يبدو عنوان التقريب ايجابي الدلالة ومنتجاً للوهلة الأولى، إلا أن ثمة فارقاً كبيراً بين التقريب والتقارب، وبين ما يدفع من الخارج وبافتعال وما يحصل تلقائياً وبتفاعل داخلي. فالصيغة الأولى توحي بالسكونية والجمود خلافاً للثانية التي تشي بفاعلية ذاتية جاذبة. والاختلاف في الصيغتين لا ينبع من الدلالات اللفظية للتفعيل والتفاعل - تقرب، تقارب - وإنما هو وليد قناعات راسخة لدى المشتغلين بالمصالحات في أن المذاهب مجرد وحدات كيانية مستقلة ومتباعدة عصية على التشكل في وحدة منهجية مؤثرة وفاعلة، وأكثر ما يمكن فعله هو الاعتراف المتبادل واقامة شكل من العلاقات يشبه الى حد ما، ما ترسمه الدول في علاقاتها السياسية بما يسمى معاهدات حسن الجوار، وعلى رغم الجهود الكبيرة التي بذلت في هذا المضمار، لم يطرأ تبدل يعتد به على مستوى النتاج العلمي وإن أحدثت هذه المحاولات بعض التبدلات في النظرة، وجلها ذو طبيعة قانونية كمسألة الاعتراف المتبادل ورفع الحظر عن تدريس الفقه المخالف في الجامعات والمعاهد الدينية. ومع إيماننا بأهمية هذه الخطوات التي أسهمت وتسهم في خلق مناخات الحوار، الا انها ليست كافية، ولا تعدو كونها خطوات اجرائية مساعدة لا تمس جوهر المشكلة، بل نقول ان مجرد التفكير بالتقريب لا يسمح بأكثر مما أنجز. أما الاسهامات العلمية التي باشرها بعض مراكز الدراسات أو الباحثون المنفردون، فبقيت محصورة داخل إطار المقارنة بين فقه المذاهب، إما في صيغة ابراز التباينات أو اضاءة المساحات المشتركة والأحكام المتقاربة، لكن هذا الجهد العلمي بقي محكوماً للفقه المنتج وأسير عقلية الاجتهاد التي ترى الى المباني الأصولية والكلامية والفقهية لكل مذهب على أنها وحدة متكاملة ومغلقة عصية على الاختراق والتفاعل. في الواقع، لا يمكننا محاكمة كل ما قدم من انجازات خارج اطار العقل المذهبي الذي حكمها ومنهج التفكير السائد لدى حماة المذاهب كلها. ومن المفيد القول هنا، ان ثمة كيفية واحدة تسوق طرائق المعالجة وآلياتها، بدءاً بعلم الكلام وانتهاء بالفقه. والاختلاف الذي يميز تلك الوحدات المذهبية لا يتعدى بعض التفاصيل والمفردات المتناثرة. علم الكلام والعصبيات المذهبية إذا أجرينا عملية تحليل عميقة للعناصر التي تتكون منها عملية الاستنباط الفقهي لدى جميع الوحدات التاريخية وتقصينا عن المشتركات والمتغايرات يتبين بوضوح ان لا خلاف جوهرياً في الأصول ومصادر الاستنباط وآليات انتاج الأحكام الشرعية والفتاوى. وإذا كان الأمر كذلك فأين يكمن الاختلاف إذاً؟ يستحكم الخلاف في أكثر العناصر احتجاباً وتخفياً، وإن كان في الواقع الأكثر حضوراً وتأثيراً، أعني علم الكلام، خازن مختلف أشكال التباينات والاختلافات السياسية على امتداد التاريخ الاسلامي، وهو الذي يطبع الأبحاث الأصولية والفقهية بملامحه وخصائصه ويضفي عليها تلويناته، فإذا ما تعرى علم الاستنباط من هذا اللباس باللون التاريخي المتصرم ومُكّن المجتهد من رفع سيفه والتحرر من سطوته وسيطرته لأمكن القول ان النتاج الفقهي اضحى مصبوغاً بالروح العلمية المجردة التي هي منتهى ما يبتغيه الباحث الموضوعي. للوهلة الأولى يفهم أن المطلوب هو اختزال علم الكلام نهائياً من منظومة علوم الاستنباط والاجهاز الكامل عليه لوقوفه حجر عثرة أمام وحدة البحث العلمي والروح الموضوعية في الأبحاث الفقهية، لكن حقيقة ما نريد تقديمه هنا، هو البوح برقابة علم الكلام والاعتراف بحاكميته القسرية من جهة، والتجرؤ على نقده ونقضه، وبالتالي تحريره من وهم كونه مقدساً ومتعالياً، من جهة أخرى. والنقد المتقدم لآليات الاستنباط ومناهجه ليس مجرد استعادة لملاحظات من سبق، أو مراكمة تستهدف تقويض البناء القائم من دون ايجاد بدائل أو اقتراح حلول علمية يفترض بها المساهمة في اعادة رسم ما منهجي جديد يؤمل منه ردم الهوة السحيقة بين الفقه والاجتهاد وبين الزمن الذي نحياه. في هذا المقام، يمكن تقديم تصور لآلية جديدة لعملية الاجتهاد تستبطن فاعلية خاصة تبقي أفق المعنى مفتوحاً انفتاح القرآن الكريم على الحياة. يلاحظ هنا، ان هذه الآلية لا تبتعد كثيراً من السائد، لكنها أكثر جرأة على البوح بحقيقتها من سابقتها. تقوم الآلية المقترحة على اعتبار علم الكلام أساساً نظرياً لا بُدّ منه، ينبغي الاشتغال عليه وصوغه قبل المباشرة الفعلية في عملية الاستنباط. وهذا لا يعني ان الاجتهاد السائد لم يكن كذلك فعلياً، وانما كان المجتهدون يحاذرون الكشف عن حضوره من جهة، ومن جهة ثانية يرون المنجز من علم الكلام المتوارث على انه حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش. علماً ان الظروف التي حكمت انتاج هذا الحقل سابقاً تبدلت الى حدود كبيرة بينما المقصود من الكلام في الآلية الجديدة، الرؤية النظرية المنتزعة من دراسة معمقة للبنية المعرفية للقرآن الكريم أولاً، ثم التشريعية فتُمكِّن الأولى من توجيه الثانية ورعايتها، بمعنى ان تبدأ عملية الاجتهاد من علم الكلام لا من الفقه. أما العناصر العلمية التي ينبغي أخذها في الاعتبار في عملية الصوغ فتنتظم على الشكل الآتي: 1 - اعتبار الكتاب العزيز المصدر الأول والأساس في عملية البناء النظري على أن يستعان بالسُنّة لا باعتبارها مصدراً رديفاً يوازي الكتاب وإنما كعنصر مساعد يُمكنه اسعاف المجتهد على تبصر المعنى والوقوف على المقيدات والمخصصات المكانية والزمانية للأحكام القرآنية. 2 - تطوير علم البيان والمعنى والاستزادة من الابداعات الحديثة والمعاصرة في ما يعرف بعلمي النص والتأويل، أي ألا يكتفى بعلم البلاغة الذي أبدعه العقل العربي - التاريخي، وانما الأخذ بكل ما ابتكره العقل الانساني في مجال البحث في دلالات النص ومناهج وآليات الكشف عن المعنى. 3 - الاستعانة بعلم التاريخ، وتحديداً التاريخ الاجتماعي والسياسي ليقدم للمجتهد صورة عن واقع الحياة وتطويرها في عصر ما قبل وخلال وما بعد النص، فتتاح الفرصة للمجتهد كي يطّلع على مجرى الحياة وكيفية مواكبة النص للتحولات التي حصلت في صدر الاسلام ومرحلة التأسيس تحديداً. هذه العناصر وغيرها، يمكن، وكما هو ملاحظ، أن تسعف المشتغل في علم الكلام على تقديم تصور قد لا يكون بالضرورة هو عينه الذي توصل الى صوغه مجتهد آخر ويبقى أمر الصوغ النظري متروكاً لمدى وحجم معرفة المختص بالحيثيات والمقتضيات والمقاصد. ما يمتاز به علم الكلام الجديد الذي نعوِّل عليه هو كونه يشكل الأساس النظري لعملية الاجتهاد برمتها ويتصف بالمعاصرة الدائمة والتجديد المتواصل، وهو ما يسمح بعزل المؤثرات التاريخية التي كانت منشأ للعصبيات والتناحرات والنظر اليها على أنها جزء من الماضي على أساس القاعدة القرآنية "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألن عما كانوا يعملون". وبذلك يُسد أحد أهم وأخطر المنافذ التي كانت تتسلل منها مشاعر التباغض والعصبية. أما مشهد الاستنباط الذي نقترحه في عملية انتاج الفتاوى والأحكام، فلا يختلف في عناوينه عن المتعارف عليه، أي الاجتهاد في علمي الأصول والفقه مع تبدلات في مضمون العلمين، وهذه تفترضها عملية التجديد في علم الكلام، خصوصاً في دائرة القواعد الفقهية التي كانت تشكل سابقاً ما يعرف بالعموميات الفوقانية، وهكذا لا تبقى هذه في موقعها المرسوم، وانما تتراجع الى مرتبة وسطى بين المقاصد الكلية للشرع والأحكام والفتاوى الجزئية في سلسلة مترابطة محكمة الضبط والمعنى. بين الاجتهاد في الدين والاجتهاد في المذهب إذا كانت المقاصد الكلية للشرع، لا بالمعنى الذي قدمه في صيغة ناضجة الشاطبي في نهايات القرن الثامن الهجري أو إمام الحرمين، الجويني، فتلميذه الغزالي في مرحلة مبكرة عند حدود نهايات القرن الخامس الهجري، وإنما بالمعنى الذي نأمل أن يعطيه علم الكلام الجديد، إذا كانت هذه المقاصد هي التي ستتولى عملية الضبط والتحكم في عملية الاستنباط، فإن الوقوف على محدداتها وعناوينها التي ليس فوقها ما يحكمها يقتضي بحثاً معمقاً ومدققاً في كل مصادر المعلومات أكانت سنّية أم شيعية، فضلاً عن الاحاطة بكل ما قدمه الباحثون من غير المسلمين ممن اختصوا بدراسة الفكر الاسلامي عموماً والقرآن الكريم في شكل خاص. ومع اتساع دائرة المصادر والمراجع وتنوعها تضيق فرص التحكم المسبق بالمعنى وتضعف لدى الباحث المجتهد حال الاسقاطات المذهبية، فمع تعدد الزوايا ووجهات النظر، تكثر الخيارات ويترك أمر البت بالمعنى النهائي الى الباحث عينه، وهكذا يخرج الى الوجود اجتهاد في الدين متحرر من كل الاكراهات المذهبية والعصبيات التاريخية. أما واقع الاجتهاد الراهن الذي يُراد منه الاقتراب من مساحة الاختلاف لضمها الى ميدانه، فهو محكوم بالعجز وعدم القدرة لأنه لم يفتح آفاقاً أمام مصادر البحث ليكسر الحلقة المذهبية المحكمة الإغلاق. فالمعاهد الدينية، على رغم تقدمها خطوة باتجاه الاعتراف بمشروعية المذاهب المخالفة، فإنها لم تتعد العتبة القانونية وبقي كل مذهب ينظر الى سواه على انه من غير الفرقة الناجية. فانفتاح الأبحاث الاجتهادية والاستنباطية على النتاج العلمي من دون مواقف مسبقة وبذهنية التفحص والإفادة ضنين بإخراج الفقه من الدوائر الضيقة والرؤى المقولبة والجامدة، وبذلك يتحقق الاقتراب الفعلي بين المسلمين لا التقريب الذي يُشعر بالافتعال والدفع من الخارج. هذا التصور الجديد لعملية الاستنباط المؤسس على رؤى كلامية متحررة من كل أشكال العصبيات التاريخية المتراكمة، يسمح بوجود مسارات اجتهادية ونتاجات فقهية معاصرة، على أن يترك الخيار للمكلفين في تخير الرؤى والتصورات وفق قناعاتهم في اطار حركة بحث علمي دائم، تخضع فيه التصورات النظرية المستندة الى القرآن الكريم والسنّة النبوية للمراجعة المستمرة فيتم في كل مرة استيعاب أسئلة الواقع وتقديم اجابات مناسبة في حركة جدل لا تنتهي بين النص الإلهي والواقع. ان مهمة الاجتهاد اليوم لم تعد محصورة في تتبع جزئيات المواقف التي درج عليها السلف من الفقهاء، وإنما بذل الجهد والسعة لتصيّد كليات المقاصد الشرعية لتكون الضابط الأعلى للأحكام الجزئية كي لا تتيه الجزئيات اللامتناهية عن كلياتها المحدودة. * استاذ جامعي.