دشنت قمة شرم الشيخ بين الرئيسين السوداني عمر البشير والمصري حسني مبارك أول من أمس العودة الى التكامل بين البلدين الذي كان أرسى دعائمه الرئيسان السابقان جعفر نميري وأنور السادات العام 1974، والذي نشأ بموجبه برلمان وادي النيل واجهزة مشتركة، وصار التنقل بين الدولتين عبر بطاقة "وادي النيل" بدل جوازات السفر. لكن الانتفاضة الشعبية التي أطاحت حكم النميري العام 1985 ارتدت بالعلاقات الى الخلف، وطالبت الحكومة السودانية آنذاك بتسليمها الرئيس السابق الذي لجأ الى القاهرة، وأحرق العلم المصري في تظاهرة وسط الخرطوم. وسعت حكومة رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي الى ترميم العلاقات، لكن انعدام الثقة والتوجس والرواسب التاريخية أبطأت جهود التطبيع، وان لم تتأثر الصلات والروابط الشعبية. وكان للتنافس بين الحزبين الكبيرين في السودان "الأمة" بزعامة المهدي و"الاتحادي الديموقراطي" بزعامة السيد محمد عثمان الميرغني، دوره في خلق مناخ متوتر في العلاقات الخارجية للبلاد، بسبب دفع الحزبين لفاتورة النضال إبان فترة معارضة السلطة وصارت السياسة الخارجية أقرب لسياسة المحاور، اذ يميل الميرغني الى مصر في حين يميل المهدي الى ليبيا وايران. وكانت مصر أول دولة تعترف بحكومة البشير فور استولائه على السلطة العام 1989، بل اقنعت الدول العربية وبعض البلدان الاسلامية بمساندته. لكن شهر العسل بينهما لم يدم طويلاً، اذ بدأت العلاقات تتوتر منذ العام 1992 عندما بدأ النزاع على مثلث حلايب الحدودي بعدما منحت الخرطوم شركة أجنبية حق امتياز لاستثمار الغاز في المثلث. واستولت على الممتلكات المصرية في السودان، وهي مقرات مخصصة للري المصري، كما سيطرت على جامعة القاهرة في الخرطوم. وجاءت محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في اديس ابابا العام 1995 والتي اتهم السودان بإيواء مشتبه في تورطهم فيها بمثابة رصاصة الرحمة لهذه العلاقات، خصوصاً ان القضية وجدت طريقها الى مجلس الأمن الذي فرض على الخرطوم عقوبات دولية لا تزال تعانيها حتى الآن وتسعى للتخلص منها. غير أن متغيرات داخلية متسارعة في السودان وظروف اقليمية ودولية فتحت الباب أمام انفراج في العلاقات، لكن خطوات التطبيع بدت متثاقلة وبطيئة بسبب اتساع الهوة وتعقيد الملفات، خصوصاً ملف مثلث حلايب والملف الأمني المرتبط بوجود المعارضة السودانية في مصر واتهام القاهرة السودان بإيواء ارهابيين هاربين منها. لكن فتح قنوات اتصال مباشرة بين العاصمتين وتزايد التواصل الديبلوماسي ساعدا في تهيئة المناخ المناسب لتجاوز رواسب الماضي. ويمكن اعتبار قمة شرم الشيخ الأخيرة خطوة عملية أعطت دفعة قوية لاستكمال تطبيع العلاقات. وعكس ذلك البيان المشترك الذي أعلن الغاء تأشيرات الدخول لحاملي الجوازات الديبلوماسية فوراً ودراسة الغاء التأشيرات للجوازات العادية، وفتح قنصلية للسودان في أسواق وأخرى لمصر في بورتسودان ومكتب قنصلي في وادي حلفا لتسهيل حركة انتقال المواطنين وترفيع مستوى اللجنة الوزارية الى لجنة عليا يرأسها من الجانب السوداني نائب الرئيس ومن الجانب المصري رئيس الوزراء، وإقرار اتفاقات تعاون في المجالات التجارية والاقتصادية والصناعية وانشاء مشاريع زراعية مشتركة لتحقيق الأمن الغذائي في المنطقة الحدودية، الى جانب انشاء طرق والتعاون في مجال الاتصالات وربط الموانئ البحرية والنهرية والجوية بينهما. وعكس الوفد الوزاري الذي رافق البشير ثمانية وزراء ومشاركتهم في المحادثات بين الزعيمين، توافر إرادة سياسية قوية من الجانبين للانتقال بعلاقاتهما الى مرحلة جديدة تنتظر ان تشهد استقراراً وتطوراً. ويعزز ذلك حرص قيادتي البلدين على منحها رعاية خاصة تجنبها التأثر بالأحداث العارضة. ويتوقع ان تكون زيارة مبارك المرتقبة للخرطوم خلال الفترة المقبلة آخر مراحل التطبيع في العلاقات. لكن مراقبون يعتقدون بأن مصر ستواجه متاعب من جراء تعارض موقفها من السودان مع علاقاتها مع الادارة الأميركية الجديدة التي تدعم مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية في شرق افريقيا ايغاد من أجل حل سياسي في السودان متجاهلة المبادرة المصرية - الليبية.