"إفلات من العقاب".. تحذير دولي من استهداف ترامب ل"الجنائية الدولية"    اتصالات «مصرية - عربية» لتوحيد المواقف بشأن مخطط التهجير    حائل: القبض على شخص لترويجه مادتي الحشيش والإمفيتامين    تعاون برلماني بين السعودية وتايلند    المسلم رئيس لنادي الطرف لاربع سنوات قادمة    الإتحاد في انتظار موقف ميتاي    فقدان طائرة تحمل عشرة أشخاص في آلاسكا    الخريف يبحث الفرص الاستثمارية المشتركة في التعدين مع الهند    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    المفوض الأممي لحقوق الإنسان: عنف أشد "سيحل" شرقي الكونغو    واشنطن ترفض مشاركة«حزب الله» في الحكومة الجديدة    الأندية الإنجليزية تتفوق على السعودية في قائمة الانفاق في سوق الشتاء    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    "تعليم الرياض" يتصدرون جوائز معرض " إبداع 2025 " ب39 جائزة كبرى وخاصة    3 مستشفيات سعودية ضمن قائمة "براند فاينانس" لأفضل 250 مستشفى في العالم    أسعار النفط بين التذبذب والتراجع.. لعبة التوترات التجارية والمعروض المتزايد    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    الصقيع يجمد المياه في الأماكن المفتوحة بتبوك    مجمع الملك سلمان لصناعة السيارات.. الحلم تحول إلى واقع    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    طقس بارد وصقيع في شمال المملكة ورياح نشطة على الوسطى والشرقية    ملامح الزمن في ريشة زيدان: رحلة فنية عبر الماضي والحاضر والمستقبل    «تبادل القمصان»    ناقتك مرهّمة؟!    «سدايا»: طورنا أقصى قيمة ممكنة في الذكاء الاصطناعي لتبني الاستخدام المسؤول    كأس العالم للرياضات الإلكترونية يضم "FATALFURY" إلى قائمة بطولات الأندية لنسخة 2025    «حصوة وكرة غولف» في بطنك !    أدريان ميرونك يتصدر منافسات الأفراد في أول أيام بطولة "ليف جولف الرياض"    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    لأول مرة.. مبيعات التجارة الإلكترونية عبر «مدى» تتجاوز 1.000.000.000 عملية    ما العلاقة بين لقاحات كورونا وصحة القلب ؟    أضرار الأشعة فوق البنفسجية من النافذة    إنترميلان يسقط بثلاثية أمام فيورنتينا بالدوري الإيطالي    أرض الحضارات    الأردن: إخلاء 68 شخصاً حاصرهم الغبار في «معان»    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    دور وزارة الثقافة في وطن اقرأ    يا بخت من زار وخفف    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    كيف كنا وكيف أصبحنا    أمانة القصيم تُقيم برنامجًا في الإسعافات الأولية مع هيئة الهلال الأحمر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    الحميدي الرخيص في ذمة الله    تغيير مسمى ملعب الجوهرة إلى ملعب الإنماء حتى عام 2029م بعد فوز المصرف بعقد الاستثمار    ثبات محمد بن سلمان    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    آدم ينير منزل شريف    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    الشريف والمزين يزفان محمد    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    ملك الأردن : نرفض محاولة تهجير الفلسطينيين    "سدايا" تجمع روّاد الابتكار بمؤتمر" ليب".. السعودية مركز عالمي للتقنية والذكاء الاصطناعي    الرديني يحتفل بعقد قران نجله ساهر    ألما يعرض 30 عملا للفنانة وفاء الشهراني    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آل بوش وايديولوجيا اليمين الاميركي 2 . مسار الجمهوريين ما بين غولدووتر وريغان
نشر في الحياة يوم 19 - 05 - 2001

لم يتأخر جورج بوش الأب في خوض معترك السياسة الجنوبية. ففي 1964 ترشح لعضوية مجلس الشيوخ عن الجمهوريين، لكن الديموقراطي والليبرالي رالف ياربورو هزمه. والهزيمة، في الأحوال كافة، لم تكن معيبة اذ صبّت له بكثافة اصوات المناطق والبلدات الصغرى.
بيد أن معركته لم تسترع كبير انتباه. فقبل عام، في ظهيرة 22 تشرين الثاني نوفمبر 1963، وفي مدينة دالاس التكساسية، اغتيل الرئيس الديموقراطي جون كينيدي مثلما اغتيل قاتله لي هارفي أوزوالد فيما كان يُنقل من سجن الى سجن. هذا الحدث الذي شاهده الاميركيون على الشاشة الصغرى، ذكّر كثيرين بالصفة التكساسية التي كادت تُنتسى، وابتدأ البحث عن "المطلوب" يشغل البيوت تماماً كما يشغل رجال التحرّي.
شبهاتٌ كثيرة حوّمت حول كوبا الكاستروية، لكن شبهات أقوى حوّمت ولا تزال حول السي. آي .إي والمافيا الكوبية التي اعتبرت ان جون وروبرت كينيدي خاناها. وما بين النظر الى الاغتيال كمسلسل متخم بالبوليسية المشوّقة، والعطف على الرئيس وارملته الجميلة، واكتشاف وجه آخر وفوري للتلفزيون، طغى الاغتيال وذيوله على سائر ما يحصل في البلد، ناهيك عن الولاية. فكيف وقد اتصل بتحليلات سياسية تستدعي المؤامرة اتصاله بمشاعر بسيكولوجية تستحضر الذنب؟
الحقوق المدنية
لكن حدثاً وحيداً آخر ما لبث ان تفوّق على مصرع الرئيس. فقد أصدر نائب كينيدي الذي حلّ محله في البيت الأبيض، ليندون جونسون، مرسوم الحقوق المدنية اعترافاً متأخراً بمساواة السود ورفضاً لعزلهم القسري عن البيض. وهذا الانجاز الكبير لادارة ديموقراطية هو ما واجهته المؤسسة التقليدية لحزب بوش الأب بالحيرة. فهي كانت حينذاك تهيء لمعركة ما بعد كينيدي. وكينيدي، كما هو معروف، لم يتغلب على ريتشارد نيكسون في 1960 الا بفارق أصوات قليلة جداً لعب فيها التلفزيون دوره. وبذا قُيّض للمرشح فالرئيس الديموقراطي انهاء ادارتين جمهوريتين لدوايت أيزنهاور شغل خلالهما نيكسون نفسه نيابة الرئاسة.
لكن الحيرة أسوأ أنواع التحضير للمعارك الفاصلة. ولأنها كذلك، بات السناتور باري غولدووتر النجم الصاعد في سماء الحزب الجمهوري. ففي مقابل ارتباك مؤسسته الشمالية الشرقية، امتلك هذا الآتي من أريزونا في أقصى الجنوب الغربي، والمعجب بالتقاليد العسكرية، موقفاً قاطعاً كالسيف: العداء والرفض لحقوق السود. بهذا وجدت الغرائز التي قمعها التهذيب صوتها الداوي، فانكفأ في مواجهتها الصوت الذي لم يملك الا التهذيب.
وغولدووتر كان، بالفعل، أول من أطاح النزعة الجمهورية التقليدية لمصلحة "المحافظة"، بحسب النعت الذي اعتمده الحزب لنفسه للمرة الأولى. صحيح ان الجمهوريين حووا جوزيف مكارثي من قبل، وبات بوكانان من بعد، الا ان الاثنين ظلا على هوامشهم ولم يتحولا قائدين لتيار الحزب العريض. واذا جاز ان نيكسون نفسه كان ضالعاً في التطرف، شعبوياً في مواجهة ثراء آل كينيدي، غير ان تطرفه ظل من النوع الجيوبوليتيكي أساساً، فلم يؤسس دعوىً وركيزةً داخل الحزب والبلد. ومن غير استبعاد الكذب عن الايديولوجيين، يبقى ان نيكسون امتلك من ملَكات الكذب ما يفيض عن طاقة اية ايديولوجيا، وهذا ما لا يصحّ في باري غولدووتر الذي كرهه دائماً وسمّاه "الكذّاب".
والحال أن الاخير كان النقلة التي نرى الآن بعض تداعياتها في جورج بوش الابن ولو ان أباه، الأقرب الى نيكسون، حاول التنصّل من ابداء المواقف القاطعة بشأنها. فقد كانت البصمات العقائدية حادة على سيرة غولدووتر: فهو كجمهوري شاب في مجلس الشيوخ، هاجم رئيسه وجنراله ايزنهاور واتهمه بممالأة اقتصاد النيو ديل الروزفلتي والكينزي، ومراراً صوّت ضد رغبته. وفي معركته لنيل ترشيح حزبه للرئاسة أطلق حملة ديماغوجية، مسعورة ودنيئة، ضد نيلسون روكفلر. ولم يتردد في تعيير الحصن الاقوى للجمهورية التقليدية بالتعالي، منبّهاً الى أصوله الاريستوقراطية في الشمال الشرقي، وبطلاقه الذي اعقبه زواج. ثم حطّم منافسه الآخر وليم ورن سكرانتون، مبعداً عن الصدارة رموز المؤسسة التقليدية ممن رعاهم ايزنهاور.
ولم يكن بوش الأب راضياً عن هذا الانقلاب. فهو، برغم انغماسه في الجنوب، لم ينس انه صدر اصلاً عن المؤسسة الشمالية الشرقية التي انتمى اليها ابوه عضواً صغيراً. هكذا بدا جورج عِرقاً على شيء من الاختلاط في زمن يهدد بالصفاء.
والصفاء ما حدا بغولدووتر الى ان يختار نائبه وجهاً نضالياً هو وليم ميلر، غير المعروف خارج الحزب وغير المحبوب داخله. اما الشعار الذي انتقاه لمعركته فكان بادي الدلالة: "التطرف دفاعاً عن الحرية ليس رذيلة، والاعتدال في طلب العدل ليس فضيلة". وكانت المفارقة ان هذا المؤسس للمحافظة جعل التطرف، للمرة الاولى، تسمية لليمين بعدما اقتصر طويلاً على تعيين الراديكالية اليسارية والليبرالية و"اللا أميركية" عموماً.
لكن سبباً آخر يفسّر اعتماد غولدووتر من بين سائر جمهوريي الصف الثاني الذين عارضوا الحقوق المدنية. فهو اليميني المتطرف الوحيد الذي يمكن اظهاره على شاشة التلفزيون. والحق، وكما كتب راسل بايكر في "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، أن عدد ممثلي هذه القبيلة في الكونغرس بدأ يتراجع في 1958 تحديداً بسبب التلفزيون الذي ضرب يومها ضربته الاولى قبل مواجهة كينيدي ونيكسون ثم اغتيال الأول. فهؤلاء الريفيون الافظاظ والمهووسون شرعوا يدفعون ثمن ظهورهم على الشاشة الصغيرة وانكشافهم الجمعي للرأي العام.
هكذا أُرّخ بالتلفزيون للسيطرة الكاسحة التي احرزها الديموقراطيون على مجلس الشيوخ عامذاك. ويكفي القول ان الوجه الثاني لليمين الحزبي كان جون بيرشر الذي قامت دعاوته السياسية على ان ايزنهاور "شيوعي متستّر"، فيما كان احد زعماء المتطرفين الجمهوريين في كاليفورنيا، جيمس أوتّ، يعلن عام 1963، أن "فصيلاً كبيراً من الأفارقة الحفاة الأقدام" ربما كان يتدرّب في جورجيا السوفياتية كجزء من تمرينات عسكرية تجريها الامم المتحدة للاستيلاء على الولايات المتحدة.
دور فيتنام
وغولدووتر، على عكس رفاقه، شَابَهَ البني آدميين، وكانت له ضحكة جار أليف. وهو، من الناحية الأخرى، لم يَسهَ عن العدّة الاخرى الضرورية في النشاط الايديولوجي: الكتب. فمنذ 1960، حين عصف به أول الطموح، استدعى برنت بوزيل ليكتب له ايديولوجيةً وبرنامجاً محافظين. وفعلاً تحول "ضمير محافظ" بقلم غولدووتر الى احد "الاكثر مبيعاً". ثم كان له، في 1962، كتاب آخر نفدت ملايين نسخه وحمل عنواناً أشد مبادرة وتوكيداً: "لم لا يكون نجاح؟".
وببراءة لم تكن معهودة في السياسة الاميركية وخلاصية لم تكن مألوفة في خطابها، افترض كتابه الاول ان المجتمع مهدد بالانحطاط. أما السبب فأن الجمهوريين، فضلاً عن الديموقراطيين، تخلوا عن احترام الدستور، ورفضوا اتخاذ الاجراءات البسيطة، والراديكالية في آن، لاعادة أميركا كُلاً واحداً. فالهدف الجمهوري، في عرف غولدووتر، هو "توفير الكمية القصوى من الحرية للافراد على نحو يجانس النظام الاجتماعي". فالمحافظ الحق، على سبيل المثال، يلغي الدعم للمَزارع محرراً المُزارع الفرد من التعرض للتحديات نفسها التي تطرحها السوق الحرة على الاميركان الآخرين. والمحافظ يلغي ضريبة الدخل التصاعدية كذلك، مستعيداً المساواة في فرض الضرائب على الجميع. هكذا يدفع الكلّ نسبة ضريبية واحدة، فقراء كانوا ام اغنياء. وبدورها فالحكومة الفيديرالية المحافظة عليها وقف مشاريع الانفاق المسرفة، بما في ذلك الضمان الاجتماعي والتعليم والاسكان العام والانارة والتدفئة وبرامج الانعاش المديني. وفي المقابل حبّذ غولدووتر الاختلاط في المدارس، الا انه نفى ان تكون للمحكمة العليا السلطة الدستورية لفرضه طالما ان التعليم هو الاختصاص الوحيد للدولة والحكومات المحلية.
أما في السياسة الخارجية، فاستشرف الكتاب نصراً تحققه الشيوعية السوفياتية أغلب الظن أن نيكيتا خروتشوف كان اول من ادرك تهافته. وما مردّ النصر الا "الخوف الجبان من الموت" الذي تسلل الى نفس اميركا حتى باتت الحرب النووية تبتزّها بأسهل ما يكون. والعيب هذا يعالجه المرشح الجمهوري اللاحق بالخطابة: فما ينبغي جعله حجر الزاوية في السياسة الخارجية انما هو "إيثار الموت على خسارة حريتنا".
وكثرة ايراد "الموت"، فضلاً عن اصدار الكتب، توحي بيمين متشائم هو غير ذاك اليمين الأبله الذي نلقاه اليوم على محيّا جورج دبليو. لكن النبرة المأسوية التي تشبّثت بغولدووتر ثم بحزبه، كانت نذيراً بالمصير الذي ينتظر معركة الاثنين.
فالبلاد بدت حزينة على كينيدي، لا يفصلها غير عامين عن بلوغ حافة المواجهة النووية بسبب ازمة الصواريخ الكوبية. والجمهور لم يكن مهيأ لإثارة جديدة كبرى لا يعد غولدووتر الا بمثلها. ثم ان جونسون نجح نجاحاً باهراً في تأمين الانتقال، ليمرّر عبر الكونغرس برنامجه الاصلاحي الاكثر ليبرالية منذ ثلاثينات فرانكلين روزفلت. وفيما اوحت سياسته العرقية بتذليل المشكلات سلماً، أجاد استغلال الكلام الذي تفوّه به منافسه عن السلاح النووي والتطرف وعواقب هذا وذاك. وأميركا، التي كانت تثري ويتوسع اقتصادها، أخافتها النبوءات الرؤيوية لغولدووتر.
هكذا بدت الخسارة النصيب المحتم لكل من تسوّل له نفسه الترشح، في 1964، ضد جونسون ونائبه هيوبرت همفري. بيد ان الخسارة التي حصدها غولدووتر كانت أم الخسارات. فهو، مثلاً، لم يحمل معه الا ست ولايات جنوبية من اصل خمسين ولاية اميركية، فأضاف الى تأسيس "المحافظة" تأسيس الرقم القياسي في الهزائم.
والنكبة هذه التي كانت فعلاً الأفدح في تاريخ الانتخابات الرئاسية، دفعت رموز القيادة التقليدية الى مراجعة حسابات عدة. ومذّاك بدأ ريتشارد نيكسون، المسرور بهزيمة كارهه المهووس، يُعدّ خطته الملتوية للامساك بالحزب استعداداً لمعركة 1968 الرئاسية.
أما جورج بوش، وكان لا يزال في الصف الثاني فباع، في 1966، حصته في "زاباتا" وتفرّغ كلياً للسياسة. وفي العام نفسه ترشح لمقعد في مجلس النواب وبات، بنجاحه، اول جمهوري يمثل هيوستن في ذاك المجلس.
غير ان الهزيمة التي طحنت غولدووتر لا تعني أن الفصل الاخير لليمين المتطرف قد كُتب. فالأخير يستطيع دائماً، في أميركا، ان يستحضر خطوط دفاع وتراجع لا تُحصى. والخط الجديد، هذه المرة، كان اسمه فيتنام.
ذاك ان النصر الاستثنائي الذي احرزه جونسون لم يحرره من خوف عميق. فالرئيس الديموقراطي، وهو بدوره تكساسي خبير بالجنوب، عرف أن مجرد استيلاء غولدووتر على الحزب الجمهوري انقلاب داخل التيار العريض وتخوّف، بالتالي، من احتمال توسّع رقعة التطرف في الرأي العام. وبدل ان يمضي قدماً، عالج خوفه باعتماد التصعيد في فيتنام كعنصر يمتص الاحتمال الأسوأ، فوجد عند "المجمّع العسكري الصناعي" الشهير كل ترحيب بطريقته العجيبة في الاستشراف. وفي المقابل، اطلق جونسون مشروعه الاصلاحي الضخم لبناء "المجتمع الكبير" في الولايات المتحدة علّه، بين أمور أخرى، يكون آليّة امتصاص ناجعة أخرى.
وعلى نحو معاكس تماماً سارت الأمور. فقد عمل التطوران معاً على رفد الحزب الجمهوري بدم جديد، الا انه دم فاسد: رهطٌ من الشبان صعدوا مع توسع الفرص الاجتماعية يلغطون بالدين والرابطة الجنوبية والعداء الهستيري للشيوعية، ناسبين انفسهم الى الحساسيات التي اطلقها مرشحهم المهزوم، وواجدين حجّتهم التي لا تُدحض في فيتنام. وبحسب ريك بيرلشتاين في كتابه "قبل العاصفة: باري غولدووتر ونزع القناع عن الاجماع الاميركي"، احدثت حملة 1964 قطعاً في الزمن والسياسة لا يقتصر على حفر تعبير "المحافظة" في قاموس الجمهوريين الاميركان. فهي "أشعلت النار التي استهلكت كوناً ايديولوجياً بأكمله، جاعلةً مستهل سنوات القرن الواحد والعشرين حقبة محافظة بالتأكيد، تماماً كما كانت الحقبة ما بين النيو ديل والمجتمع الكبير حقبة ليبرالية".
تتويج كارتر وريغان
في هذه الغضون راح بوش الأب يتأرجح بين متطرفي حزبه ومعتدليه، محافظاً على الصلة الخاصة بريتشارد نيكسون. فالليبراليون الاميركيون كرهوه لأنه رفض، في 1968، فقرة تترتب على مرسوم الحقوق المدنية وتطول استخدام المنافع العامة. مع هذا أيّد، في البرلمان، فقرة المرسوم نفسه المتعلقة بالاسكان.
وفي العام اياه انتُخب بطله نيكسون رئيساً بعدما جاء اختياره تسويةً وحيدةً ممكنةً بين اجنحة الجمهوريين. فقد انهزم امامه روكفلر في يسار الحزب مثلما انهزم، في يمينه، الصاعد المتعثّر والممثل السابق رونالد ريغان. وبالتأييد واكب بوش ادارة نيكسون في سياستها الفيتنامية وسائر سياساتها، الا انه اغضب الأشد تطرفاً بتصويته لبرامج تقييد النسل ومعارضته تمويل مشروع "سوبر سونيك" الجوي.
لكن العام 1970 لم يكن خيراً عليه فرسب في انتخابات مجلس الشيوخ امام الديموقراطي المعتدل لويد بنتسن، وهو التحدي نفسه الذي تكرر في 1992، على نطاق اوسع، مع بيل كلينتون الديموقراطي المعتدل بدوره. بيد ان سيد البيت الابيض أنقذه يومها وكافأه بتعيينه الممثل الدائم لبلاده في الامم المتحدة. وعلى رغم انتقادات كان مصدرها ضآلة خبرته في الشؤون الدولية، صادق مجلس الشيوخ بالاجماع على تعيينه في شباط فبراير 1971، وعموماً اعتُبر أداؤه ناجحاً في تمثيل سياسة الجمهوريين الخارجية، كما عُدّ من الذين "يتعلمون بسرعة".
فبوش الاب ظل موظفاً اكثر منه قائداً. وفي الوجهة هذه اندرجت قدرته وكفاءاته. لا بل بدا احياناً اشبه بالموظف المخدوع. فقد غُلب على امره، كما غُلبت حكومته، مع اعطاء المنظمة الدولية مقعد الصين الى بكين. لكن فيما كان يبذل مهاراته الخطابية والاقناعية دفاعاً عن مقعد تايوان، كان نيكسون ومستشاره للامن القومي هنري كيسينجر يمهّدان سراً لاتصالات مع الصين الشعبية ما لبثت ان اثمرت "ديبلوماسية البينغ بونغ".
وامعاناً منه في السيطرة على آلة التنظيم الداخلية، طلب نيكسون من بوش، في مطلع 1973، أن يتولى اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، ولم يدر في خلده انه اختار الشخص الذي سيسأله، بعد أشهر، تقديم استقالته. فبوش، بعدما بالغ في الدفاع عنه، اضطر ان يفعل ذلك في 8 آب أغسطس 1974 حين تبيّنت للعالم كله استحالة الدفاع عن كذب رئيسه في ووترغيت.
وحل نائب نيكسون، جيرالد فورد، محله. فحين خيّره اختار جورج بوش تعيينه رئيساً لمكتب الاتصال الاميركي في بكين. وربما لأن الصين كانت موضوع الكذبة الأولى التي كذبها عليه نيكسون، اختار الموظف المخدوع ان يسيطر رمزياً، ولو متأخراً، على ما خُدع فيه. وفي الأحوال كافة قضى في بكين 14 شهراً انشأ خلالها علاقات مع الصينيين استحق بنهايتها تعيينه مدير وكالة المخابرات المركزية.
والسي. آي. أي، عند تعيين بوش أواخر 1975، كانت تجاهد للتعافي من رضّة ووترغيت. فالكونغرس كان قد وثّق اساءات استخدامها لسلطاتها كما اعلن عن استيائه من بعض عملياتها في الداخل كما الخارج. واجمع المراقبون يومها على ان عمل بوش في الوكالة حدّ من بعض مداخلاتها، كما رفع معنوياتها قليلاً.
وهذا لم يعدُ كونه تنفيذ الموظف لرغبات ادارة فورد الانتقالية التي ارادت، بعد ووترغيت، أن تبدو أشفّ ما تمكن الشفافية. غير ان عفو الرئيس الجديد عن سلفه "الكذاب" خلق احتجاجاً واسعاً في الرأي العام كان قليله سياسياً وكثيره اخلاقياً يدور حول الكذب والمسامحة. فكيف وان نائب الرئيس الذي صار رئيساً غيرُ منتخب أصلاً، عيّنه نيكسون إثر استقالة نائبه المنتخب سبيرو أغنيو.
واستمرت نبرة الاعتراض الاخلاقي تتصاعد وتطغى حتى على الانجاز الاقتصادي المعقول في كبح التضخم الذي خلّفه الرئيس "الكذاب". وحين أزف العام 1976 وجد جيرالد فورد نفسه بين نارين: فمن الحزب الديموقراطي يتحداه جيمي كارتر، ابن جورجيا الجنوبية، ومزارع الفستق، والاخلاقي المؤمن الورع الذي لا يضجر من مطالبة أمه بالدعاء له. ومن حزبه الجمهوري كان هدير رونالد ريغان قد بدأ يُسمع، على ما دلّت منافسته الجدية على الترشيح الرئاسي. وريغان بدوره مسكون بجرعة اخلاقية صالحة لأن تتوّج المسار المديد من تغلّب العاطفي والشعوري على السياسي: من "الحزن" على كينيدي والبحث عن "المطلوب" الى "الخلاص" الذي لوّح به غولدووتر. ومن "كذب" نيكسون و"مسامحة" فورد الى "المشاعر" التي اطلقتها حرب فيتنام في الاتجاهات كلها.
ولئن استحال على اخلاقية ريغان اليمينية ان تهزم فورد وتنافس على سدّة السلطة، فقد وصلت أخلاقية كارتر اليسارية، والتي لأربع سنوات ملأت الفضاء بالنوايا الطيبة.
* كاتب ومعلّق لبناني. الحلقة التالية: "عهد ريغان ومسائل البروتستانتية الاميركية" الثلثاء المقبل.
** تنشر الحلقات الخميس والسبت والثلثاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.