يدل الجدل الواسع الذي حدث في الكويت وبدأ على استحياء في البحرين، حول السماح بتأسيس أحزاب سياسية، الى أن أبواب التطور الديموقراطي في العالم العربي ما زالت مفتوحة. ولكن، ربما يكون مفيداً لأهل البلدين، خصوصاً المؤيدين إقامة أحزاب سياسية، أن يطلعوا على تجارب البلاد العربية الأخرى التي سبقتهم في هذا المجال، واستخلاص ما قد تنطوي عليه من دروس يمكن أن تفيد في ترشيد الجدل. فهناك ستة بلاد حدث فيها انتقال من الحزب أو التنظيم السياسي الواحد الى تعدد الأحزاب منذ منتصف السبعينات، هي مصر وتونس والجزائر والاردن واليمن وموريتانيا. ففي بداية هذا الانتقال عام 1976 في مصر كان المغرب هو البلد العربي الوحيد الذي يعرف تعدداً حزبياً لم ينقطع منذ الاستقلال في ظل دستور حظر نظام الحزب الواحد، في الوقت الذي كان التعدد الحزبي هو المحظور في معظم البلاد العربية. اما لبنان الذي شهد تعدداً يمزج بين السياسة والطائفية فقد بدأت حربه الأهلية التي قوضت مجتمعه السياسي في نيسان ابريل 1975، بينما كان السودان، الذي عرف تعدداً حزبياً في فترة سابقة، محكوماً بنظام عسكري. وعل رغم تفاوت عمر تجارب التعدد الحزبي في البلاد العربية، فالواضح ان أياً منها لم يحقق نجاحاً يذكر، بما في ذلك تجربة مصر الأقدم بينها والتي يمر عليها ربع قرن في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. والأكيد أن أسباباً عدة أدت الى هذه النتيجة مثل طابع التجربة باعتبارها تعددية مقيدة محكومة من أعلى، وضعف أداء الأحزاب عموماً سواء الحاكمة أو المعارضة، وعدم توافر قدر معقول من الثقافة السياسية الديموقراطية، ونوع البناء الاجتماعي الذي تتفوق عناصره التقليدية على جوانبه الحديثة. غير أن هذه العوامل كلها فعلت فعلها بسبب التحول الى التعددية وتأسيس الأحزاب، قبل أن ينضج التطور الذي يجعل المجتمع مهيأ للنشاط الحزبي وتتوافر آلياً الظروف اللازمة لنجاح الاحزاب. فالديموقراطية ليست فقط أحزاباً ومؤسسات وانتخابات، وإنما هي أيضاً - وقبل ذلك - ثقافة ووعي وتطور اجتماعي. فهي ثقافة المشاركة والحوار والاختلاف الذي لا يفسد الود والتنافس السلمي والايجابية. وهي وعي بالارتباط بين المجالين الخاص والعام وبأن المنفعة الشخصية لا تنفصل عن مصلحة الوطن. وتطور اجتماعي يسمح بأن يكون الانتماء للاحزاب مقدماً على الولاءات التقليدية أو الأولية للأسرة أو العائلة أو القبيلة أو القرية أو المنطقة عموماً. ولم تكن هذه المقومات من ثقافة ووعي وتطور اجتماعي متوافرة بقدر معقول عندما بدأ التعدد الحزبي في مصر العام 1976 ثم في تونس العام 1979 وبعدهما في بلاد أخرى. فقد حدث الانتقال الى الاحزاب المتعددة من دون تدرج في الممارسة ربما ساعد - اذا حدث - على إنضاج الظروف المحيطة بالعمل الحزبي. وفي حالة مصر، كان نظام الحاكم أكثر ميلاً في البداية الى هذا التدرج عندما اختلف المشاركون في الحوار العام الذي أجري العام 1974 وانقسموا الى ثلاثة اتجاهات: دعا أولها الى تأسيس الاحزاب فوراً، وطالب ثانيها - في المقابل - بالابقاء على التنظيم الواحد الاتحاد الاشتراكي بينما وقف ثالثها في الوسط مفضلاً إنشاء منابر في داخل هذا التنظيم. وأخذ الرئيس أنور السادات وقتها بهذا الاتجاه الاخير، وقرر إيجاد ثلاثة منابر لليمين والوسط واليسار، لكنه ما لبث ان وافق عن أن تطلق عليها "تنظيمات" اشارة الى تمتعها باستقلال أكبر، ثم أعلن تحويلها الى أحزاب في تشرين الثاني نوفمبر 1976. وكان مدفوعاً في ذلك بأزمة النظام السلطوي الذي لم يعد قادراً على احتواء التناقضات الداخلية وبضغوط من المتعجلين تأسيس احزاب، وبرغبة في تغيير صورة مصر في الخارج - وخصوصاً لدى الغرب - وإعطاء انطباع بأنها تتحول الى الديموقراطية. ولذلك عدل عن نهجه التدرجي الذي كان قد بدأ به بدافع الحذر والخوف والتمسك بالسلطة لا رغبة في إنضاج العمل الحزبي مع الوقت، وحين أخذ بالنهج الفوري، لم يعدل عن حذره واستئثاره بالسلطة، ولذلك فرض قيوداً على تأسيس الاحزاب ونشاطاتها على نحو جعل تطورها الطبيعي صعباً، فكأنه قذف بها في اليم من دون تدريب كافٍ وبعد أن قيد يديها نصف قيد، ولكنه لا يتحمل المسؤولية كاملة عن التعجيل بتأسيس الاحزاب، وإنما يشاركه فيها السياسيون من الاتجاهات كلها الذين مارسوا ضغوطاً عليه في هذا الاتجاه، كما يتحمل هؤلاء ممن صاروا قادة الاحزاب وابرز كوادرها، مسؤولية اخرى عندما اصروا على الدخول في عمق البحر وهم مكبلو الايدي. فبدلاً من البدء بالتركيز في التثقيف السياسي لتعويض المرحلة التمهيدية التي لم تمر فيها الاحزاب وسعياً لإنضاج الظرف السياسي - الاجتماعي، انغمسوا في المطالبة بتغيير طابع نظام الحكم الذي لم يسمح هيكله بدور حقيقي للاحزاب ولا يتيح أي مجال للتداول على السلطة، كما صار هذا النظام أكثر حساسية للنقد عقب تظاهرات الخبز في كانون الثاني يناير 1977، ثم اصبح أضيق صدراً بعد الصدام الذي حدث مع الاحزاب بسبب كامب ديفيد، ولذلك كانت انتخابات 1979 نهاية لربيع التعددية في مصر، مثلما حدث في تونس في انتخابات 1986. وإذا افترضنا أنه تم الاخذ بالتطور التدريجي وظلت المنابر تعمل في إطار التنظيم الواحد سنوات عدة، لاضطرت الى إعطاء الاولوية للتثقيف السياسي ومن ثم حل اكبر مشكلتين تواجهان الاحزاب في مصر الآن، وهما عدم وجود قدر معقول من الثقافة الديموقراطية والسلبية السياسية السائدة في المجتمع. كما أن تطوراً تدريجياً من شأنه ان يتيح لمشاريع او إرهاصات الاحزاب اكتساب الخبرة وممارسة التثقيف السياسي من دون الدخول في صدام مباشر أو كبير مع النظام، تمهيداً لتأسيس احزاب أوفر قدرة على منافسة الحركات الاسلامية التي صار تفوقها الملموس على هذه الاحزاب من أهم مشكلات الحياة السياسية في مصر وتونس والجزائر والاردن بأشكال ودرجات متباينة بطبيعة الحال. فلم تبدأ الاحزاب التي انشئت على عجل والحركات الاسلامية من خط البداية نفسه، فكان لهذه الحركات وجود ثقافي- اجتماعي في قلب المجتمعات، فضلاً عن تنظيمات سياسية سرية باستثناء الاردن إذ كان وجود جماعة الاخوان المسلمين علنياً مشروعاً. وربما كان ممكناً الحد من هذا التفاوت إذا انشئت الاحزاب بعد مرحلة تمهيدية من نوع المنابر في مصر، وعندما عرض الحزب الحاكم في تونس على احزاب المعارضة خوض انتخابات 1989 في قائمة موحدة، كان مبعث هذا الاقتراح فجوة القوة بينها وبين حزب النهضة الاسلامية، وربما لو قدر لذلك الاقتراح أن يتحقق لما اندفع نظام الحكم الى قمع الحركة الاسلامية ثم احزاب المعارضة ولصار حال التطور الديموقراطي افضل. وأياً يكن الأمر، فالواضح ان تعجل تأسيس الاحزاب، في البلاد العربية التي اتجهت الى التعدد الحزبي منذ منتصف السبعينات، كان وما زال احد أهم مصادر ضعف هذه الاحزاب وهشاشة التطور الديموقراطي. وهذا هو ما ندعو الكويتيين والبحرانيين التواقين الى تأسيس احزاب الآن لدرسه واستخلاص دروسه، خصوصاً أن أداء التجمعات والكتل السياسية في الكويت الآن افضل من الاحزاب العربية. وهذه بداية طيبة لديموقراطية قابلة لأن تنضج مع الوقت، ولأحزاب تنشأ في الوقت الملائم. صحيح ان هذه المرحلة التمهيدية للاحزاب طالت أي ما يقرب من اربعة عقود غير أنه ليس هناك مدى زمني محدد لهذا التمهيد إذا اقتنعنا بضرورته، فقد بدأت الاحزاب تظهر في اوروبا في منتصف القرن التاسع عشر بعد اكثر من قرن على التكتلات البرلمانية. وصحيح ايضاً ان حساب الزمن الآن يختلف عنه في بداية عصر النهضة الاوروبية، وأن ما يحدث في عام الآن كان يحتاج إلى عشرات الاعوام قبل ذلك، مع ذلك يظل تأخير قيام احزاب لضمان فاعليتها خيراً من التعجيل به. فخبرة الاحزاب والتجارب الحزبية العربية ربما ينطبق عليها المثل القائل كل تأخير فيه خير. * كاتب مصري. رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".