"الفيلم معروض عليّ لكني لا أريده". يقول احد الموزعين اللبنانيين الذين يقصدون "كان" منذ بضع سنوات. وهو يتحدث عن فيلم "العهد" للمخرج شون بن وبطولة جاك نيكولسون مذكراً إياناً، في الوقت نفسه، ايام كان اي فيلم لجاك نيكولسون "ضربة" تجارية موفقة لأي موزع في لبنان أو خارجه. لكن "العهد" داخل المسابقة ليس الفيلم التجاري الناجح، وهو لم يلقَ بالاً في أميركا وفي أي من الأسواق القليلة التي عرض فيها الى الآن. ولن تكون السوق العربية خارج هذه الممانعة. السبب ليس في الفيلم بل في الجمهور. سنوات كثيرة مرت منذ ان كان اسم الممثل وحده كافياً لكي يثير الاقبال. بعض الممثلين اليوم لا يزال يستطيع ذلك توم كروز، توم هانكس. لكن اياً منهم لا يستطيع ان يسمح لنفسه بأكثر من فشل واحد كل بضع سنوات. "الضغط كبير على الجميع، ممثلين وكتاباً ومخرجين ومنتجين. كل واحد مطالب بأن يحقق ايرادات عالية في كل مرة، يقول المخرج البريطاني كن لوتش ل"الحياة" وهو كان جرّب هوليوود مرة واحدة وذلك في العام الماضي عندما عرض على شاشة مهرجان "كان" فيلمه الأخير "خبز وورود". بقية أفلامه كانت بريطانية، حتى تلك التي صورها خارج بريطانيا منها "أنشودة كارلا"، ويعرض له المهرجان واحداً من أفلامه الأولى Kes الذي أنجزه سنة 1969. ويضيف "حققت "خبز وورود" في أميركا انما بأسلوبي وضمن شروطي، وهذا ليس سهلاً على احد. هناك سيطرة على الأسواق الأخرى، وعلى مقدرات الفيلم المحلي". ويشرح قائلاً: "في بريطانيا اليوم ينتجون أفلاماً انكليزية، لكنهم يصنعونها لتناسب العرض الأميركي، ولتناسب الاحتمال الضعيف دوماً بأن الفيلم سيباع في السوق الأميركية. لكن الفيلم ليس بريطانياً. لا أدري ما تسميه لكني لا أجده بريطانياً". مشكلة لوتش هي مثل مشكلة جاك نيكولسون: كلاهما من جيل كان المطلب الاجتماعي في الستينات والسبعينات، عندما كان العالم الغربي قبل غيره يتنشق هواء الأفلام ذات الطروحات الاجتماعية. نعم لنيكولسون الكثير من الأفلام التجارية الصغيرة، لكنه كان المعبّر عن الجيل الرافض آنذاك. في "معرفة جسدية" لمايك نيكولز، وفي "التفصيلة الأخيرة" لهال آشبي أو في "خمس قطع سهلة" لبوب رافلسون و"ايزي رايدر" لدنيس هوبر، ترك نيكولسون تأثيراً مهماً على الحركة الشبابية بأسرها. لوتش لم يفعل ذلك، لكنه كان من بين أهم السينمائيين الرافضين بدورهم. مثل ليندساي اندرسون، كين راسل وآخرين، تعرض لوتش للشائع واستبدله، أو هو حاول. اذ يترأس كن لوتش الدورة الأربعين لتظاهرة "أسبوع النقاد" حالياً. ويطل من جديد على جمهور فاتته تلك الحقبة الستينية والسبعينية تماماً كما فاتته تلك الأفلام الأولى وفاتت أترابه. أثر كوبولا ذكرى اخرى عن الأمس يثيرها المخرج الأميركي فرنسيس فورد كوبولا. انه سينمائي آخر من تلك الفترة يستعيده المهرجان الذي كان عرض له سنة 1979 "الرؤيا... الآن" ونال له السعفة الذهبية ذلك العام. "الرؤيا... الآن" كان أيضاً فيلماً رافضاً، لكنه كان فيلماً رافضاً من نتاج المؤسسة ذاتها التي يحاربها لوتش وغيره بأسلحتهم غير الفاعلة. موضوعه كان حرب فييتنام ونسيجه المستوحى من رواية جوزف كونراد "قلب الظلام" مؤلف من خيوط متقاربة: كابتن ويلارد مارتن شين في مهمة في أعماق فييتنام لقتل الكولونيل كاتز مارلون براندو الذي يرفض الانصياع لأوامر القيادة التي استقل عنها وسيطر على قرية قريبة من الحدود الكمبودية حيث يقوم بالتنكيل بالسكان أو يحوّلهم الى جنود حماية له. ولعل مجرد الحديث عن قيام المؤسسة العسكرية بالطلب من كابتن قتل كولونيل كان نوعاً من السابقة التي لم تعرفها السينما من قبل. اذا ما أضافت اليها الموقف المزدوج لكل من الكابتن والكولونيل، كل ضد الآخر ومعه. واستعرضت الجنون الدامي الذي يحلق في الأجواء، وجدت نفسك أمام فيلم انتقادي كبير لا يزال منفرداً في نوعه وخطابه السياسي. وكان فورد ترك قبله بصمته في "العراب" بجزأيه وبفيلم انتقادي آخر هو "المحادثة"، لكن "الرؤيا... الآن" ورد في أفلام انتقادية ضد الحرب عرض منها مهرجان "كان" عدداً لا بأس به ومن بينها "العودة الى الوطن" لهال أشبي نال له جون فويت سعفة أفضل ممثل. مشكلة كوبولا اليوم هي مشكلة الآخرين من أترابه: التواصل بينه وبين الجمهور كان في أفضل حالاته، عندما كان ذلك الجمهور هو من جيل كوبولا ذاته. وهذا تفرق لاحقاً ولم يعد يجد ما يؤثر فيه كما كان حاله شاباً. آخر فيلم لكوبولا، وهو "المستمطر" أخفق في تحقيق أي نجاح، على رغم انه سبق "ارين بروكوفيتش" في تعرضه لموضوع التلوث الكيماوي الذي تمارسه المؤسسات الكبيرة. العهد... العهد وهذا ما يعود بنا الى... جاك نيكولسون وفيلمه "العهد". في وصفه الفيلم يقول الممثل انه قرأ الرواية وأعجب بها لكنه اعتقد ان احداً لن يستطيع تحويلها فيلماً سينمائياً. هذا الى ان جاءه المخرج والممثل شون بن بالسيناريو المقتبس عنه: "أدركت ان المخرج وجد طريقة لمعالجة موضوع صعب. لفتني ذلك الى نضج المخرج ولاحقاً أدركت خلال التصوير أنه أصبح قادراً على السيطرة على عناصر فيلمه كلها ويتحلى برؤيا جيدة فوق ذلك". وما يقوله نيكولسون موجود على الشاشة بالفعل. "العهد" الذي نراه في المسابقة صعب المعالجة فعلاً. الحكاية تسهب في تقديم حالة قد لا تنتقل صورياً الى الشاشة على نحو صحيح: نيكولسون هو التحري الذي يرفض التخلي عن وظيفته حتى بعد تقاعده لأنه قطع عهداً على نفسه ولأم فتاة صغيرة اغتصبت وقتلت، أن يجد القاتل مهماً كلفه الأمر. قضية المبدأ هذه تتسبب في قيامه بتنفيذ خطة طويلة الأمد. يشتري بيتاً ودكاناً في بلدة ثلجية صغيرة. يتعرف على أم تعمل في مطعم روبين رايت بن لديها ابنة صغيرة في عمر الفتاة الضحية ويعمل سراً على استخدام الفتاة الصغيرة طعماً يجذب اليه القاتل... وعندما لا يصل القاتل اليها، ويخسر احترام زملائه ويتسبب في ذعر الأم وابنتها، يفقد كل أمان كان خالجه من قبل. لكن الخسارة الكبرى كانت أنه قطع وعداً لم يستطع تنفيذه. وضع كل رهاناته جنباً الى جنب مع كبريائه ومباديه في سلة واحدة و... خسر السلة بكل بما فيها.