المشهد الثقافي العربي أشبه بالمأتم حيث يندب الجميع حظه العاثر من دون ان يبادر احد ما الى اشعال شمعة التنوير ايذاناً ببدء الاستيقاظ من السبات العميق. من هنا ليس من المستغرب ان يتم التعامل مع الثقافة بأسلوب الاثارة والمشهيات تزيد في فحولتها لتكون فحلة بحق، بأسلوب تجاري نفعي يهدف للربح والشهرة، أكثر مما يهدف لتبصير الناس بالحقائق وخدمة المعرفة. ضمن هذا السياق البائس أثير أخيراً في الصحافة البيان الذي وقع عليه أربعة عشر من المثقفين العرب يدينون فيه اقامة مؤتمر مراجعة الصهيونية الذي كان من المقرر انعقاده في بيروت. وقع على البيان مثقفون امثال: أدونيس، وادوارد سعيد، ومحمود درويش، ومحمد برادة، والياس خوري... وغيرهم، ونشر البيان في صحيفة لوموند الفرنسية، ما أحدث ضحة كبرى في قطاع كبير من المثقفين العرب رأوا في البيان دفاعاً عن الصهيونية ونصرة لإسرائيل. قبل التطرق للضجة التي اثيرت حول البيان يمكن القول ان المأخذ الذي اسجله - من وجهة نظري - هو عدم اشارتهم لدعم الانتفاضة في شكل واضح، وتحريضهم الدولة اللبنانية لمنع هذا المؤتمر. اذ كان من المفترض ان يتضمن البيان دعماً صريحاً للانتفاضة وحقوق الشعب الفلسطيني. ومن غير المعقول ان يدعو البيان لقمع الفكر بواسطة الدولة والمؤسسة الرسمية فالمؤلف العقلاني يفترض عدم تحريض الدولة على ذلك، لأن منطق القمع والمصادرة والمنع مرفوض في المجال الفكري والمعرفي. وهذا ما نراه سلبياً في البيان. من جهة أخرى لا نجد أي سلبية في البيان، أو انه يتضمن تأييداً للصهيونية أو دفاعاً عنها، وانما هو موقف فكري محض بعيد من ما هو مؤدلج وسياسي، وينبغي ان نميز بين الخطاب الفكري والخطاب السياسي. أما ان تلقى التهم جزافاً ضد الموقعين ووصمهم بالعار والخذلان فهذا موقف ينم عن ضيق أفق وعدم اطلاع. اليس محمود درويش هو شاعر المقاومة الفلسطينية؟، أليس ادوارد سعيد هو من منعت كتبه من دخول مناطق السلطة الفلسطينية لمهاجمتها اتفاقيات أوسلو! أليس هو من رمى حجراً على اسرائيل عند بوابة فاطمة في لبنان ومنع بسببها من المشاركة في ندوة عن فرويد، أليس ادونيس هو من يرفض علانية التطبيع داخل الثقافة الواحدة فكيف بين ثقافتين يراهما متناقضتين أساساً. المضحك المبكي، هو وقوع المثقفين العرب المعارضين للبيان في فخ تصريحات السفير الصهيوني في باريس، الذي حاول اثارة الفتنة والاصطياد في الماء العكر بنشره رسالة يشكر فيها ضمنياً المثقفين العرب الموقعين، مما اعتبره المثقفون المناضلون ضد اسرائيل شهادة أخرى على تواطؤ موقعي البيان مع الصهيونية! ألهذا الحد أصبحنا أميين سياسياً، حيث تنطلي علينا الألاعيب، فلو مدح صهيوني الانتفاضة أو المقاومة في الجنوب فهل يعد ذلك دليلاً الى عدم نزاهتها! لو كانت المسألة بهذه البساطة لوقعنا في الشرك منذ البداية، ولما تحرر الجنوب، ولا اندلعت الانتفاضة. ان المزايدة باسم فلسطين امر مرفوض، والمتاجرة بدماء الشهداء أمر لاانساني. اننا جميعنا ضد الصهيونية كفكر عنصري دموي، لكننا في الوقت نفسه ضد النازية. وضد ان نعالج الخطأ بالخطأ وضد الأساليب البراغماتية في العمل السياسي. اذا كان المفكرون الغربيون جادون فليضغطوا على دولهم التي تمد اسرائيل بالمال والسلاح والشرعية الدولية. واذا كان المثقفون العرب الذين تنادوا من كل مكان صادقون فليدينوا الممارسات اللانسانية ضد المثقفين وحملات القمع والتكفير، وليدينوا استلاب عقول الناس وضياع حقوقهم في بلدانهم، والمتاجرة بالدين والوطن. ان لنا عقولاً تميز بين ما هو معرفي وما هو ايديولوجي، وبيان المثقفين العرب، مع تسجيلنا بعض النقاط عليه، بيان معرفي بعيد من الأدلجة، فهل نميز بين الاثنين، أم اننا نتعامى عن الحق عن عمد وسابق اصرار، مغلبين مصالحنا الذاتية، وأمزجتنا الشخصية، ومسخرين ذلك كله في قمع الآخر الذي هو في الأساس جزء من الأنا المغيبة. * كاتب سعودي.