كتب المفكر القومي العربي قسطنطين زريق قبيل رحيله في ما يشبه المراجعة النقدية للخطاب القومي في القرن العشرين: "علي شخصياً أن أعترف بأني كنت في الماضي أتكلم وأكتب عن الأمة العربية، فإذا أنا أتجنّب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش وأؤثر عليها "المجتمع" العربي أو "المجتمعات" العربية مع اعتقادي المكين أن هذه المجتمعات تملك من العناصر المشتركة ما يؤهلها لأن تتحول الى أمة موحدة ذات قومية شاملة، ولكنها لم تتمكن حتى الآن من تفعيل هذه العناصر المشتركة ونقلها من حال الامكان الى حال الوجود الفعلي: بل إني غدوت أشك في صحة التكلم على المجتمعات العربية القطرية أو على المجتمع العربي العام نظراً الى قصور أهل كل منها وأهلها جميعاً عن تكوين ما يصحّ أن يدعى مجتمعاً أو شعباً أو وطناً والى استمرار خضوعهم لنزعات ضيقة مفرقة ولمطالب فاسدة مخربة، وبالتالي الى عجزنا جميعاً عن تحقيق التكتل الوطني أو القومي، وهو الشرط الأول من شروط البقاء" ما العمل، مركز دراسات الوحدة العربية 1998. ما كتبه زريق تعبير نموذجي عن معاناة الجيل الحالم من ايديولوجيي القرن العشرين على اختلاف خطاباتهم الايديولوجية وتناقضها، وصورة واقعية للمأزق الذي دفعهم اليه تعاملهم مع مقولة "الدولة القطرية". فالخطاب الاشتراكي تطلع الى "الأممية البروليتارية" اللاقومية واللاوطنية بوصفها قبلة النضال السياسي والاجتماعي، والسبيل الى انهاء الصراع الطبقي القومي واقامة مجتمع الاشتراكية والعدالة والمساواة. وفي خطاب كهذا لم يُنظر الى الدولة الوطنية القطرية إلا كعائق أمام وحدة الطبقة العاملة العربية فضلاً عن كونها التنظيم السياسي للطبقة السائدة المرافقة لانقسام المجتمع الى طبقات وأداة للطبقة المستغِلة لقمع الشعب المستغَل. من هنا عوملت الدولة الوطنية القطرية على أساس اقتصادي وطبقي باعتبار المقولة الماركسية "ليس للعمال وطن"، فالطبقة والتلاحم الطبقي ووحدة العمال والفلاحين في العالم العربي، بل في الأرض كلها هي ما يجب أن يُوجّه اليه الاهتمام والنضال وليس "الوطن" الذي طالما وُصف دعاته ب"البورجوازية" و"الشوفينية" وأُخرجت القيادات المنادية بالوطن أساساً لنضالها من أحزاب "الطبقة العاملة" لأنها لم تقر بوحدة النضال مع "جماهير العمال والفلاحين" بما فيها تلك الوافدة الى الكيان الصهيوني "هرباً من الطغيان النازي" على ما جاء في أحد بيانات الشيوعيين العرب. وتعامل الخطاب القومي العربي مع مقولة الدولة الوطنية القطرية تعاملاً اتسم بالحذر أو الرفض والإدانة، فهي صنيعة "الاستعمار" و"سايكس بيكو" الذي قطّع أوصال الأمة العربية ورسم الحدود بين أقطارها بالمسطرة من أجل القضاء على أي أمل بأمة عربية موحدة قادرة على مواجهة المطامع الصهيونية و"الامبريالية". فالأمة العربية الواحدة في الخطاب القومي هي الأصل، وما الدول الوطنية القطرية العربية إلا "كيانات مصطنعة" وتجزئة "بغيظة" أحكم بها الاستعمار قبضته على ثروات العرب ومقدراتهم. ولهذا يجب العمل والجهاد بكل الوسائل لإزالة هذه الكيانات لإعادة الأمة العربية الى وحدتها الأصلية. هذا الخطاب ما زال على رغم كل النكسات والخيبات الصافعة، يتكرر ويعيد انتاج صيغه القديمة والمكرورة. ففي "أركان القومية العربية" دار الطليعة 2001 يقول محمد طارق قائد بيه: "الدولة القطرية هي لعنة في حياة الأمة العربية، إنها مصدر العذاب والمعاناة والشؤم والمسخ... إنها تمثل "عاهة" تعوق نمو الأمة الطبيعي، فأصبحت بذلك عاهة الأم عن حق. والدولة القطرية هي كذلك، لأنها دولة لا شرعية، لا منطقية، لا تاريخ لها كدولة، لا حياة فيها، لا امكانات لا قدرات، لا أسباب حياة، لا أسباب وجود، لا أسباب مستقبل... إن الدولة ليست دولة وطنية، إنها دولة وحسب". بمثل هذا الخطاب ظل الفكر القومي العربي يتعامل مع مقولة "الدولة القطرية" حتى فوجئ بالنزاع الطائفي والقبلي والاقليمي يتغلغل ويتجذر في كل مفصل من مفاصل الأمة العربية، وهو نزاع لا يمكن أن نلقي بكامل تبعته على "الاستعمار البغيض" و"سايكس بيكو" السيئ الذكر. هذا الحرج الذي أخذ يحاصر الفكر القومي العربي ويربكه والذي عبر عنه القومي المستنير قسطنطين زريق هو ما لا يزال يصر أكثر القوميين العرب على التعامي عنه وإن كانوا يمارسون في الواقع نقيض خطابهم الايديولوجي. ولم يكن الخطاب الأصولي أقل رحمة في تعامله مع "الدولة القطرية" إذ كان دائماً شاغله الأساس وتطلعه الثابت نحو وحدة المسلمين والأمة الاسلامية فوق كل الاعتبارات الأخرى قومية أو اقليمية أو قطرية وطنية. حتى في الخطاب الديموقراطي نجد من يوازي بين الدولة القطرية والاستبداد حيث تعتبر الديموقراطية مؤجلة الى حين قيام دولة الوحدة. وفي كل الحالات "الدولة القطرية" هي المتهمة والمضحّى بها. إلا بعض اشارات ومواقف أنصفتها ووضعتها في اطارها الصحيح، لعل أهمها ما كتبه محمد جابر الأنصاري في "العرب والسياسة: أين الخلل" دار الساقي 1998 حيث يقول: "ان الدولة الوطنية العربية هي أول تجربة للعرب في "الوحدة" وهي الكيان الذي اعتبره الفكر القومي الشرقي أصل البلاء في التجزئة... هذه الدولة الوطنية العربية هي فعلاً أول تجربة للعرب في الوحدة المجتمعية الحقيقية، بمعنى أن كل دولة وطنية في الوطن العربي اليوم تضم في اطارها وبوتقتها المؤسسية والدستورية والادارية والتعليمية مجموعة من البنى التقليدية، بأنواعها، تعمل بالتدريج على استيعابها وصهرها في الكيان الوطني الواحد. وهذه خطوة تقدمية نوعية ومهمة جداً في سبيل انسجام النسيج المجتمعي العربي في كل قطر عربي". ما قاله الأنصاري ما هو في نظرنا إلا إعادة اعتبار للدولة الوطنية القطرية التي جهد نهضويو القرن التاسع عشر من رفاعة الطهطاوي الى بطرس البستاني وفرنسيس المراش وأديب اسحق، في التشديد عليها كبديل للعصبيات الطائفية والقبلية والجهوية، ثم أتى ايديولوجيو القرن العشرين الاشتراكيون والقوميون والاصوليون ليمعنوا في نفيها وإلغائها. حاولوا جميعاً القفز فوقها ففوجئوا بالتراجع الى ما قبلها. وكان في ما آلت اليه الأمة العربية من تمزق عصبوي وصراع طائفي ونزاع اقليمي اسقاط لكل الرهانات ومبعث للريبة والشك في جميع الثوابت والمسلمات. * كاتب لبناني.