بعد حوالى نصف قرن من ثورة تموز يوليو 1952 يكتشف المصريون أن جوهر التغيير الذي طرأ على النظام السياسي هو الانتقال من ملكية دستورية هشة، الى جمهورية تملكية عاتية وصلت في عقدها الخامس، الى ما يشبه التأزم والإنسداد، ومن ثم يتساءلون: وماذا بعد؟ فقبل الثورة كان الاستخلاف - على رأس النظام - يتم وفقاً لقواعد التوريث داخل نطاق الأسرة، وكان الاستخلاف- في جسم النظام - يتم وفقاً لقواعد النظام البرلماني، حيث تتنافس احزاب الأغلبية مع أحزاب الأقلية. وعلى رغم كل ما يمكن أن يقال فالملكية كانت دستورية، بل أن مصر في ذلك العهد كانت أكثر ديموقراطية من كثير ممن سواها آنذاك وعلى رغم كل ما يمكن أن يقال عن مثالب التجربة البرلمانية 1923- 1952 فإنها لو درست بالمقارنة مع المرحلة السابقة لها، واللاحقة عليها من التجارب النيابية المصرية لربما تأكد أنها كانت تنطوي على مآثر لا يجوز إنكارها، بل إن الاتهام الرئيسي الذي عادة ما يتم توجيهه لتلك التجربة بات من السهل اثبات ما فيه من ظلم وحيف، اذا ما أجريت دراسة منهجية مقارنة تدرس مدى قدرة النظام الحزبي والبرلماني، على تمثيل الناس كقوى اجتماعية وسياسية وفكرية، أثناء الملكية، ثم اثناء الجمهورية، فالاتهام يرتكز على حقيقة سليمة هي أن حزب الأغلبية الوفد لم يصل الى السلطة طوال الفترة من 1923-1952 إلا لفترة لا تكاد تتجاوز السنوات السبع، وأن اللعبة السياسية الشاملة بين القصر والانكليز من جهة والشعب من جهة أخرى، كانت تأتي بأحزاب الأقلية الى السلطة. ولكن، حين نعيد النظر الى هذه الحقيقة، من منظور مقارن، في ضوء الخبرة النيابية في العهد الجمهوري، لربما اكتشفنا أنها بدلاً من أن تكون اتهاماً، قد تحولت لتكون دفاعاً. فيمكن الآن أن تقول يكفي انه كانت هناك لعبة سياسية قائمة وجارية، ويكفي أنه كان هناك تمثيل واضح الحدود والمعالم، فالأغلبية، والأقلية أقلية، والملك ملك، والانكليز انكليز. واجمالاً، كان الشعب على بينة من آليات انتقال السلطة، فهي بالوراثة - في رأس النظام - فلم تكن هناك شكوك حول الكيفيات التي يتم بها الاستخلاف، وهذه هي الآلية الأولى. ثم تأتي الآلية الثانية، هي انتقال السلطة عبر التداول بين الأحزاب. وهناك مستويات عدة للدراسة المقارنة للنظام السياسي المصري، على مدى نصف قرن هي عمر الجمهورية: - المستوى الأول: هو المقارنة مع النظام الليبرالي من 1923 الى 1952، أي ثلاثين عاماً، هي عمر الملكية الدستورية القائمة على النظام البرلماني. ولقياس درجة النضج الديموقراطي في كل منهما، يكفي أن يظهر مؤشر، يؤكد أن سعي الملك الى تأسيس حزب موال له لم يكن يعني نجاحه في أن يكون حزب أغلبية، بل كان يظل حزب أقلية ولكنها - في الوقت ذاته - أقلية حقيقية، لها مضمون محدد، وتعريف يمكن الاتفاق عليه، والمؤشر ذاته يشير الى العكس تماماً، في حالة النظام الجمهوري، فسعي الرئيس الى تأسيس حزب موالٍ له، يعني ان يتحول الى حزب أغلبية، تارة كحزب وحيد في غياب حياة حزبية، وتارة كحزب كاسح في وجود حياة حزبية ضعيفة. وعلى النقيض من النظام الملكي، فإن النظام الجمهوري من ناحية أولى لم يقدم بديلاً ديموقراطياً للاستخلاف على مستوى رأس النظام، فبعد مرور خمسين عاماً، لم يذهب المواطن المصري الى صندوق الاقتراع، للاختيار بين أكثر من مرشح لرئاسة الجمهورية. من الناحية الأخرى، لم يحدث أن قدم النظام الجمهوري بديلاً ديموقراطياً للتداول على مستوى جسد النظام، فلم تسفر الانتخابات عن تداول للسلطة بين أكثر من حزب. ثمة مؤشر أخر للمقارنة، يكشف عن أزمة النظام الجمهوري، وهو مستوى الإدارة السياسية State Craft فمن حيث الكيف، تجد مخرجات النظام الملكي، وخاصة في مجالات مثل التعليم والثقافة والفنون. - ويدور المستوى الثاني من المقارنة بين الرئاسات أو العهود الثلاثة في النظام الجمهوري، فهي تتفق في نقاط عدة منها أن كل عهد يبدأ بشيء من المشاركة الشعبية غير المؤسسة يسمح بها العهد في سنواته الأولى، وتتخذ أشكالاً ومظاهر عدة، مثل الإبقاء الموقت على الأحزاب ثم الإجهاز عليها بالتطهير ثم الإلغاء ثم تأسيس حزب واحد بديلاً عنها في الرئاسة الأولى عبدالناصر أو تتخذ شكلاً آخر، مثل تحويل الحزب الواحد الى منابر ثم الى احزاب متعددة ثم اختيار حزب ليكون حزب الرئيس ومن ثم قطع الطريق على باقي الأحزاب في الرئاسة الثانية السادات، أو تتخذ نمطاً ثالثاً يبدأ بإشاعة أجواء تصالحية، والسماح بقدر معقول لتمثيل المعارضة في البرلمان مثلما حدث في انتخابات 1984و1987 ثم اغلاق هذه المنافذ والعودة للاحتكار الكامل للعملية التمثيلية على يد حزب الرئيس مبارك مثلما حدث في برلمان 1990 و1995. كما تتفق العهود الثلاثة في التطور التدريجي لوزن وحجم البعد الشخصي في العملية السياسية، إذ يبدو في البداية محدوداً، وبالتدريج، يتحول نحو الشخصانية المطلقة والفردية المكتملة، بحيث يغدو شخص الرئيس محيطاً بكل شيء، موجهاً لكل شيء، ممسكاً بزمام كل شيء، مع اشاعة أجواء غيبية واسطورية تربط مصائر البلد بمصيره وحياتها بحياته ووجودها بوجوده، وهنا يتم تسريب مخاوف توحي لأصحابها بأن الوطنية تستدعي الإيمان بهذا التلازم القدري، وإلا ربما كانت هناك عواقب وخيمة مجهولة لا يمكن الوقوف في وجهها. وتتفق العهود الثلاثة، في أنها تبدأ مزاولة السياسة بحرب معلنة على الفساد الموروث من العهدالسابق. ثم لا تلبث هذه الحرب أن تهدأ، ليظهر الفساد الجديد الذي لا يلبث أن يتراكم، ليكون محلاً للحديث الخفي بين الناس في المدن والقرى، وينتظرون عهداً جديداً ليستأنف مهمة محاربة الفساد المركب من كل العهود السابقة، ومما يزيد من حدة الأزمة أن العهد الجمهوري القائم ما زال يتمتع بقدرة مدهشة على الاستمرار تستدعي من الناس قدراً أكبر من الاصطبار والتحكم في النفس والأعصاب وترويضها على فضائل الانتظار الحميد. وتتفق العهود الجمهورية الثلاثة، في انصراف الجماهير عن السياسة وعن تنظيمات الرؤساء واحزابهم، استمراراً للإنصراف التاريخي عن أحزاب الملك، مع فارق رئيسي وهو أن النظام الملكي كان يسمح بخريطة حزبية واسعة، تفتح الباب للاختيار، من الوفد حزباً للأغلبية، الى الاخوان، ومصر الفتاة كحركات اجتماعية وسياسية، وباستثناء الحركات الشيوعية فهي وحدها حرمت من التمثيل المعلن، أما في النظام الجمهوري فلم تعد هناك بدائل واسعة للاختيار، إلا بديل الانسحاب الطويل والصامت للجماهير من حلبة السياسة، ومن ثم فإن النظام الجمهوري يشهد نوعاً من القطيعة المؤسسة مع الناس، الذين يفتقدون لوجود أطر شرعية يمارسون من خلالها تفاعلاً طبيعياً ومشروعاً مع النظام السياسي. فبقيت ممارسة الجماهير للسياسة سلوكاً أقرب الى العادة السرية. فيها قليل من المتعة التعويضية، وفيها الكثير من ألم الوجدان وعذاب الضمير فالتعبير عن مواقفهم إزاء النظام وتفاعلهم معه، لا يجري في البرلمان والمنابر العامة، وانما في بيوتهم وأحاديثهم الخاصة فالبرلمان في العهود الجمهورية الثلاثة هو مؤسسة تمثيلية بالمعنى الدرامي والتراجيدي والكوميدي، أكثر من كونه مؤسسة تمثيلية بالمعنى النيابي رقابة وتشريعاً ومساءلة وعادة ما تغلب فيه الطبيعة الأولى في المراحل الأخيرة من كل عهد من العهود الثلاثة حيث يتجه النظام السياسي الى السمة الشخصية والفردية المطلقة، ومثالاً فإن البرلمانين الأول 1984 والثاني 1987، من العهد الجمهوري الراهن شهد قدراً من العمل النيابي الحقيقي، بعكس البرلمانين الأخيرين 1990 و1995، ولم يسمع لآخرهما صوت إلا حين وقف أولهما ضد حرية المرأة أثناء مناقشة قانون الأحوال الشخصية في كانون الثاني يناير 2000، فإحداهما اختتم وجوده معادياً لحرية الصحافة، وآخرهما اختتم وجوده معبراً عن شحنة عالية من ازدراء الأنوثة. وقل مثل ذلك، عن المنابر العامة ، فإنها تؤول تدريجاً في السنوات الأخيرة من عمر الجمهورية الثالثة لأن تغطي أكثر مما تكشف، وتكتم أكثر مما تكتب، وتنشغل بالاعلان أكثر من انشغالها بالإعلام، فلا يجد فيها الناس متسعاً للتعبير عما يدور في نفوسهم من تساؤلات، وما يتناقلونه من اشاعات، تمثل صورة النظام السياسي لديهم وتمثل إدراكهم لموقفهم في النظام الجمهوري. وفي المستوى الثالث من المقارنة، تخضع حدود الأزمة التي وصل اليها النظام السياسي المصري في عهد الجمهورية الثالثة، إذا ما تمت مقارنته بالأنظمة السياسية في كل من تركياوايران وإسرائيل. وابتداء، فإن المقارنة، تكون لمصلحة النظام السياسي المصري، حين يقدم نفسه في إطار الوسطية والاعتدال، التي تجعله بعيداً عن التطرف العلماني في النظام التركي، وبعيداً عن التشدد الديني في النظام الإيراني، وبعيداً عن الطبيعة العنصرية في النظام الإسرائيلي ولكن على جانب الأداء السياسي، فإن الأنظمة الثلاثة تبدي قدراً أكبر من المرونة في استيعاب القوى السياسية والاجتماعية المختلفة معها والمستجدة عليها، ففي تركيا يتم استيعاب القوى الدينية على مستوى الوزارة والبرلمان والبلديات، ويتم الاحتكام في حسم الصراعات السياسية الى الناخب والى القضاء الطبيعي، وفي ايران يبدي النظام الجمهوري حيوية فائقة في تمثيل القوى الجديدة سواء على مستوى رئاسة الجمهورية أو مستوى البرلمان. ويقدم النظام السياسي الإسرائيلي قدرة حية ليس فقط في استيعاب التناقضات الداخلية، وإنما أيضاً في استيعاب القوى الوافدة عبر الهجرة الى داخل إسرائيل. وبالمقارنة، إذا كان يؤخذ على النظام التركي أنه يضفي على شخص اتاتورك قداسة بموجب النصوص، فإن قدراً مماثلاً من القداسة يتمتع به موقع الرئاسة في العهود الجمهورية الثلاثة للنظام السياسي المصري من دون الحاجة الى نصوص صريحة ومباشرة. وإذا كان يؤخذ على النظام الإيراني، أن قدرته الاستيعابية انما تجري تحت مظلة دينية، لا مكان فيها إلا لذوي الولاء لولاية الفقيه، سواء كانوا من المحافظين أو الاصلاحيين، وتحرم غيرهم من التمثيل في اللعبة الديموقراطية، فإن النظام المصري يحرم الجميع من حق التداول بما في ذلك القوى المدنية والعلمانية ولا يقتصر الحرمان على القوى الدينية المعتدلة والمتطرفة، مع ملاحظة أن الجمهورية الثالثة أبدت قدراً ملحوظاً من التطور الديموقراطي في عقدها الأول الثمانينات ثم تراجعت في عقدها الثاني التسعينات وصارت تعتمد أكثر على القضاء العسكري والأحكام العرفية كبديل عن الآليات الديموقراطية. ويأتي المستوى الرابع والأخير، من المقارنة بين النظام المصري ونظائرة من النظم الجمهورية العربية بخاصة في سورية والعراق، وبالمقارنة، فإن ثمة اختلافاً واضحاً في القدرة على التكيف مع المستجدات الاقليمية والعالمية، وفي هذا السياق، فإن النظام المصري يتفوق اذ يبدي مرونة عالية لا تخلو في بعض الأحيان من رشاقة سياسية. وأن كانت تأتي بمنطق التقاط الفرصة أكثر من كونها تأتي تعبيراً عن استراتيجية واضحة. وبالمقارنة يبدو أن هناك تشابهاً في الأنظمة الثلاثة في ما يتعلق بمسألة الاستخلاف على رأس النظام. وفي ما يتعلق بالتداول على المستوى الحزبي، وعلى رغم الفروق الشكلية في العمل الحزبي في النظم الثلاثة - وإن كان النظام المصري يتفوق من ناحية الشكل - إلا أنها جميعاً تتفق من حيث المضمون ومن حيث مخرجات العمل الحزبي. واجمالاً فأنت في النظم الثلاثة لا تكاد تسمع عن الرجل الثاني، ولا تكاد تسمع عن الحزب الثاني، بينما يكثر الحديث ليس فقط عن الأبن الأول بل أيضاً عن الأبن الثاني، بصورة توحي، أن الأنظمة الثلاثة، أكثر اتصالاً بالتراث السياسي لتجربة الخلافة العربية، التي انتقلت مع بني أمية وبني العباس من دمشق الى بغداد الى القاهرة أكثر من اتصالها بالفكر السياسي الحديث. فأنت تكاد ترى معاوية ومن خلفه يزيد في العواصم الثلاث. وختاماً، فإن تجربة خمسين عاماً، من النظام الجمهوري في مصر توشك أن تصل الى نهايتها، وتفتح الباب أمام مراجعة عميقة تستدعي فترة انتقالية، لتأسيس موجة جديدة من النظام الجمهوري تخفف من الصلاحيات المطلقة لموقع الرئاسة، وتربطها بأجل زمني يحول بينها وبين التخليد الأبدي، ويعيد حق اختيارها للناخب عبر انتخابات مباشرة، وترفع يد البرلمان عن ترشيح الرئيس، وتنهي نظام الاستفتاء فهذا هو الرجل المعقول لأزمة الاستخلاف على مستوى رأس النظام. ثم اعادة تأسيس المناخ الحزبي، برفع القيود، التي تربط الحزب الحاكم بجهاز الدولة، وإزاحة السدود التي تشمل الأحزاب القائمة، وتقطع الطريق على الأحزاب القادمة، والكف عن منطق السيادة الإعلامية، ليحل محله، منطق الحرية الإعلامية. بهذا يمكن تجديد دماء النظام الجمهوري، الذي لا يمل من تكرار صبغ شيبه بالسواد، فقبل أن تنزل الصباغة السوداء على مشيب السلطة، يكون سوادها قد سكن قلب الأمة، وبهذا يمكن اجراء شيء من التصالح يحل التناقض المحكم بين شيخوخة النظام وحيوية الأمة، ويحل التناقض الأكبر بين كون النظام جمهورياً وتملكياً في آن واحد، وذلك بتحويله الى جمهورية دستورية، الرئيس فيها يحكم ولا يملك، ويرحل خفيفاً ولا يخلد ثقيلاً. * سكرتير تحرير "السياسة الدولية" - القاهرة.