه أن يثير المخيلة... تحكي الممثلة كما لو أنها تحدث نفسها عن ماض ما ربما يخصها وربما لا. الذاكرة هنا خشبة مسرح تدخل شخصيات وأخرى تخرج منها و"عيشة" تحلل وتركب تلك الشخصيات مثلما تريد لنا أن نراها. ومن الفضاء التخييلي للحكي المسرحي مرتبطاً بجرأة أداء الممثلة الصالح وانسيابه يعيش المرء حالاً من الكوميديا السوداء بمزاج "شامي" لو صح الوصف. ولكن ما من ياسمين ها هنا. فقط هما الصندوق وساعة الحائد التي لا تعمل. اداتان تديرهما رولا الفتال في تحولات تحمل المشاهد الى تأويلات مشهدية عدة إذ تستخدمهما الممثلة في غير سياق حكائي. ولعلّ التأكيد على "وحشة الجسد" وعزلة صاحبته يجيء من جهة اللون/ الضوء بل من خفته و"عيشة" تكاد تحضر وتغيب مثلما هي في الحكي... هنا كان العرض أكثر انسجاماً مع ايقاعها نفسه وانشداده الى صوته الخاص. أما "صحراء" لمسرح بونير فهي تدفع بالمشاهد الى الدخول مباشرة في الزمن الافتراضي للعرض أو لصورة العرض في معنى أدق. وذلك ما أن يطأ بقدميه خشبة المسرح التي تحولت الى جلسة "مقهى" في حارة شعبية. فالممثل يحمل كاميراه ويجول بين المشاهدين الذين يرون أنفسهم مباشرة على اثنتين من ثلاث شاشات عرض تحيط بهم والعمق الجغرافي والزمني سوف يجد امتداده في تلك "السينما". ما من حكاية واضحة في "صحراء" بل بنية متماسكة لتداعيات واقتطاعات من ذكريات تقولها الممثلة بينما ممثلة أخرى في أدائها الكوريغرافي تصنع في أدائها جسراً بين المسرح والسينما، بين الوهم والواقع، بين الصورة الافتراضية في زمنها الافتراضي والصورة المسرحية في زمنها المسرحي. "تفشل" الممثلة في اعطاء صورة واضحة عن أختها الضائعة لكن صحراء بأدواتها التقنية تثير أسئلة عميقة عن الزمن والذاكرة والحياة والموت والوجوديات الأخرى التي تحرك الراكد العميق في "النفس" المحض بمعزل عن هويتها وفي صميم وجدانها. وأخيراً بدأت ورشات مسرحية أعمالها على هامش أيام عمان المسرحية التي حملت اسم الرائد المسرحي الراحل هاني صنوبر.