} حصلت تطورات خطيرة في جنوب السودان وشرقه وانتقلت المعارضة المسلحة الى الهجوم في بعض المواضع الأمر الذي فتح النقاش عن مهددات الأمن الوطني وعن "الوفاق الوطني". مهددات الأمن الوطني يدخل هذا التعبير في مصطلح الأمن القومي الاستراتيجي، وما اختلفت الأنظمة والحركات على شيء اختلافها على تحديد هذا المصطلح ومدلولاته وغاياته. فإذا رجعنا الى معضلات سياستنا الخارجية بسبب منعكسات الفهم الضيق للمشروع الاسلامي الحضاري العالمي يصبح بمقدورنا القول إن ذلك المشروع كان أكبر مهدد للأمن الوطني حين جرنا وما زال لحروب لا معنى لها ولا طائل منها واستنزفنا بشرياً واقتصادياً. كذلك حين نطرح كيفية تطبيق النظام الولائي بغض النظر عن محسناته اللفظية والبديعة انتهى الى ابتعاث الجهوية - القبلية التي استحكمت بالسلاح المباح عبر حدود الوطن المفتوحة والمستباحة، سنعتبر ان ذلك احد مهددات الأمن الوطني. فمشروع الانقاذ الاسلامي - بالكيفية التي فهم وطبق بها - هدد الأمن الوطني من دون ان ينتج اسلاماً. ومشروع الانقاذ الولائي -بالكيفية التي فهم بها وطبق بها - هدد الأمن الوطني من دون ان ينتج حكماً لا مركزياً. أما حين نبحث في مهددات الأمن الوطني وفي ظل نظام يأخذ بالأولويات الاستراتيجية الوطنية للسودان - كسودان - وبمعزل عن الدعاوى الايديولوجية والعقائدية التي يؤخذ بها فإن الأمر سيختلف تماماً من حيث المنظور والحيثيات، من ذلك ستصب دراسة مهددات الأمن الوطني للكشف عن القوى المحلية والاقليمية والدولية التي تحول دون نمو السودان الاستراتيجي واستثماره للمياه والأراضي الزراعية وثرواته الحيوانية والتحكم في علاقاته الاقليمية والدولية. وهناك قضايا عديدة أخرى. الوفاق الوطني لم اتخذ يوماً موقفاً ظرفياً من هذه القضية وانما اعتبرتها قضية محورية يجب طرحها في اطار الاتفاق أولاً على البرنامج الوطني الاستراتيجي بين قوى السودان كافة، ومن بعد الاتفاق على البرنامج الاستراتيجي الوطني الشامل، تطرح الصيغ الاجرائية لعلاقات الوفاق الوطني، مثل الحكومة الوطنية والصياغة الدستورية وغيرها، ويمكن الرجوع الى كتابي بعنوان نحو وفاق وطني سوداني - رؤية استراتيجية - مركز الدراسات الاستراتيجية - الخرطوم - 1998. قلنا لهم كل ذلك في أيلول سبتمبر 1999 وقبل 100 يوم من متغيراتهم التي احدثوها في رمضان 12/12/1999 وجعلوها بشائر من دون مبشرات ثم نكصوا على اعقابهم. فهل رجعوا الى ما قلنا؟ أو هل وسعوا حتى دائرة التشاور؟ إن ما طالبنا به لم نطرح من خلاله قط تسليم نظام الانقاذ للسلطة، ولم نتعجل الانتخابات النيابية التي تعيد أوضاع السودان الى ما كانت عليه قبل 1989، بل حصرنا الجهد في مرحلة قومية تمتد لعشر سنوات من الوفاق الوطني لمعالجة مشكلات السودان على نحو جماعي. ولهذا رفضنا فكرة الحكومة الانتقالية الموقتة لمدة سنتين أو ثلاث تعقبها انتخابات عامة. لأن مثل هذه الحكومة هي مجرد تمرير للسلطة الى آخرين وليست من اجل انقاذ السودان، ونحن نعرف من سيأتي وكيف سيتصرف وهو لم يحدث تغييراً حتى الآن لا في هياكله الحزبية أو الطائفية ولم يضع برنامجاً لمستقبل السودان. ثم ان الانقاذ يعلم تماماً ان الشعب السوداني، وكذلك الدول الاقليمية المجاورة والعربية والدولية، وان استبشرت نسبياً وجزئياً بمتغيرات رمضان إلا انها ليست حصاناً يركض من وراء جزرة. فالكل يتطلع الى تغيير في البنية السياسية للنظام نفسه، ويتطلع لوجود برنامج وطني واضح تلتزم به حكومة الانقاذ وتثبت صدقيتها من خلاله، أما ما يبدو من تحسن في العلاقات الراهنة اقليمياً وعربياً ودولياً فليس الا بمقدار ما احدثته متغيرات رمضان وبنسبيتها بنفسها، وقد تعود الأمور الى انتكاسة عكسية وأشد وطأة متى ما تبين لهؤلاء في النهاية ان هذه المتغيرات ليست سوى جزرة امام حصان ولا تؤدي الى نقلة نوعية. ماذا بعد متغيرات رمضان؟ لا أريد أن امضي كثيراً في النقد، وانما أريد ان اضع نظام الانقاذ امام كلمة نهائية ممسكاً بهذه المرة من لسانه وطرحه للجبهة الوطنية العريضة، فالمطلوب اعتماد تشكيل هذه الجبهة الوطنية كإطار للوفاق الوطني وكذلك قاعدة شعبية موسعة للمشاركة في الحكم واتخاذ القرار وعلى ان يناط بها وضع البرنامج الوطني الاستراتيجي، واعتمادها بديلاً دستورياً للمجلس الوطني الى ان يتم التحول الديموقراطي بعد بلورة صياغة جديدة لنظامنا البرلماني. بهذا يصبح ما أقدم عليه النظام من حل للمجلس خطوة ايجابية لها ما بعدها فعلاً. سيتسع وعاء الجبهة الوطنية للجميع، صغاراً كانوا أو كباراً، غير ان أربع قوى سودانية ستتميز باتخاذها للقرارات وهي: المؤتمر الوطني - حزب الأمة - الحزب الاتحادي الديموقراطي - -حركات الجنوب. ثم انه من أولى مهمات الجبهة الوطنية المتحدة ان تضع البرنامج الوطني الاستراتيجي لتتولى تنفيذه حكومة وفاق وطني منبثقة عنها تستمر لفترة زمنية أدناها عشر سنوات. فما وصلت اليه البلاد من انهيار اقتصادي ومديونية وما نتج عن حرب الجنوب لا يمكن معالجته خلال فترة وجيزة أو اقل من عشر سنوات. فاستمرار الوفاق مطلوب طوال هذه الفترة حتى لا تعكر صفوه المنازعات الحزبية او البرلمانية بما كان عليه الحال طوال البرلمانات السابقة، فليس المطلوب العودة الى ما قبل 1989، ومن يفكر بامكان هذه العودة متعجلاً تشكيل حكومة وقتية وانتقالية لمدة سنتين أو أربع سنوات تعقبها انتخابات تأتي به الى الحكم ليكرر ما سبق فهو واهم قطعاً وغير مستدرك لحسابات الانقاذ وضرورات الوطن، فالمهم الآن هو تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة ووضع البرنامج الاستراتيجي وتشكيل حكومة العشر سنوات الوفاقية، ذلك اذا اراد النظام أن يظهر الصدقية. أما طرح الشعارات في لحظات الأزمة وصراعات أجنحة الإنقاذ فهذا أمر لا ينطلي علينا ولا نقبله، فقد صبرنا بما يكفي منذ اعلان دمشق في أيار مايو 1997. ملامح البرنامج الوطني الاستراتيجي في ملفات السودان الكثير حول الاستراتيجية القومية الشاملة والقابلة للتنفيذ، ولكنها ظلت حبيسة الادراج وبالامكان نفض الغبار عنها وتجديدها. غير ان ثمة مستجدات لا بد من أخذها في الاعتبار حين تشرع الجبهة الوطنية المتحدة في وضع البرنامج الاستراتيجي، سواء هيأ لها النظام حرية التشكل داخل السودان أو بحثت عن خيارات اخرى. أولاً: تثبيت الخيار الاسلامي في الشمال ولكن بمعزل عن السلبيات التي شابت المشروع "الاسلامي الحضاري العالمي" التي ضيقت الاسلام وضاق بها أهل السودان. وقد خطا النظام السوداني خطوة ايجابية بهذا الاتجاه حين ألغى عملياً من دون اعلان، المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي. ومما يؤكد على تثبيت هذا الخيار الاسلامي للشمال التزام المؤتمر الوطني به والتزام حزب الأمة به أيضاً، فالسيد الصادق المهدي ومن قبل توقيعه مع الرئيس البشير في جيبوتي على وثيقة نداء الوطن بتاريخ 26/11/1999 كان أصدر في 15/7/1999 وثيقة باسم نداء الايمانيين حاول فيها التقريب بين مهمات الدولة الوطنية المعاصرة والموروث الديني. ثم ان قاعدة المهدي الأنصار وقاعدة الميرغني الختمية يقوم التزامهما على بيعة دينية اكثر من انها سياسية ولا تعدو مجارات السيدين الميرغني والمهدي لمقررات مؤتمر أسمرا العلمانية 15-23/6/1995 سوى كونها تكتيكاً يتطلبه حشد المعارضين العلمانيين الشماليين الى جانب حركة قرنق في الجنوب. فليس امام الجبهة الوطنية المتحدة وقواها الشمالية الرئيسة الأمة - الاتحاد الديموقراطي - المؤتمر سوى تثبيت الخيار الاسلامي في الشمال مع دمجه بالبرنامج الوطني الاستراتيجي، وبالتخلص من السلبيات، حتى ينفتح الخيار الاسلامي على الانساق الحضارية المتعددة سودانياً وعالمياً كافة، وعلى مختلف المناهج المعرفية المعاصرة. فنحن مع خلافاتنا مع الانقاذ لا نسقط الخيار الاسلامي، لأن هذا الخيار ليس ملكاً للإنقاذ مع فهمنا له بطريقة مختلفة. ثانياً: وفي مقابل تثبيت الخيار الاسلامي في الشمال لا تملك القوى السياسية الشمالية سوى الاقرار للجنوب بحق الوحدة الكونفيدرالية ولكن ضمن سيادة وطنية واحدة غير مقسمة. وطرحت هذه المشروع كاملاً بتاريخ 26/5/1999 وأقرته حركة تحرير شعب السودان بقيادة جون قرنق في بيانها الصادر بتاريخ 16/5/1999 وهو خيار صعب في وحدة الوطن وليس تجزئته. اذاً كان المطلوب - لو صدقت شعارات رمضان - تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة لحل مشكلتي الشمال والجنوب معاً، فالشمال خياره الاسلامي وبرنامجه الوطني الاستراتيجي، وللجنوب كونفديراليته في اطار الدولة السودانية بسيادتها الواحدة غير المقسمة. وفي هذه الحال ستكون الحكومة القومية في الشمال وقفاً على الشماليين، والحكومة الكونفيديرالية في الجنوب وقفاً على الجنوبيين، مع تشكيل مجلس كونفيديرالي أعلى يكون فيه للجنوب ربع المقاعد، وتستند قاعدته السياسية الى الجبهة الوطنية المتحدة الشاملة لكافة قوى الشماليين والجنوبيين حيث تستمر هذه الجبهة بكامل صلاحياتها وفاعليتها لمدة عشر سنوات. ان الأمر الوحيد العالق هو ما سيكون مع قرنق. فمن الصعب ان يثق في تحولات الخرطوم، فالأمر لديه أن الذئب غيَّر جلده وما زال يتمسك بخريطة للتقسيم الاداري للحدود بين الشمال والجنوب خلافاً لما تم عليه الترسيم في عام 1956 وأقره اتفاق أديس أبابا للحكم الاقليمي الذاتي الموقع بتاريخ 26/2/1972. غير ان تمسك قرنق بخريطته التي تشمل جبال النوبة والأنقسنا في شمال السودان انما يعود لأسباب عسكرية وسياسية وليس جغرافية. وهذا أمر يمكن النظر فيه حين تطبق الوحدة الكونفيديرالية فلا يعود قرنق بحاجة للجانبين العسكري والسياسي. فموقع يوسف كوة الطبيعي - وهو ممثل لفصيل من جبال النوبة الملتحق بحركة قرنق مع اخوته في الشمال، وكذلك مالك عقار ممثل فصيل من الأنقسنا، وكذلك الممثل الشخصي لقرنق منصور خالد الذي خسر الشمال من دون ان يكسب الجنوب، ومن يماثله من الشماليين في حركة قرنق. ثم ان طرح الكونفيديرالية يتطلب اعادة النظر في اتفاقات السلام من الداخل التي وقعت مع ستة من الفصائل الجنوبية بتاريخ 21/4/1997 ثم تبعها اتفاق فشودة مع فصيل آخر بتاريخ 20/9/1997 وذلك لاجراء تعديلات على النصوص الخاصة بالفترة الانتقالية وتقرير المصير ليتوافق ذلك مع الطرح الكونفيديرالي والمشاركة في الجبهة الوطنية المتحدة التي ستجمع بين الجنوبيين والشماليين طوال السنوات العشر المقبلة. وفي ظل الوحدة الكونفيديرالية بين الشمال والجنوب، سيكون الجنوبيون شركاء مع الشماليين بنسبة الربع في المجلس الأعلى للوحدة الكونفيديرالية. ويفترض الطرح الكونفديرالي اعادة تقويم لمبادئ ايقاد عام 1994 لتتسق وما يتم الاتفاق عليه في اطار "الجبهة الوطنية المتحدة". فحين يتم اقرار الكونفيديرالية للجنوب ليس من مبرر لفرض العلمانية على الشمال وكذلك اعادة النظر في قرارات اسمرا لعام 1995 واعلان طرابلس لعام 1999. بذلك يصل السودانيون، شماليون وجنوبيون وبجهد سوداني خالص لحل مشكلاتهم الوطنية المزمنة. ولا يبقى بد ذلك سوى ان نرى ما في جعبة النظام السوداني. هل هو مشارك لنا ام لديه تقديرات ذاتية اخرى؟ * سياسي ومفكر سوداني.