تتوالى اجيال الشباب اليابانيين، شباناً وشابات، منذ منتصف القرن العشرين، على وقع أحوال المجتمع الياباني وأطواره. ففي أعوام العقد السادس الخمسينات كانت صفة "قبائل الشمس"، على ما شاعت تسمية جيل الشباب وجماعاته، هي الإقبال المحموم على ضروب الحياة ومواردهاوأفعالها. وكان التهام الحياة وعبُّها من مصدرها "الشمسي" ، استقلالاً وتبديلاً وعشقاً وشرباً وسرعة، مثال الحياة الفتية، والردهة التي تمهد الطريق لولوج الحياة الجادة الوشيكة. فالحرب الكبيرة، وتاجها النووي الساطع والمدمر رصعته قنبلتا هيروشيما وناغازاكي، لم تكن بعيدة - ومن بلغوا عامهم الخامس عشر أو العشرين في 1950 ولدوا بين 1930 و1935، وحوادث الحرب ووقائعها المجيدة والفظيعة لم تكن بعد أطيافاً، ولم تُخْلِ ذاكرة الأهل ولا تعصى تذكر أبنائهم. من "قبائل الشمس " الى "جيل الدلفين" وجيل الذين بلغوا العشرين في العقدين التاليين، عقدي أعوام 1960 و1970، كان شأنهم شأن معاصريهم ومجايليهم من شباب المجتمعات الأوروبية والأميركية. فهم كذلك أرادوا "تغيير العالم". فقاموا على حرب فيتنام، القريبة، وعلى الموت الذي يقصف أعمار الشبان الفيتناميين والأميركيين والأستراليين والكنديين. وخرجوا من مدارسهم وجامعاتهم، حيث كانوا عقدون الجمعيات العمومية الصاخبة والمديدة، مسلحين بالعصي، وملثمين بكمامات القماش المبتلة بالماء، وجبهوا الشرطة وقنابل الدموع، ونددوا بإسهام بلدهم ودولتهم بالمال والسلع في حرب غير مفهومة، ولا محل لها في عالمهم وسياستهم. وفي الأثناء، كان آباؤهم، وبعض الآباء هؤلاء ولدوا من جيل "قبائل الشمس"، يرفعون اليابان، "شركة اليابان" على ما قيل، إلى مرتبة القوة الاقتصادية الثانية في العالم، ويصنعون منه أول مجتمع حديث غير أوروبي. وعرف جيل عقد 1970- 1979 باسم "القصب الفتيّ" فهو الى تظاهراته وثورته وتضامنه مع "حركات التحرر الوطني" ومنها الحركة الفلسطينية، وأدى التضامن معها الى إنشاء "الجيش الأحمر" الذي حلته منشئته الخمسينية في نيسان /ابريل المنصرم، توسل بتزويق وجوه شبانه وشاباته تزويقاً مبالغاً، وبرقصهم مساء الأحد بضاحية حديقة يويوغي، في طوكيو، وهم مقنعون ومتخفون في أزياء مستعارة. وخلفت حفلات الرقص هذه الى اليوم، سوق ثياب وألبسة وأجزاء ألبسة وبقاياها "حراتيق" فائضة تملأ حوانيت شارع تاكيشيتا، ويتردد إليها شباب جيل اليوم. وخلف جيلُ "العرق الجديد" أو "جيل الدلفين" على ما عرف كذلك، جيلَ "القصب الفتيّ" في أوائل الثمانينات. وأقدم شباب "العرق الجديد" على شراء شارات الرخاء واليُسر المعروفة والمعلنة يومها. وقامت حيازة السيارات والدراجات النارية وآلات التصوير والتسجيل، وعلامات الألبسة الجاهزة والقيافة و"مخالبها"، مقام التعريف بالنفس وبالمرتبة والعمل. فجيل "العرق الجديد" أو "الدلفين" كناية عن ذكاء أفراده ورهافة حسهم ولطفهم ولد ونشأ وشب في كنف اجيال الأهل الذين أتموا ما ابتدأه جيل الخارجين من الحرب في العقود الأربعة بين 1950 و1990. فصبت روافد البحبوحة والوفرة المتخلفة عن عمل العاملين في "شركة اليابان" و"صليبيي" الإنتاج والعمل الثابت، بين يديه. فكان شباب هذا الجيل، على مثال آبائه وأمهاته، نتاج طبقة متوسطة عريضة ومتجانسة ومحافظة. وفي غضون العقد التاسع هذا عمّ وشاع ما سمي ب"النموذج" الياباني. وشَخَصت المجتمعات الأخرى، البعيدة والقريبة، الأوروبية الأميركية والآسيوية، الى طرائق الحياة والعمل والاستهلاك اليابانية. واستخف الإعجاب بكل ما يصنع في اليابان مراقبين وخبراء من كل الألوان والأصناف. فذهب مختصون في التربية، على سبيل المثال، الى أن "سر" السبق الياباني ربما يقبع في توسل اليابانيين بضرب أولادهم في المدارس، وتأديبهم بقسوة وصرامة. وعلى هذا فما على الأوروبيين والأميركيين "المائعين" إلا العودة الى بعض الشدة، وانتظار ثمراتها الصناعية الوارفة والوشيكة. وفي أثناء العقد هذا، عقد الثمانينات، حبل المجتمع الياباني، دولة وطبقات اجتماعية ونخباً، ب"فقاعة المضاربة" التي انفجرت في 1991، وآذنت بعقد لم ينصرم بعد "العقد الضائع"على زعم دعاة الإنتاج والمنافسة من الركود والانكماش الاقتصاديين. ويتوقع مراقبون كثر ان يدوم الركود والانكماش المتخلفان عن الإفراط في الاستدانة والتسليف المصرفيين - من غير ضمانات تحصيل ولا تقويم جاد وصارم لجدوى الأعمال الممولة وحظوظها من الربح - يتوقعون أن يدوم عقداً آخر. وفي ثنايا الانتقال من طور الى طور نشأ جيل ياباني جديد من الشبان والبنات يعرف تارة باسم "جيل شيبويا" باسم حي بغرب طوكيو ترتاده الفتيات اليافعات وتارة أخرى باسم "جيل فوريتا" نسبة الى كلمة مشتقة من "حر" في الانكليزية و"عمل" في الألمانية. وداع "شركة اليابان" وإذا كان اسم الجيل الذي يخلف اليوم أجيال "قبائل الشمس" و"القصب الفتيّ" و"الدلفين" يُنسب إلى موضع، هو حي التقاء فئة من هذا الجيل، أو إلى نوع من العمل، فالنسبة المزدوجة هذه تضمر وصفاً لا يقتصر على مكان الالتقاء ولا على نوع العمل. فالحي والعمل هما قرينة على ما صارت إليه علاقات بعض جماعات الشباب بعضهم ببعض، وعلى ما يجمعهم ويفرقهم جماعات وفئات. وهما قرينة على ما يستتبع محلُّ التلاقي ونوع العمل هذان من أذواق وآراء، وطرائق أو أنماط حياة، ولمحات. ولعل أول ما يستوقف مراقبي الشباب الياباني - من صحافيين يابانيين، وصحافيين أجانب أوروبيين. والفريقان ينقلان عن محامين وباحثين نفسانيين وباحثين في الجريمة ودارسي اجتماعيات، ومحللين اقتصاديين، ومشرفين على برامج تلفزيونية أو موسيقية - هو انحلال المثال الياباني أو "النموذج" الياباني، الراشد والشبابي على حد واحد. فيكاد المراقبون يجمعون على أن ما ربما صح فيما مضى من جمعِ شبان وشابات الطبقات المتوسطة اليابانية العريضة في باب واحد وقريب من التجانس، لا يصح اليوم لا في "طبقة" الأهل ولا في "طبقة" من تترجح أعمارهم بين خمسة عشر عاماً وخمسة وعشرين. فعلى نحو ما حلت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ثمرة انفجار "فقاعة المضاربة" المالية والعقارية في مستهل العقد السابق، وحدةَ الطبقات الوسطى كلها وتماسكَ أجزائها ومراتبها، أعملت الأزمةُ نفسها التفاوتَ والتباين في جيل الشبان والفتيات وفي مثالاتهم، وباعدت بينهم. فما جعل من المجتمع الياباني، طوال الأربعة عقود ونصف العقد التي أعقبت الحرب الخاسرة، مجتمعاً مجنداً في سبيل الإنتاج والعمل، ووحَّده على ما يشبه التنسك والرهبنة الصناعيين والآليين، تهافت تحت وطأة الأزمة المتطاولة والمستشرية. فامتحنت البطالةُ العاملين اليابانيين. وبلغت نسبة الذين خسروا عملهم من الذين بلغوا فوق الثلاثين عاماً ومعظمهم من الذين بلغوا الخمسين 8،4 في المئة. وتبلغ هذه النسبة نصف نظيرها في فرنسا. وهي تساوي نظيرها الأميركي. وعلى حين يحتفل الفرنسيون بنقص بطالتهم عن العشرة في المئة، وبعرض سوق العمل طوال السنوات الأربع المنصرمة فوق مليون فرصة عمل جديدة، وبينما يذهب الأميركيون الى أن بطالة 5 في المئة من العاملين إنما هي ثمن تداول الأعمال والوظائف على حِّده حد الثمن الأدنى - تقع نسبة الخمسة في المئة على المجتمع الياباني والعاملين وقوع الكارثة. فمنذ سنوات الازدهار الأولى حظي العاملون "طبقات" المأجورين من عمال "البزات الزرقاء" ومستخدمين ومراقبين ومكتبيين مؤهلين و"أُطر" الياقات البيضاء ومسوِّقين... بعمالة تامة ومستقرة. وكان العقد، مدى حياة عمل كاملة، بين المَنْشأة وبين العامل البرهانَ الملموس على الرابطة الثابتة التي تشد الى الشركة أجراءها من مختلف المراتب والرواتب. ويضمن العقد تدرج دخل المتعاقد من أدنى الدرجات الى أعلاها. وترسو علاقة العمل، والحال هذه، على مثال أبوي وعائلي تقليدي، وإن من غير ضمانات اجتماعية ترعاها هيئات إدارية ومالية مستقرة. فمزج المجتمع الياباني حراكاً اجتماعياً واقتصادياً نشطاً، ومحافظةً ثقافية وسياسية واجتماعية قريبة مما سماه الروس "السوفياتيون" استنقاعاً. ونشأ أولاد اليابانيين طوال نيف وأربعة عقود على دوام هذا المثال. وهو مثال يناسب مناسبة تامة، على ما ظهر من الاختبار، إنتاجَ الجملة الآلي والجماهيري والتوزيعَ المتجانس. وصنفا السيارات والسلع الكهربائية والإلكترونية فرعان من فروع هذا الإنتاج الذي كانت الصناعة اليابانية مبرِّزة في مضماره. وعلى قدر مناسبة المثال الياباني مضمار الإنتاج هذا، ظهر الفرق واضحاً وجلياً بينه وبين "مجتمع الإعلام" ومتطلباته ولوازمه. ولعل أول شرائط هذا "المجتمع"، القائم على المرونة والتأهيل الدائم والتقطع والمبادرة، عاملون من ضرب يختلف عن الضرب الذي أشاعته "التويوتية"، على ما يسمي اليابانيون نمط العمل السائد في مصانع "تويوتا" للسيارات على منوال الفوردية الأميركية أو التايلورية والقائم على العقود الدائمة والتدرج داخل المنشأة الواحدة والأبوية التقليدية. ومعنى هذه الواقعة الاجتماعية الكبيرة ان القالب أو المثال العام والمقبول، المتحدر عن الآباء، تهافت أو هو صائر الى التهافت. فهو، أي القالب الأبوي والموروث، لا ينتظر حتماً الأبناء، وجيلهم، في أعقاب فتوة يقضونها في الثورة على المثال الأبوي والخروج عليه. فلم يبق ثمة مثال واحد وثابت يصبر على انقضاء سن الفتوة والشباب، فما ان ينعطف الشبان والفتيات صوب سن الكهولة الأولى، ويبلغوا أعوام 25- 30 سنة، حتى يستحوذ المثال عليهم، ويُدخلهم في رسمه وحده. فهذا عهد ولّى منذ عقد مع طي صفحة الازدهار والتوسع "التويوتيين" الطويلة. وتحصي وكالة العمل 7،1 مليون "عامل" وتعني الكلمة كل من يعمل نظير أجر أو دخل شاب، بين 15 و24 سنة، يتنقلون بين أعمال "صغيرة" وغير مستقرة. ويقدر بعض المراقبين عدد هذا الضرب من العاملين بما لا يقل عن ضعفي هذا الرقم. فيبلغ الذين يتعمدون الانفكاك من قبضة عمل ثابت 4،3 مليون عامل. ويلتقي، على هذا، تيار اقتصادي يقدِّم المرونة والمنافسة بنازعٍ ثقافي، شبابي، يؤْثر الحرية وذائقة اختبار الحياة اليومية على الدخل والمستوى الاجتماعي. ويشترك 40 في المئة من فئة العمر هذه، بحسب وزارة العمل، في اعتبار العمل والمهنة وسيلة الى غاية هي التمتع بالحياة وصرف معظم الوقت الى اختباراتها. وإذا كان ثلاثة من أربعة حاملي شهادة جامعية ما زالوا يبحثون عن التعاقد مع منشأة كبيرة أو متوسطة على عمل ثابت، ويسيرون تالياً على خطى آبائهم، فما لا يقل عن ثلث هؤلاء يتركون العمل الثابت هذا بعد أقل من ثلاث سنين. ويعللون تركه ببحثهم عن عمل آخر يرضيهم ويلبي رغباتهم واحتياجاتهم الشخصية على نحو أفضل. وينسب شاب من أربعة شبان وشابات جامعية نفسه الى فئة "الفوريتا"، أو العاملين الأحرار. و40 في المئة منهم لا يريدون، قصداً وعمداً، عملاً ثابتاً، ويسعون في التقلب بين أعمال مؤقتة وعابرة، على رغم ضعف ملاءتها من الضمانات الاجتماعية. وإذا استقر بعض "الفوريتا" هؤلاء، حين بلوغهم الثلاثين، اختاروا مستقراً شركة متوسطة أو صغيرة، أو أنشأوا هم شركتهم. فيقع الصحافي أو الباحث الاجتماعي، وهو يتعقب آثار هذا النمط من الشبان والشابات، على أخصائي معلوماتية في الثالثة والعشرين من العمر، يقسم وقته السنوي بين أشهر عمل قد تبلغ السبعة أو الثمانية، يقضيها في صوغ البرامج المعلوماتية وكتابتها، في شركة صغيرة يعمل فيها نحو عشرة من زملائه وأصحابه، وبين أشهر يصرفها الى الغطس البحري على شواطئ الفيليبين حيث سطا أبو سياف على السيدة ماري معربس وزملائها!. أو يقع على متخرج من كلية الاجتماعيات سوسيولوجيا لا يرى حرجاً في العمل موزعاً بريدياً خاصاً على دراجة نارية كبيرة، طوال ستة أشهر من السنة. أما الأشهر الستة الباقية فيقضيها، هو وصديقته خلفه، على طرقات العالم وقاراته. ولقاء هذا الوقت الحر يقنع، هو وصديقته المتخرجة من كلية الفنون الجميلة، بالسكن في حجرة ضيقة. ويرد الشاب على إنكار والديه، الطبيبين، تدبيره لحياته على هذه الطريقة، عملاً ومساكنة وسكناً، بطلب الوقت واستمهال الجواب: "نرى لاحقاً!". ويتصل الانقطاعُ من العمل المستميت، وتركُ الإمساك، يتصلان بتراث ياباني، هو صنو تراث ضبط النفس السامورائي والحربي، يقدم "روحَ اللذة" والمتعة، وما يلحق هذا الروح من ضحك ولعب وفضول بحيال الغريب والمجهول، على التجلد وإرجاء حاجات النفس والجسد. وعلى خلاف "أهل العبث واللعب"، في أوائل القرن العشرين، لا يقتصر أهل التلذذ والسفر والتبديد اليوم على طبقة المجتمع العليا، وعلى سراتها. فهم يجتمعون من كل طبقات المجتمع. وليست الطبقات المتواضعة الدخل أقلها إسهاماً في ندب أفراد وجماعات منها الى الاختبار والاستمتاع. ولعل حصة الطبقات المتواضعة الدخل من "العازبين الطفيليين"، على ما يسميهم الباحث في الاجتماعيات ماساهيرو يامادا، ناقماً ومتحاملاً، وهي حصة كبيرة، لعلها قرينة على إقبال كل الفئات الاجتماعية، ولاسيما فئة الشباب، على تثمير بعض وجوه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية اليابانية في صوغ آداب وسنن وقيم تستجيب أوضاعاً وأحوالاً جديدة، وتملي متطلباتِ الشباب على "عالم" الإنتاج والعمل الاقتصادي. الفتيات أولاً ويتوسل الخروج على "النموذج" الياباني الأبوي، والعامودي السلطة "تنزل" من فوق، بوسائط تنقل "عدوى" التلاقي والتعارف والاختلاط، وتنسج العلائق والروابط أفقياً، من غير الاحتكام الى مثال "أعلى". ومن الدلائل على هذا انتشارُ الهاتف النقال "الخَلَوي" بين المراهقين من الجنسين انتشاراً قل نظيره. ففي العام ألفين المنصرم بلغ عدد الهواتف النقالة نحو سبعين مليون هاتف - ويعد اليابان نحو 125 مليوناً من السكان. وفي مستطاع نحو عشرين مليوناً من هذه الهواتف النفاذ الى الإنترنت. ولا تقل نسبة من يحملون هاتفاً نقالاً، ولم يبلغوا العشرين بعد، عن ثمانين في المئة من فئة عمرهم في طوكيو العاصمة. وتؤهل وسائل الاتصال هذه لعلاقات اجتماعية مباشرة لا تقيدها أحكام السن والنفوذ والمرتبة والتقليد. ولا تتقيد هذه العلاقات، من وجه آخر، بالجوار والقرابة ولا بآدابهما. ويزعم مراقبون محليون وأجانب أن اليابانيين الفتيان والشبان، على خلاف المكتهلين من مواطنيهم، قلما يعيرون آداب الاحترام الشكلية، هي ثقيلة الوطأة على مجتمع نزّه الامبراطور عن الإنسية الى وقت قريب، اهتماماً. فهم يكلمون من يتوجهون عليهم بالكلام من غير مواربة ولا تمهيد. وإلى ذلك طلَّق معظم الشباب بزة آبائهم الرمادية الواسعة، والمؤلفة من السترة والبنطلون والقميص الأبيض والياقة المنشّاة وربطة العنق، وتركوها. وتركوا معها حقيبة "السامسونايت" الأزلية الى ألبسة وثياب لا تنضبط على مثال ولا على موضة أو دُرْجة. وتسمية جيل الشبان والشابات من العقد المنصرم وذيوله في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ب"جيل شيبويا"، على ما مر، علامة على قوة الرابطة التي تشد هذا الجيل الى الحرية في اختيار الملبس والمسلك والموسيقى والمسكن والعمل كذلك. فحي أو حارة شيبويا، الى الغرب من طوكيو حيث محطة قطارات كبيرة، يعج بالمراهقات اللواتي تترجح زينتهن ويترجح لبسهن بين "الأمازون" - الشابة المسترجلة المرتدية بنطلون الجلد القصير ومعطف الجلد الطويل إلى كعبي حذاءيها - وبين "الوجه الأسود" - وترتدي هذه التنورة الزهرية القصيرة، وتنتعل جزمتين بيضاوين تعلوان نعلين سميكين -. وعلى حين تحوط عيني "الأمازون" هالة فاحمة، ويميل أحمر شفتيها الى اللون الزهري الفاقع، تصطبغ بشرة "الوجه الأسود" بصباغ نحاسي، ويحف العينين لون أبيض، ويتدلى شعرها الملون على صورة شعر باربي الأشهر. ويتقاطر الى ضواحي محطة القطارات، وإلى حي هاراجوكو القريب من شيبويا، البنات "النيئات السيقان"، أي العاريات السيقان عرياً فجاً ومن غير تطرية، والرجال والنساء الذين خسروا المأوى والمبيت، جراء صرفهم من العمل وبطالتهم وتركهم بيوتهم وأهلهم، وتلامذة الثانويات من الجنسين، والعاملون والعاملات الشبان في المنشآت الصغيرة، والعاطلون عن العمل. ويلتقي المتقاطرون هؤلاء، على مختلف روافدهم، في المقاهي والمطاعم السريعة وصالات الموسيقى وصالات السينما ونوادي اللقاء ومقاهي الرسوم المصورة. وللهاتف الزهري حصة من الملتقى. وتتصدر الفتيات هذا الملتقى الواسع والمتنوع. فجعلت ملابسهن وزيناتهن منه حاضرة أولى من حواضر موضة الشارع أو الطريق. وهذه الموضة، على خلاف موضة كبار المصممين ومصانع الألبسة الجاهزة الفاخرة أو الجماهيرية، يرتجلها أصحابها صواحبها في هذا المعرض ارتجالاً وعلى غير مثال ولا قياس. وتتجدد الموضة هذه من غير انقطاع ولا فتور. فتتتابع موجاتها الواحدة تلو الأخرى. وتولد الموجة من توليف غريب وطارئ بين أنواع من الأقمشة وألوان من المساحيق والصباغات لم يسبق لها ان جمعت معاً. فلا ميزان للابتكار ولا قيد عليه أو على المخيلة التي تبتكر. فيُجمَع شعر الرأس - وتترجح ألوانه بين الأزرق والبرتقالي، ويصفف إذا جازت العبارة على نحو سنبلة القمح أو على رسم الخصل الافريقية المجدولة أو يُفرق في وسطه ويمسَّد - يجمع إلى حاجبين يرسمان بالحبر أو بغيره على شاكلات لا تحصى، من النقطة الى القوس بين الأذن والأنف. أما الأقمشة فقد تقتصر على حياكة الشال القطني حياكة الشبك البحري وتلبس قطعة واحدة" وقد تشبه التنورةُ المرقَّعةَ الصوفية، فتُخاط رقعها رقعة رقعة، كل رقعة من لون ومن نسيج، بعضها الى بعض. وتظلل اللابسة، أو اللابس، مظلة ترد شمساً شتائية فاترة. ويحتذي صاحب أو صاحبة هذا اللباس حذاءين ضخمين، مخططين بالأحمر، ويعلوهما الكشكش" وقد يرتدي معطفاً مثل معطف المهرجين زركشةً ورسوماً هندسية وفلكية... فالقاعدة الأولى هي التلصيق "الكولاج" والمبالغة في التأليف بين المتباعد والمتنافر. والتلصيق هذا هو الطريق "الملكي" إلى الفرادة. ولا تتصور النفسُ "الحديثة" حداثتها إلا على شاكلة الفرادة ونحوها. ولا يحول الابتكار المرسل هذا بين جمهور الفتيات اليابانيات اليافعات وبين بعث تراث ياباني قوامه التقنع والتبرج إما على مثال الرجال الذين يؤدون أدوار النساء في مسرح الكابوكي، أو على مثال نساء فرقة تاكارَزوكا اللواتي يؤدين أدوار رجال في المسرح الموسيقي الشعبي، ويتمتعن بصيت ذائع في صفوف الجمهور العريض. ويصدر عن فنون التزيي والتبرج التلقائية هذه متفنون محترفون في رسم الأزياء والألعاب وفي قص الشعر. وهؤلاء المتفننون يبلغون من العمر عمر زبائنهم، فتياناً وفتيات. وفي غضون أعوام قليلة نجحوا في اجتذاب الأنظار الى محالهم في حي هاراجوكو، من أحياء طوكيو الغربية والقريب من حي شيبويا ومحطة سكتها الحديدية. فشوارع هاراجوكو الخلفية تغص بمحال صالونات قص الشعر "الأكواريوم" كناية عن جدرانها الأمامية الزجاجية، وبالمصففين "الكاريزميين"، كناية عن "إلهامهم" ودرايتهم في إبداع تصفيف يناسب الذين يترددون إليهم وقد يضطرون إلى حجز دورهم قبل أشهر مديدة من الموعد. وعلى جاري الأمور في المجتمعات الرأسمالية واقتصاد السوق، لم تلبث الموجات التلقائية ان وَلَدت صناعةً وتجارة منظمتين. فتلقفت موضةَ الطريق مَنْشأةٌ تجارية وصناعية كبيرة هي شركة "هانجيرو". فعمدت الى تصنيع الألبسة وتوزيعها في محال كثيرة. واقتفت شركات أميركية ويابانية أثر "هانجيرو". فأخرجت "غاب" الأميركية و"أونيككلو"اليابانية ألبسة جاهزة للشبان والشابات، واستلهمت رسوم الألبسة التي يرتديها المراهقون والمراهقات في حيي طوكيو، ويرتجلونها لليلة واحدة أو ليوم واحد. وهذا وجه أخير من وجوه خروج الثقافة اليابانية اليومية من أرخبيلها المحلي وعزلتها. فعلى غرار المجتمعات الأوروبية والأميركية، وهي تصدِّر إلى أنحاء العالم كلها كلمات وألحاناً وألواناً وحركات أجسام ورسوم وجوه الى تصديرها السلع والمعارف والخبرات، لا تقتصر صادرات اليابان على سيارات وإلكترونيات - وفي الآتي القريب ربما على التقنيات البيئية وتحلية المياه - . بل إن هذه الصادرات تحتوي على شطر متعاظم من "إنتاج" الشبان والفتيات. فمسلسل صور "بوكيمون" بلغ توزيعه في الولاياتالمتحدة وكندا عشرة ملايين نسخة. وتبث شاشات التلفزة المسلسل المتحرك، حامل الاسم نفسه، في ستين بلداً بينها بلدان في آسيا وافريقيا وأميركا الجنوبية، الى الشرق الأوسط. وبيعت عشرة ملايين نسخة من رسوم "سايْلِرمون" المصورة في ألمانيا والأسواق الألمانية اللغة. ويقبل الإسبانيون، والإسبانيو اللغة، على رسوم "دورايمون" المتحركة إقبال الإنكليزيي اللغة على "بوكيمون". وتجتاز موسيقى "البوب" اليابانية، مع المغنية رينغو والاسم يُلمح إلى أحد أركان "البيتلز" شِيئينا، وتبلغ من العمر 22 عاماً، حدود الأرخبيل، على شاكلة موضة شيبويا. فالشباب الياباني عامل من عوامل الانخراط الفاعل في عولمة كثيرة الروافد. وهو ينخرط في العولمة المزركشة هذه حاملاً معه زركشته الداخلية والمنزلية، الاجتماعية والذوقية الجمالية، ومبدداً صورة "شركة اليابان" المجندة في سبيل "قضية" واحدة هي الحرب الاقتصادية المظفرة.