تبدو القصيدة التي يكتبها الشاعر المغربي صلاح بوسريف في مجموعته الشعرية الثالثة "شجر النوم" الصادرة عن دار توبقال للنشر 2000، مشدودة بعصب قوي الى المنجز الشعري لجيل الستينات. يتوسل الشاعر كتابة قصيدة نثرية متحررة من الاوزان، ويجهد كثيراً في اشتغاله الشعري كأن يبقى طويلاً عاملاً في المحترف. ويبدو واضحاً ملمس هذا الاشتغال والتعب الكتابي من قصقصة لغوية، وتقطيع، وتقصيب، وحذف. ولكن على رغم ذلك ثمة شيء ما يجعل هذه القصيدة لا تصل الى بر الامان سالمة. ان علاقة قصائد "شجر النوم" بالأجهزة البلاغية والبيانية للمتن الشعري الستيني تتبدى من خلال الجماليات التي تنطبع بها القصائد. فالشاعر ينظر الى اللغة نظرة كلية، كونية، عليا، وبناء على ذلك يبدو الجهاز التصويري والجمالي الذي ينهض عليه القول الشعري مرتكزاً على الرؤيا كقانون اساسي ناظم، تشتغل داخله وتنبني عليه الشبكة التركيبية للقصائد. إن القول الشعري مصاب بجلجلة لفظية وبهدير لغوي، تسوسهما الجزالة اللغوية الناتجة من تجسيم الكلام، والافتتان بالاندفاعات الصوتية، ما ادى الى عدم السماح للطراوة الشعرية بالعبور. تلعب العقلانية دوراً مهماً في الصوغ الحاد والقاسي الذي يراد منه تعميق هوة الفضاءات المتناولة. فضاءات الموت والغياب والعزلة وتتجلى شعرياً من خلال انوجادها في العناصر التي يختارها الشاعر، ويجعل قصائده تنبني عليها وهي تحيل على الجسد الفيزيائي للكائن: اليد، الانفاس، الاصابع... إلخ. اذ يولي الشاعر الاصابع واليد اهمية قصوى حيث تتكرر المفردتان عشرات المرات ضمن استعارات متعددة وينسب الى اليد والاصابع صفات تحيل على الوحشة والوحدة "أصابعي التي جرحت صمت المكان" ص10، "أصابعي التي تراود سهوها" ص11، "أصابعي مشتعلة" ص13، "لم تكن اصابعي ترتاح لغير حبر" ص20 "كالرميم كانت اصابعه" ص23... الخ. ان تكرار الشاعر للاستعارات في اشكال مختلفة، لم يعفها من التماثل والتشابه الكبير، ما جعلها تبدو وكأنها اجترار واعادة انتاج للصور نفسها، من دون ان يضيف الشاعر اي جديد. فالتوليف الذي يتوسله الشاعر هو توليف ينضوي تحت عنوان التكرار، التكرار الذي هو مقتلة للشعر، وهو هنا يختلف عن تقليب الكلام على وجوهه المختلفة، وسبر اعماقه، واكتشاف امكانات انفتاحاته الشعرية. يكتب الشاعر: "انفاسي تراود سهوها" في بداية القصيدة الاولى ثم يكتب في مطرح آخر من القصيدة ذاتها "اصابعي كانت تراود سهوها" وفي الشكل نفسه يكرر "صمت يسكن شقوق المكان"، "يد شردت في صمت المكان"، "اصابعي التي جرحت صمت المكان". هذاالتكرار يدخل الصورة ضمن الافتعال، ويجعل القارئ ينسى متعة الصورة الاولى التي كتبها الشاعر، والتي يتم افسادها وتدمير شعريتها. يعتمد الشاعر استعمالات بلاغية قديمة كالجناس الناقص كأن يقول: "هي وحدها كانت تسره/ وهي وحدها/ كانت سريره" ص12 او يذهب الى استدراكات وتعليلات "مثل رميم او كالرميم كانت حياته" ص23 او يفتن في ائتلاف الحروف وتشاكلها: "اهدهد هدنة هذا المكان" ص13. تنهض قصائد "شجر النوم" على حجم صغير يتكرر في كل القصائد: "المكان، اصابعي، الموت، انفاس، صمت، صوت، حبر، الفراغ، الهباء، ضوء، يدي". وينفتح على مفردات قديمة مثل: "فروج، صبوات، ظمأ، سديم، هجح... الخ". وتمكن الاشارة هنا الى افتتان الشاعر بمفردات بعينها والاشتغال عليها في معظم القصائد في شكل نمطي جملة وعبارة وصورة، ولا تشفع الحنكة والتدبر اللغوي الواضح لشعرية القصيدة: "من هجح يتم هذا المساء ووارى خلف شجر النوم صباحات يدي عند مراسي حبرها كانت تقيم من أيقظ هذا الظمأ وأشعل فتنة الروح كان يكفي ان ألوذ بصمتي كي تسرقني أهوائي الى كلمات" ص51. يسعى الشاعر الى الذهاب الى منطقة شعرية تتناص وتتقاطع مع التجربة الصوفية، وأسلوبيات وجماليات النص الصوفي، لكن تبدو مشكلة بوسريف مثل معظم الذين يذهبون الى هذا النص ليمتحوا منه، كامنة في انتفاء التمثل الوجداني للتجربة الصوفية، وفي وقوع القصيدة في لغة عقلية صلبة، لا يشتغل فيها اللاشعور بل الاعمال القصدي الحاد، لذا تغيب عنها الرؤيا بمعناها الحدسي الذي يتصل بالمعاني الداخلية، ما يؤدي الى دخولها في مخبرية جافة وقسرية. وعلى رغم ذلك يستطيع القارئ الدخول الى المحترف والنظر الى الادوات والمواد الخام التي يتألف منها وعبرها العمل. ان لغة "شجرة النوم" بخلاف العنوان مرهقة بالذهنية من جهة ومصابة بالبديهي والعاري، وهذا ما يحيل على الفقر التصويري: "كانت يدي تغازل مرآة ترنو الى لون سماء ليدي ماء حصى يستعصي على اللمس ولا لانصرافه"، "هل تكفي سماء واحدة هل يكفي ان اسور هذا الضوء المنبعث من سماء نائمة هل لي ان ازاوج بين هواءين وأصبو لحلم راودني منذ قديم الزمن" ص71. يعمد الشاعر الى تجريد الكلام وقيادته نحو بؤر تنسحب من العالم الخارجي انسحاباً تاماً كيلا يتبقى منها سوى الاشارات، لكن الفضاء الذي ينصاغ فضاء ذهني بعيد من المعرفة الداخلية. "شجر النوم" قصائد في مديح الوحشة والموت وكتابة حياة الكائن الوحيد المستوحش عبر بث اشارات حادة وكثيفة عن عالم وحدته، تنفتح اسلوبياً وجمالياً على قصيدة الرؤيا الستينية وتتطعم بتشكيلات بلاغية تجد مرجعية لها في النص الصوفي بدرجات متفاوتة لا تخفي القصائد حنكة وتدبراً كتابياً يتوسلهما الشاعر في قوله الشعري من دون ان ينعكس ذلك على شعرية هذا القول في شكل كبير.