تشهد المنطقة العربية حالياً نشاطاً واسعاً على صعيد العلاقات الاقتصادية البينية. فقبل شهرين، أي في نهاية العام المنصرم، خصصت قمة مجلس التعاون الخليجي قسطاً واسعاً من مداولاتها للبحث في مسألة تسريع الاتحاد الجمركي وتسهيل تنقل رجال الاعمال الخليجيين في منطقة الخليج. وخلال هذه الفترة ايضاً عقدت اتفاقات ثنائية لانشاء مناطق تجارة حرة بين عدد من الدول العربية. ومنذ أيام قليلة توقعت بعض الأوساط المصرية المعنية بمسألة العلاقات العربية البينية اعلان منطقة تجارة حرة تضم خمس دول عربية في شهر تموز يوليو المقبل. وفي المغرب العربي عقدت اجتماعات وزارية خلال شهر شباط فبراير الماضي للبحث في مسألة تطوير البنية الاساسية بين دول الاتحاد المغاربي، وتمحورت الاجتماعات حول تنفيذ مشاريع تنمية المواصلات بين هذه الدول. ومن المنتظر ان يتحول مؤتمر القمة العربي المقرر عقده في عمان في السابع والعشرين من الشهر الجاري الى فرصة للبحث في تطوير العلاقات العربية البينية، اذ يعتزم المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي الذي انجز اجتماعاته في القاهرة في منتصف شهر شباط التقدم بمجموعة من المقترحات والمشاريع الرامية الى تحقيق هذه الغاية. وستتناول اكثر هذه المقترحات وسائل تفعيل وتنشيط مشروع منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى آفتا، كذلك تعتزم الدول العربية التقدم باقتراحات موازية بغرض تحقيق الغاية نفسها ايضاً. تأمل بعض الأوساط العربية ان تكون هذه الموجة من الاتفاقات الثنائية أو الجماعية اكثر من مشهد عابر فرضته اعتبارات ظرفية مثل تراجع عائدات النفط في المنطقة العربية، أو عودة العراق الى الاسواق الاقليمية، أو الرغبة في العثور على حلول قصيرة الاجل محدودة الأثر لبعض الاختناقات الاقتصادية أو حتى ممارسة ضغوط ذات طابع سياسي وتكتيكي على أطراف دولية بغرض تحقيق هدف على صعيد الصراع العربي - الاسرائيلي. واذ تلاحظ هذه الأوساط العربية ان التجارة العربية البينية زادت خلال العامين المنصرمين بالمقارنة مع عام 1998 فإنها تأمل ان يستمر هذا التطور وان يتمأسس. وتذهب الآمال المعلقة على هذه الموجة من الاتفاقات غير السياسية الى توقع تحولها الى مدخل لولوج باب التعاون الوظيفي العربي الحقيقي، والى قيام أسرة امنية واقتصادية عربية نامية تنضم الى التكتلات الاقليمية الناجحة في العالم بخاصة في أوروبا واميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا. الأيام المقبلة ووقائع مؤتمر القمة العربي المقبل ونتائجه جديرة بإلقاء الاضواء على حظ هذه الآمال والتوقعات من النجاح. فإذا ثبتت دورية انعقاد القمة العربية، واذا خصصت قمة عمان جزءاً من وقتها وجهدها للبحث في قضايا التعاون الوظيفي بين الدول العربية، يمكن اعطاء هذه الآمال حظاً في النجاح. واذا نجحت الدول العربية، وبخاصة مصر وسورية التي كانت تدعو الى عقد قمة اقتصادية عربية في اقناع قمة عمان بالاستجابة الى مثل هذا الاقتراح، فستزداد فرصة بدء مسيرة تعاون وظيفي جاد بين الدول العربية. بيد ان هذا كله، مضافاً اليه الاتفاقات الثنائية والجماعية في الميادين غير السياسية، يمثل مجرد فرص يحتاج تعزيزها وتوطيدها الى بذل جهد كبير ومضطرد تقوم به كل من النخب الحاكمة والجماعات المستقلة خصوصاً تلك المعنية بالعمل الاقليمي العربي. ان تثبيت دورية القمة العربية يوفر شرطاً مهماً تعتبره اكثر المدارس الفكرية المعنية بقضية التعاون الاقليمي والوظيفي من الشروط الرئيسية لنجاح مثل هذه المشاريع. فكل مشروع من هذه المشاريع وصل الى مرحلة الاقلاع، كانت وراءه سلطة اقليمية تتعهده بالعناية والرعاية حتى يقف على رجليه ويكتسب مقومات البقاء الذاتي. ويرى دافيد ميتراني، أحد أبرز مفكري وكتاب المدرسة الوظيفية، ان اعطاء مثل هذه السلطة الصلاحيات في حقل من الحقول غير السياسية سيؤدي مع الوقت الى انتقال بعض المسؤوليات من السلطة القديمة الوطنية الى السلطة الجديدة الاقليمية، ومن الحيز غير السياسي الى الحيز السياسي. وتنبني توقعات ميتراني هنا على الأثر التراكمي الذي يتركه التعاون في المجالات الوظيفية على العلاقات بين الدول المعنية. فعندما يستمر هذا التعاون لسنوات طويلة، وعندما تمتد شباكه بحيث تعبر الحدود الوطنية فيشترك فيها مسؤولون وموظفون في الدول المنخرطة في التعاون الاقليمي، يكتسب مثل هذا التعاون مناعة ورسوخاً بحيث يصعب التراجع عنه. ويزيد هذا الرسوخ في تقدير ارنست هاس، وهو كبير مفكري المدرسة الوظيفية الجديدة، عندما تقوم المؤسسات والمشاريع الاقليمية وتحقق درجة متطورة من النمو والتقدم تشجع الجماعات البشرية والتكتلات السياسية المستفيدة من هذه المشاريع، في كل بلد من البلدان المساهمة فيها، على التعاون مع اقرانها في البلدان الأخرى من اجل بلورة مطالبها المشتركة والتقدم بها الى الجهات المسؤولة والسعي الى تنفيذها. ان كتابات ميتراني وهاس واكثر المعنيين بقضايا التعاون الوظيفي والاقليمي تمحورت حول تجربة السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبي، وتناول علماء السياسة والاجتماع هؤلاء مسألة الاقلمة في مجتمعات اعتنقت المبادئ الديموقراطية بالفكر والممارسة. وفي دول اتسمت إداراتها بالطابع العقلاني، كما وصفه ماكس فيبير. وهناك فرق بين هذه المجتمعات والمجتمعات العربية التي لا يزال طابع الحكم فيها مشخصناً، وشديد المركزية ولا تزال بيروقراطياتها تشكو من الكثير من العلل والأمراض. هذا لا يعني ان المجتمعات العربية لم تقطع شوطاً على طريق الدمقرطة والعقلنة والأقلمة، كما انه لا يعني، كما يصر فريق من الاستشراقيين المتشائمين، ان احتمالات تطور أو المزيد من التطور العربي على هذا الطريق معدومة، انه يعني أمرين: الأول، انه من الأصح ان يقيس الذين يأملون في نجاح هذه الموجة من نشاطات التعاون الوظيفي بين الدول العربية ما انجز على هذا الصعيد بميزان الواقع العربي. فحيث ان الحكومات العربية مشخصنة ومركزية، يصبح من الصعب التعويل على عنصري الزمن والتراكم لكي يفعلا فعلهما في تثبيت خطوات التعاون بين الدول العربية وترسيخها. بتعبير آخر، مهما بلغت مشاريع التعاون من نمو، ومهما بلغ التشابك والتداخل والتآلف والتعاون الوظيفي والسياسي بين رجال الادارة والفكر والمال والاختصاص العرب، فإن النمو والتداخل لا يمنعان الحاكم العربي في ظرف من الظروف من اعادة عقارب ساعة التعاون الوظيفي الى الوراء وتقطيع الكثير من الأواصر التي بنيت خلال سنوات من العمل المتصل. هذا مع العلم ان هذا الحاكم نفسه لن يستطيع اعادة بناء مشاريع التعاون الوظيفي بالسرعة نفسها التي انهيت فيها. ذلك لا يعني انه في ظل الحكومات المركزية لا يمكن التقدم ولو الوئيد على طريق اقامة علاقات تعاون وظيفي. ففي اميركا اللاتينية وفي جنوب شرقي آسيا أمكن تحقيق خطوات ملموسة على هذا الطريق في ظل حكومات عسكرية ومطلقة، الا ان ما يمكن تأكيده هنا هو ان التحولات الديموقراطية في المنطقتين أفسحتا المجال امام تطور العلاقات الوظيفية بين دول رابطة جنوب شرقي آسيا آسيان وسوق اميركا الجنوبية الحرة مير كوسور تطوراً كبيراً. ثانياً، انه بسبب طابع المركزية الشديدة الذي يسم الحكومات العربية ويؤثر سلباً على فرص قيام مؤسسات ومناخات من النوع الذي اشار اليه مؤسسو المدرستين الوظيفية والوظيفية الجديدة مثل ميتراني وهاس، فإنه يجدر بالمعنيين بقضايا التعاون الاقليمي العربي ان يتحركوا بنشاط اكبر من أجل دفع مسار التعاون العربي الى الامام. ولعل، من الملفت هنا، ان ردود الفعل الشعبية والحكومية على انتفاضة الأقصى تجاوزت في بعض الاحيان ردود فعل الجماعات الاهلية المنظمة المعنية بمسألة التعاون الاقليمي العربي. فالتحركات الشعبية انتشرت على نطاق المنطقة كلها على نحو جعل اصحاب القرار والمعنيين بالمنطقة يتحدثون عن ولادة جديدة ل"الشارع العربي"، أي عن كتلة بشرية واسعة تشكل قاعدة مناسبة لمشاريع التعاضد العربي. أما النخب الحاكمة العربية فإنها أدركت معنى هذا الحدث وطريقة التعامل معه عندما سارعت ليس فقط الى عقد مؤتمر القمة العربية بعد فترة وجيزة من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية فحسب، وانما ايضاً الى اقرار مبدأ دورية القمة ايضاً. مقابل هذا وذاك لم تبذل الجماعات المعنية بالتعاون الاقليمي والوظيفي العربي جهداً كافياً للإفادة من هذه المتغيرات وتثميرها على نحو يعود على القضية التي تعمل من اجلها وعلى المجموعة العربية بالفوائد. فهل فات هذه الجماعات الوقت؟ ان مؤتمر القمة العربي الذي سينعقد بعد اسابيع قليلة يمثل حدثاً مهماً على صعيد العلاقات العربية البينية. قد يمر المؤتمر كمناسبة لتسجيل بعض المواقف المبدئية تجاه بعض القضايا العربية الحساسة مثل قضية فلسطين، ويكرر قراراته السابقة بصدد تقديم مساعدات الى الفلسطينيين تبقى محدودة الأثر مهما كبر حجمها. وقد يتحول المؤتمر الى خطوة مهمة على طريق تمكين الدول العربية وزيادة قدرتها على معالجة أمورها كدول وأوضاعها الجماعية، داخلياً وخارجياً، اذا ما خصص جهد اكبر من السابق للبحث في وسائل تطوير النظام الاقليمي العربي. إذا كان العديد من القادة العرب والنخب العربية الحاكمة يستهويهم هذا النهج الثاني، فإنه مما يعزز موقفهم ويقوي حجتهم داخل المؤتمر وخارجه لو نظم المعنيون بقضايا التعاون الاقليمي والوظيفي العربي مؤتمرات أو مؤتمراً عاماً قبيل القمة لبلورة مقترحات وتطلعات القطاعات التي يمثلونها من المواطنين في مسائل التعاون العربي. لقد عقد الاتحاد البرلماني العربي دورته الثامنة والثلاثين في أبوظبي في أواخر الشهر الماضي من دون إبداء اهتمام خاص بمناسبة القمة، ويستطيع الاتحاد تعويض هذا النقص، رغم ضيق الوقت، عبر الدعوة الى عقد اجتماع عاجل للهيئة التي شكلها حول تعزيز التضامن العربي لكي تصوغ مقترحات المجالس النيابية والشورية العربية في شأن مسألة تطوير العلاقات العربية البينية. الجماعات الاقليمية العربية المعنية بالتعاون الاقليمي والوظيفي، مثل مؤتمر الاحزاب العربية، اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة، مؤتمر رجال الاعمال والمستثمرين العرب وغيرها من المنظمات الاقليمية العربية، تستطيع القيام بمثل هذا المسعى. ان عقد المنتديات والتجمعات الاهلية على هامش مؤتمرات القمة لم يعد بدعة ولا تعدياً على أدوار القمم واختصاصاتها، بل بالعكس اصبح جزءاً من تقاليد انعقاد هذه القمم. قبل اسابيع قليلة عقدت القمة الثانية للدول الاسلامية الثماني في القاهرة وعقد معها في المكان والزمان نفسه منتدى قمة الدول الثماني الذي لقي كل ترحيب وتعاون من منظمي القمة ومن الدول المعنية. فهل تقتدي الهيئات العربية بمثل هذا النموذج اذا كان الاقتداء بالنماذج الغربية يثير الحساسية؟ ان الوقت لم يفت من أجل تنظيم مؤتمر عربي أهلي يواكب القمة العربية ويساهم معها في تعبيد الطريق امام التعاون الوظيفي بين الدول العربية. انه يحتاج الى مبادرة سريعة من أهل القدرة والرغبة، والمنطقة العربية لا تخلو من هؤلاء. * كاتب وباحث لبناني.