Pierre Blanc. La De'chirure Chypriote: Ge'opolitique d'une Ile Divise'e. الشرخ القبرصي: الجغرافية السياسية لجزيرة مقسمة. L'Harmattan, Paris. 288 pages. في الستينات والسبعينات من القرن العشرين كانت جزيرة قبرص، الأصغر مساحة من لبنان والأقل سكاناً منه بخمس مرات، "تملأ الدنيا وتشغل الناس" على حد التعبير في وصف الشاعر العربي. لكن منذ انقسام الجزيرة على نفسها إلى طائفتين على إثر التدخل العسكري التركي عام 1974، ثم إلى جمهوريتين ابتداء من عام 1983، اختفت من خريطة "أحداث الساعة" وسكتت من حولها الضجة الإعلامية، وخيّم على المسألة القبرصية برمتها صمت أشبه ما يكون ب"نهاية التاريخ" على حد التعبير المشهور للجيوبوليتيكي الأميركي فرنسيس فوكوياما. مفهوم واحد من وقائع المسألة القبرصية بقي قيد التداول هو مفهوم "القبرصة". فالحرب اللبنانية الأهلية، التي أوشكت هي الأخرى ان تتأدّى إلى تقسيم لبنان، ردت الى هذا المفهوم حيويته وخلعت عليه راهنية كان فقدها منذ أن غدا تقسيم قبرص حقيقة واقعة على الأرض، وإن غير معترف بها من قبل المجتمع الدولي. من هنا مفاجأتي وأنا اطالع هذا الكتاب الذي يعيد فتح ملف المسألة القبرصية بشمول وعمق استثنائيين: ف"القبرصة"، التي غدت مرادفاً لتقسيم الدول الصغيرة، اكتسبت، بعد التقسيم الفعلي للجزيرة، مدلولاً جديداً ومعاكساً تماماً. فبدلاً من إرادة التقسيم باتت تعبر، في الجزيرة المقسمة، عن إرادة التوحيد، أو بتعبير أدق إعادة التوحيد. وحتى نفهم جدّة هذه الدلالة التي اكتسبها مفهوم "القبرصة" ينبغي أن نعود بأذهاننا إلى طبيعة الصراع السياسي والايديولوجي الذي شهدته قبرص غداة استقلالها عن التاج البريطاني عام 1860. فيومئذ لم يكن ثمة وجود ل"قبارصة" يدينون بالانتماء الاثني أو القومي إلى جزيرتهم. بل كان سكان هذه الجزيرة الستمائة ألف منقسمين انقساماً عضالاً إلى قبارصة يونانيين ثلاثة أرباع السكان وقبارصة أتراك ربع السكان. وكان كل فريق من هذين الفريقين ينتمي بالهوية الدينية واللغوية إلى "وطن أم" من خارج الجزيرة: اليونان بالنسبة إلى القبارصة النصارى والناطقين باليونانية، وتركيا بالنسبة إلى القبارصة المسلمين والناطقين بالتركية. بل وجد داخل الفريقين من يعارض استقلال الجزيرة: فأنصار الوحدة مع اليونان رأوا في هذا الاستقلال عقبة دون هذه الوحدة. وأنصار الانضمام إلى تركيا رأوا فيه تكريساً للهيمنة اليونانية على مقادير الجزيرة. وإنما في هذا السياق تعرض بطل الاستقلال "القبرصي" المطران مكاريوس لمحاولة اغتيال ثم انقلاب. ذلك أن مكاريوس، على رغم أنه كان في الأصل يوناني الهوى، كان قد بدأ يتنبّه إلى وجود هوية قبرصية متميزة، لا سيما بعد أن آلت مقاليد الحكم في اليونان إلى طغمة من كولونيلات الجيش ابتداء من عام 1967. وقد خرج خلافه الخفي مع عسكريي أثينا إلى العلن عندما عقد صفقة سلاح مع تشيكوسلوفاكيا كان من شأنها أن تعزز استقلال الجزيرة وتحول الحرس الرئاسي القبرصي إلى جيش وطني مستقل. وبالفعل، وفي 2 تموز يوليو 1974، وجه المطران مكاريوس طلباً رسمياً إلى أثينا لسحب ضباطها من الجزيرة. فكان الرد في 5 تموز بأن هاجمت الطائرات اليونانية قصره وقصفته، وأعلنت الإذاعة عن مقتله لولا أنه تمكن بالفعل من الاحتماء في قاعدة عسكرية بريطانية ثم اللجوء إلى انكلترا. وإنما "بمناسبة" هذا التدخل العسكري اليوناني تدخلت تركيا بدورها وأنزلت الألوف من عساكرها في القسم الشمالي من الجزيرة حيث وضعت يدها على 37 في المئة من أراضيها وأجرت عملية تهجير جماعي للسكان: 200000 قبرصي يوناني اجبروا على النزوح إلى الجنوب، مقابل 45000 قبرصي تركي لجأوا إلى الشمال. وفي العام التالي أعلن رسمياً عن قيام "الجمهورية المتحدة لشمالي قبرص" ثم "الجمهورية التركية لشمالي قبرص" بقيادة رؤوف دنكتاش الذي لا يزال يرأسها إلى اليوم من خلال ولاية جددها لأربع مرات على التوالي، كان آخرها في العام 2000. لكن في الوقت الذي استأسد فيه كولونيلات أثينا ضد المطران مكاريوس، تخاذلوا تماماً أمام الغزو العسكري التركي للنصف الشمالي من قبرص. وهذا ما أورث القبارصة اليونانيين مرارة عميقة، ورسّخ لديهم الاقتناع بأن "الوطن الأم" قد تخلى عنهم، وربما إلى الأبد. وبلسانهم قال شاعرهم الكبير ميخاليس باسياردس: "ليست هذه المرة الوحيدة التي تبيعوننا فيها لتتركونا طعمة للأتراك. من أثينا لم نعد ننتظر شيئاً. فنحن يونانيو أزمنة اليأس والمرارة. وليس لنا بعد الآن من خيار آخر غير أن نسهر، ونحن في الطرف الأقصى من البحر، على وطننا الصغير". والواقع أنه ابتداء من مأساة 1974 تطور لدى يونانيي الجزيرة شعور متنامٍ بالهوية القبرصية. وقد انشئت في 1975 رابطة مدنية للدفاع عن هذه الهوية باسم "قبرص الجديدة". بل وجد في الأوساط الفكرية القبرصية من يصف الثقافة اليونانية بأنها ثقافة مهيمنة ينبغي التحرر منها، لأن "الأمة القبرصية" فينيقية أكثر منها يونانية، وهذا بدلالة أن مؤسس الرواقية زينون الكتيوني - وهو أشهر فيلسوف أنجبته قبرص في تاريخها - كان فينيقياً، وإن يكن قد كتب باليونانية. وبعد أن كان القبارصة اليونانيون يخجلون من رفع علم الاستقلال القبرصي، صار لهم - بعد مأساة 1974 - موضع عبادة حقيقية، وغدا يوم الأول من تشرين الأول اكتوبر - وهو يوم إعلان استقلال جمهورية قبرص - العيد القومي الأول في الجزيرة. وفي 1977 صدر مرسوم بتدريس تاريخ قبرص في المرحلة الثانوية، مفصولاً عن تاريخ اليونان. وتلاه في 1986 مرسوم تعليمي آخر يقضي بإدراج "الآداب القبرصية" في مناهج التدريس. ولم تقتصر ظاهرة "القبرصة" هذه على القسم الجنوبي "اليوناني" من الجزيرة، بل امتدت أيضاً إلى القسم الشمالي "التركي". ففي الحقبة الأولى الممتدة ما بين الاستقلال عام 1960 والغزو التركي عام 1974، كانت الغالبية الساحقة من القبارصة الأتراك ملتفة حول زعيمها رؤوف دنكتاش الذي رفع شعار "التقسيم أو الموت". ولكن منذ أن صار هذا التقسيم حقيقة واقعة بدأت تنتاب القبارصة الأتراك مرارة شبيهة بتلك التي انتابت القبارصة اليونانيين. وقد ارتدت خيبة الأمل في بادئ الأمر مظهراً اقتصادياً. فشروط الحياة المادية في "الجمهورية التركية لشمالي قبرص" ما فتئت تسجل تدهوراً مستمراً حتى تراجع الناتج المحلي الفردي في الشمال إلى 4500 دولار سنوياً مقابل 14500 دولار في الجنوب. وعلى رغم أن القسم الشمالي من الجزيرة كان هو الأغنى بمصادر الماء وزراعة الحمضيات والتجهيزات السياحية، فإن تهجير القبارصة اليونانيين عنه، بعد الغزو التركي، أدى إلى خلل دائم في النظام الانتاجي والسياحي، وهو خلل تضاعفت عواقبه من جراء مقاطعة البلدان الأوروبية للنظام الدنكتاشي. وباستثناء السياح الإسرائيليين، فإن الفنادق والمنتجعات السياحية في القسم الشمالي التركي لا تستقبل اليوم أحداً. وبالإضافة إلى أزمة السياحة هذه - وهي مصدر الدخل الأساسي للجزيرة التي تستقبل اليوم في القسم الجنوبي أكثر من مليوني سائح سنوياً - هناك أزمة بطالة، دفعت بما لا يقل عن 45 ألف قبرصي تركي إلى الهجرة عن الجزيرة إلى أوروبا، لا سيما إلى انكلترا، منذ إعلان التقسيم إلى اليوم. وهذا رقم هائل لأنه يمثل ربع تعداد سكان "الجمهورية التركية لشمالي قبرص". صحيح أنه جرى في الفترة نفسها استقدام 50 ألفاً من الأتراك الأناضوليين إلى الجمهورية المنفصلة، إلا أن ذلك لم يحل الإشكال، بل زاد الأمور تعقيداً على تعقيد. فالقادمون الجدد كانوا في غالبيتهم من الفلاحين الأميين، وليست لهم الخبرة التي للقبارصة في زراعة الحمضيات وتصنيعها. ونظراً إلى أزمة البطالة والانخلاع الاجتماعي، مال القادمون الجدد إلى الجنوح وإلى الجريمة الصغيرة، بل إلى الجريمة الكبيرة المرتبطة بالتهريب وتجارة المخدرات. وهذا ما حفر هوّة عميقة بين القبارصة الأتراك من سكان الجزيرة الأصليين وبين الأتراك الوافدين، وأوجد شكلاً غير معروف من قبل من "العصبية القبرصية". وهذا ما حدا بالكاتب القبرصي التركي مصطفى اديوغلو إلى أن يكتب قائلاً: "إننا نسير اليوم في الشوارع ونادراً ما نلتقي فيها بقبرصي. فقد أجبرونا على أن نعيش مع آلاف من الناس ممن لا تربطنا وإياهم أية صلة. وهذا إلى حد طفقنا معه - ويا للأسف! - نكرههم". ويبدو أن هجرة القبارصة الأتراك ووفود الأتراك الاناضوليين قد خلقا لدى البقية الباقية من القبارصة الأتراك عُصاباً حقيقياً من "خوف الذوبان كالسكر في الماء" على حد تعبير المفكر القبرصي التركي اليساري اوزكر اوزغور. فسكان "الجمهورية التركية لشمالي قبرص" لا يزيد تعدادهم اليوم على المئتي ألف، وثلثهم هم من الأتراك الوافدين، بالإضافة إلى 35 ألف عسكري تركي مقيمين بشكل دائم في الجمهورية المنفصلة. وبدلاً من أن يكون "الوطن الأم" - وهنا تركيا - مصدر أمن، فقد غدا مصدر خوف. وتماماً كما في الجنوب، عاد الشمال يكتشف هو الآخر وجود هوية قبرصية متميزة، وعاد مثقفوه يرفعون شعار "القبرصة" كشعار يصون الهوية الخاصة لسكان الجزيرة الأصليين. وفي ذلك يقول الشاعر القبرصي التركي نيشي ياسين: "إن القبارصة الأتراك، المضطرين لأن يعيشوا اليوم مع الجيش التركي والمستوطنين القادمين من تركيا، يعون أكثر فأكثر فارق الهوية الذي يفصلهم عن الأمة التركية". ولا تقتصر ظاهرة "القبرصة" هذه على المثقفين وحدهم، بل تمتد أيضاً إلى الأحزاب السياسية. فثمة حزبان من أحزاب الشمال الكبيرة الأربعة يتبنيان علناً "ايديولوجيا القبرصة" ويطرحان شعار إعادة توحيد الجزيرة على أساس فيديرالي، وهما الحزب الجمهوري التركي اليساري وحزب تحرر الأمة الوسطي. ويقوم البرنامج السياسي لهذين الحزبين على نقد السياسة التدخلية التركية، وعلى التنديد بتبعية الرئيس رؤوف دنكتاش اللامشروطة لحكومة أنقرة. ونال كل من هذين الحزبين 3.13 في المئة و3.15 في المئة على التوالي من جملة أصوات الناخبين في آخر انتخابات نيابية جرت في الشمال في كانون الأول اكتوبر 1998. لكن على رغم أهمية هذه الأرقام، فإن هذين الحزبين غير مرشحين للفوز بالغالبية في يوم من الأيام، نظراً إلى أن زبائنهما الانتخابيين هم من القبارصة الأتراك الأصليين حصراً دون الأتراك الوافدين. وبديهي أن هذا التحول في مفهوم القبرصة، من إرادة التقسيم إلى إرادة التوحيد، سواء في الجنوب أو الشمال، لا يعني أن ملف إعادة توحيد الجزيرة مرشح للفتح في المدى المنظور. فالسياسات القومية النزعة لكل من أنقرةوأثينا ستظل تثقل بكامل وطأتها، ولسنوات طويلة مقبلة، على الواقع الجيوبوليتيكي للجزيرة المقسمة. ومع ذلك، فإن ايديولوجية القبرصة التي هي قيد نضوج في كلتا جمهوريتي الجزيرة قد تحظى بدفعة جديدة من الاوكسجين في الافق الذي يفتحه أمامها مشروع الوحدة الأوروبية. إذ لو انضمت تركيا بعد اليونان إلى الاتحاد الأوروبي، فأي معنى أن تبقى الجزيرة الصغيرة، التي يقل اجمالي تعداد سكانها عن 800 ألف نسمة، مقسمة بين جمهوريتين؟