لم تعد الأحزاب السياسية قادرة على إخفاء أزمتها المتفاقمة في البلاد العربية التي تعرف درجات مختلفة من التعددية السياسية. يتساوى في ذلك البلاد التي وصل عمر تجربتها التعددية الراهنة إلى ربع قرن مثل مصر، وتلك التي لم تتجاوز عقداً واحداً إلا بقليل مثل الأردن. وحتى التجربة الأكثر تقدماً في المغرب، التي حافظت على استمرارها من دون إلغاء تام للأحزاب منذ الاستقلال، تواجه الحياة السياسية فيها مشكلات كبرى دفعت الأمين العام لحزب الحركة الشعبية محمد العنصر للدعوة في كانون الثاني يناير الماضي إلى سنّ قوانين تساعد على تقليص عدد الأحزاب، معتقداً أن التفتت الحزبي يعرقل التطور الديموقراطي. والملاحظ أن هذا الميل الى معالجة أزمة الأحزاب عبر تقليل عددها ينتشر الآن في بعض البلاد العربية. وسبق أن سمعنا مثل هذه الدعوة في الأردن العام الماضي. وهي مطروحة الآن في مصر منذ أن تبناها أحد قادة الحزب الوطني الحاكم فكري مكرم عبيد معبراً بطريقته عن جزع ظهر عقب الانتخابات النيابية الأخيرة تشرين الأول/اكتوبر - تشرين الثاني/نوفمبر 2000 التي كشفت ضعف الأحزاب أكثر من أي وقت مضى، بما فيها الحزب الحاكم الذي لم يستطع مرشحوه الحصول على أكثر من 5،38 في المئة من مقاعد البرلمان. ولولا انضمام أعضائه الذين خاضوا الانتخابات مستقلين وفازوا لما حافظ على غالبيته الواسعة. ومنذ ذلك الوقت شهدت مناقشات مجلس الشورى في مصر دعوة متكررة إلى إلغاء الأحزاب الصغيرة التي لم تقدم مرشحين الى الانتخابات الأخيرة وقطع المعونة الحكومية عن الأحزاب التي لم تحصل على أي مقعد. وهذه دعوة تثير دهشة بالغة، لا لأن الأحزاب الصغيرة تستحق الوجود، ولكن لأن إلغاءها لا يحل الأزمة الحزبية، فهذه أحزاب تكاد أن تكون غير موجودة فعلاً إلا على الورق. ولو كانت الأزمة محصورة فيها لما شعر بها أحد. ولكن الأزمة تمسك بخناق الأحزاب الأساسية، بما في ذلك أحزاب الحكم في بلاد مثل مصر واليمن وتونس والمغرب. فهذه، ومعها الأحزاب التي تمثل المعارضة الأساسية لها، هي المأزومة من داخلها في المقام الأول. ولذلك فهي تحتاج إلى مدخل نوعي في معالجتها وليس إلى منهج كمي مثل ذلك الذي ينظر إلى عدد الأحزاب. وينطلق ذلك الخلل من أن أداء أي حزب هو محصلة التفاعل بين ظرف موضوعي بيئة النظام السياسي - المناخ العام - الثقافة السياسية السائدة وعامل ذاتي يتعلق بالحزب نفسه من حيث طبيعة تنظيمه ونمط قيادته ومدى مشاركة أعضائه في إدارة شؤونه وحجم التعاون والصراع في داخله وحدود معرفته بنفسه وبالأوضاع التي تحيطه وقدرته على تقويم ممارساته وإصلاح ما يعتريه من اختلالات. ومن دون إغفال أثر الظرف الموضوعي، يظل العامل الذاتي هو المحدد الأول لأداء الحزب. وذلك يتوقف على خروج الأحزاب العربية من أزمتها على إدراكها أهمية الإصلاح الداخلي بالتركيز على ثلاثة جوانب تمثل في مجموعها المفتاح الذي تفتقده هذه الأحزاب الآن: أولاً: إصلاح وظيفي يتعلق بوظائف الحزب. فأداء أي حزب يرتبط بكيفية تحديد وظائفه. صحيح أن وظائف الأحزاب معروفة في أدبيات السياسة المقارنة، وهي تجميع المصالح والتعبير عنها والتنشئة السياسية والسعي للوصول إلى السلطة. ولكن هذه وظائف الأحزاب في الدول الأكثر ديموقراطية والتي يطلق عليها البعض الديموقراطية الكاملة. وهذا وصف غير دقيق لأن كل بلد يطور ممارسته الديموقراطية طوال الوقت. ولكن، هناك دول أكثر ديموقراطية من غيرها لأنها قطعت شوطاً أطول. ولذلك ففي البلاد التي قطعت شوطاً أقل وتواصل عملية التطور الديموقراطي لا بد من أن يُعاد ترتيب وظائف الحزب السياسي كالتالي: تأخير وظيفة التنافس على السلطة إلى المرتبة الأخيرة، وتقديم وظيفة التنشئة السياسية إلى المرتبة الأولى. فالملاحظ أن الأحزاب العربية تركز على الشكوى من أنها لا تتاح لها فرصة التنافس على السلطة وتنفق الجزء الأكبر من وقتها وجهدها من أجل محاولة تغيير الأوضاع التي تحول دون ممارستها لهذه الوظيفة. وجاء ذلك على حساب الوظائف الأخرى وخصوصاً الوظيفة الأهم الخاصة بالتنشئة السياسية. وهنا لا بد من توضيح أن هذه الوظيفة تأخذ طابعاً مختلفاً في البلاد التي قطعت شوطاً أقل على طريق التطور الديموقراطي، ليس فقط لأنها يجب أن تكون الوظيفة الأولى والأم لفترة معينة، ولكن أيضاً من زاوية توسع نطاق هذه الوظيفة. فالحزب في الدول الأكثر ديموقراطية يمارس تنشئة سياسية لأعضائه بالأساس ثم في الأوساط التي يسعى الى تجنيد أعضاء جدد منها. وهي تنشئة على أساس مبادئ ومواقف الحزب. ولكن في البلاد التي قطعت شوطاً أقل لا بد من أن يمارس الحزب تنشئة ديموقراطية عامة لجموع المواطنين وليس فقط لأعضائه والمستهدفين لعضويته. تنشئة تهدف إلى توسيع نطاق المشاركة السياسية عموماً وليس فقط المشاركة من خلال الحزب. لماذا؟ لأن الحزب لا يستطيع أن يمارس وظيفة تجميع المصالح مثلاً إلا إذا اتسح نطاق المشاركة، وبالتالي يمكن الوصول إلى وضع يتيح التمييز بين مصالح مختلفة وبلورة هذه المصالح. وإذا افترضنا أن الأحزاب العربية أعطت هذه الوظيفة حقها منذ بداية التجربة الحزبية الراهنة لكنا وصلنا الآن إلى وضع مختلف كثيراً من حيث الأداء الحزبي. ولا يستثنى من ذلك إلا الأحزاب المغربية التي تعتبر أكثر نضجاً لأن تجربتها لم تنقطع - كما سبقت الإشارة - بعد الاستقلال. ثانياً: تحديث تنظيمي: لا فائدة هنا من تكرار ما قيل عشرات المرات من أهمية ديموقراطية التنظيم الحزبي والمشكلات التي تعاني منها الاحزاب العربية في هذا المجال. فهذا كلام أصبح محفوظاً والمشكلة فيه واضحة وحلها معروف. لكن من المهم لفت الانتباه الى جانب تنظيمي آخر لا يقل أهمية ويتعلق بالبناء الأفقي للحزب. فنحن نركز دائماً على البناء الرأسي، أي العلاقة بين قيادة الحزب وقاعدته. ولكن مهم جداً أن نلاحظ أن إحدى أهم مشكلات الاحزاب في مصر خصوصاً هو المركزية الشديدة إلى الحد الذي يجعل الحزب يبدو في كثير من الأحيان كما لو كان حزباً قاهرياً نسبة الى العاصمة. وهذا أحد أسباب ضعف البناء التنظيمي للأحزاب. وهذا السبب سيكون له أثر أكبر وأخطر مستقبلاً، لأن الانتخابات الاخيرة أظهرت مدى قوة الاعتبارات المحلية. صحيح أنها كانت قوية دائماً. ولكنها أصبحت أكثر قوة. وكل من درس الانتخابات الأخيرة جيداً لا بد من أن يتوقع زيادة قوتها، ويعني ذلك أن الأجيال الجديدة في المحافظات لن ترضى بالانتماء إلى حزب يدار من القاهرة. فالعصبية المحلية وصلت إلى مستوى غير مسبوق. وهذا راجع في أحد أسبابه إلى ضعف وجود الأحزاب في المحافظات. وربما يكون مناسباً أن تفكر الأحزاب في بناء تنظيمات لا مركزية بأوسع معنى ممكن، أي أن يكون للحزب كيان متكامل في كل محافظة يستطيع أن يتحرك منه. فالمفترض أن تكون للحزب فروع في المحافظات. ولكن ما حدث حتى الآن هو بناء مقرات للحزب وليس فروعاً بالمعنى الدقيق. فالفرع في الحياة الحزبية يكون له قدر كبير من الاستقلال: رئيس للحزب في المحافظة وهيئة قيادية ومؤتمر عام أو جمعية عمومية وصلاحيات كاملة في كل ما يتعلق بسياسات الحزب في المحافظة. ومن السهل أن تزعم قيادة أي حزب أنها تفعل ذلك. ولكن هذا موجود على الورق فقط وبالنسبة إلى بعض الأحزاب وليس كلها. ومن الضروري أن يتحقق ذلك في الواقع والى مدى أبعد عما هو معروف في أبنية الأحزاب ذات الطابع اللامركزي في أوروبا مثلاً. فيجب أن تكون هناك فترة لا تقل عن عشر سنوات تعطي خلالها الاحزاب لفروعها صلاحيات استقلال شبه كامل، وليس هناك خطر من ذلك على تكامل التنظيم الحزبي، لأنه لا معنى على الإطلاق لأن ينفصل فرع في محافظة ما عن الحزب، بل على العكس سيؤدي ذلك إلى مزيد من الانتماء الى الحزب عبر الإحساس بالمشاركة الفاعلة والدور الحقيقي الذي ما زال مفتقداً. ثالثاً: تحديث مصر في ما يتعلق بمعرفة الأحزاب لنفسها وللواقع حولها: لقد أصبحت الأحزاب الآن في الدول الأكثر ديموقراطية مؤسسات تعتمد على أجهزة معلوماتية وبحثية. فلم يعد الحزب في عصر ثورة المعلومات كما كان في بداية القرن العشرين. ومهما قال قادة الأحزاب المصرية مثلاً في هذا المجال، فالحقيقة الثابتة أنه لا يوجد حزب يملك قاعدة معلوماتية معقولة ولا أقول كاملة. وتحتاج هذه الاحزاب الى تحديث حقيقي لأنها ما زالت تعتمد على أرشيفات تقليدية محدودة، بل إن بعضها لا يمتلك حتى مثل هذه الأرشيفات. وتبيَّن حجم المشكلة في انتخابات رئاسة حزب الوفد في العام الماضي عندما ظهرت خلافات على عضوية الجمعية العمومية التي تبين انها موجودة في كشوف عليها تعديلات بخط اليد وبطريقة غير منظمة، بل تفتقد الى أي تنظيم. وهذا عن جمعية تضم ما لا يزيد على ألف عضو، فكيف تتعامل الأحزاب مع سجلات العضوية القاعدية وما يطرأ عليها من تغير بالخروج والدخول ناهيك عن حركة هذه العضوية. هذا أبسط جانب في المشكلة، لكنه يدل على أن الأحزاب لا تعرف نفسها. أما معرفة ما يحيط بها من تطورات فحدِّث ولا حرج. ويمكن لأي مراقب أن يجد العجب إذا عنى بمتابعة الطريقة التي تعد بها بعض الأحزاب المصرية مثلاً ردودها على بيان الحكومة الذي ألقاه رئيس الوزراء أمام البرلمان يوم 22 كانون الثاني الماضي. فهي تجمع كلمة من هنا وأخرى من هناك وتبحث عن معلومات أولية لدى هذا المعهد أو ذاك المركز. وما لم تدرك الأحزاب العربية أهمية بناء قاعدتها المعلوماتية على أسس حديثة، لن يكون في إمكانها الخروج من أزماتها الراهنة لأن جانباً أساسياً من الإصلاح الوظيفي والتنظيمي يعتمد على بنية معرفية متطورة. * كاتب مصري، رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".