} لعبت اتفاقية نيويورك لتنفيذ الاحكام التحكيمية الاجنبية دوراً مهماً على صعيد تطوير التحكيم الدولي، ليحتل المكانة التي أصبح يحتلها الآن، وأبرز ما تضمنته ان الحكم التحكيمي يفقد مفاعيله في بلد التنفيذ إذا أبطل في بلد المنشأ. واستقر الأمر على ذلك الى ان أخذت رياح التشريع الأوروبي وخصوصاً الفرنسي تفك الارتباط بين بلدي المنشأ والتنفيذ ثم أخذ الاجتهاد في الولاياتالمتحدة يسير على هذه الخطى. صدر حكم في سويسرا في دعوى تحكيمية أصبحت شهيرة باسم Hilmarton أبطل فيها القضاء السويسري الحكم واعطاه القضاء الفرنسي صيغة التنفيذ. وسال حبر كثير حول ذلك، خصوصاً ان الأمر تعقد بعد ذلك لأنه بعد إبطال الحكم صدر حكم تحكيمي جديد، وصارت صيغة التنفيذ حائرة بين الاثنين! ثم انفجر الموضوع مجدداً في دعوى اصبحت أشهر من نار على علم في الفكر القانوني الغربي عرفت باسم Chromalloy. صدر الحكم في القاهرة ثم أبطلته محكمة استئناف القاهرة. لكن محكمة واشنطن اعطته صيغة التنفيذ. وطرح موضوع العلاقة بين أبطال الحكم التحكيمي في بلد المنشأ وأثر ذلك على تنفيذه! وأعيد طرح القاعدة التي سبق ان وضعتها اتفاقية نيويورك لجهة ربط تنفيذ الحكم التحكيمي بسلامته وصحته من أي عيب في بلد المنشأ! وطرحت فكرة فك الارتباط بين بلد المنشأ وبلد التنفيذ. وسنعرض كيف تطور الأمر والأفكار المؤيدة والمعارضة، وأنسب الحلول. ولكن قبل ذلك لا بد من إلقاء نظرة سريعة على معاهدة نيويورك في كلمات قليلة: معاهدة نيويورك 1958 كانت اتفاقية نيويورك ثورة في التشريع التحكيمي، تبنتها منظمة الاممالمتحدة عام 1958، وتمثلت الثورة في انها قلبت عبء الإثبات بالنسبة للحكم التحكيمي الدولي أو الاجنبي، مقارنة باتفاقية جنيف لعام 1927 للتحكيم الدولي التي تبنتها عصبة الأمم آنذاك. وجعلت الاتفاقية الحكم التحكيمي في يد الفريق الحائز عليه سنداً ثابتاً يعتد به. من هنا فإن مجرد تقديم الحكم التحكيمي مع العقد التحكيمي يشكل اثباتاً على وجود حكم "إلزامي"، وينقل بعد ذلك عبء الإثبات المعاكس على المطلوب التنفيذ ضده، ولا يعود القاضي ملزماً بإثارة ذلك من تلقاء نفسه، فصار الحكم التحكيمي مقبولاً حتى ثبوت العكس، وعبء اثبات العكس على الطرف الجاري التنفيذ ضده، لذا يجب ان يأتي بالدليل على اثبات أن: أ - أطراف العقد التحكيمي كانوا وفقاً للقانون الذي يطبق عليهم عديمي الأهلية، أو ان العقد التحكيمي غير صحيح وفقاً للقانون الذي أخضعه له الأطراف، وعند عدم النص على ذلك القانون، فطبقاً لقانون البلد الذي صدر فيه الحكم مما يعزز سلطان الإرادة على القوانين الداخلية. ب - خرق حقوق الدفاع: فالمطلوب التنفيذ ضده هو الذي يجب ان يثبت خرق حق الدفاع. ج - وعلى المطلوب التنفيذ ضده ان يثبت ان الحكم فصل في نزاع غير وارد في العقد التحكيمي أو تجاوز حدوده فيما قضى به. د - كذلك على المطلوب التنفيذ ضده ان يثبت ان تشكيل المحكمة التحكيمية أو اجراءات التحكيم مخالفة للعقد التحكيمي، فإذا خلا العقد من خيار في هذا الشأن يجب اثبات ان تشكيل المحكمة التحكيمية واجراءات التحكيم كانا مخالفين لقانون البلد الذي يجري فيه التحكيم. وهذا هو حجر الزاوية في الثورة التي حققتها الاتفاقية، وبمقتضاها فإن قانون إرادة الطرفين هو الذي يرجح على قانون البلد الذي يجرى فيه التحكيم، والذي لا يطبق إلا في حال خلو العقد التحكيمي من اختيار قانون معين لتطبيقه. ه - يجب على المنفذ عليه ليوقف مفعول الحكم التحكيمي الدولي ويمنع الحائز عليه من تنفيذه ان يثبت ان الحكم لم يصبح بعد إلزامياً، أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد الذي صدر فيه أو الذي صدر هذا الحكم بموجب قانونه. وتتم الرقابة القضائية على الحكم التحكيمي بشكلين من أشكال المحاكمة وأصولها: 1- اما مراجعة مباشرة ضد الحكم بمبادرة من الطرف الخاسر الذي يبحث عن الإبطال لمخالفة بعض القواعد المعتبرة الأساسية في التحكيم. 2- واما عند طلب اعطاء الصيغة التنفيذية للحكم بمبادرة من الطرف الرابح الذي يتوقف منحه هذه الصيغة على تقيد الحكم ايضاً بالقواعد المعتبرة الأساسية في التحكيم. وعلى الصعىد الدولي، فإن أول شكل للرقابة يطرق في بلد منشأ الحكم التحكيمي، اما الشكل الثاني فيطرق في كل البلدان التي يطلب فيها تنفيذ الحكم التحكيمي. وهذا الإطار مكرس ضمنياً في معاهدة نيويورك وبشكل واضح في القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي وضعته اليونسترال. الرقابة إذا على الحكم التحكيمي هي رقابة داخلية، وهي خاصة بكل دولة يدخل اليها الحكم التحكيمي أو يعترض فيها عليه. من هنا، يحصل نوع من مخاطر التباعد بين مواقف القضاة في كل بلد. فحكم تحكيمي يمكن ان يكون صحيحاً ونافذاً في بلد وباطلاً وفاقداً آثاره في بلد آخر! هذه التناقضات التي هي غير ملائمة لأمن التحكيم الدولي، أمكن تضييقها بالتعاون الدولي ولا سيما بالمعاهدات المتعددة الأطراف: الأولى: هي معاهدة جنيف عام 1927، ولكنها تشترط ان يكون الحكم التحكيمي أصبح نهائياً في بلد المنشأ من أجل اعطائه الصيغة التنفيذية في بلدان أخرى. الثانية: معاهدة نيويورك لتنفيذ الاحكام التحكيمية الاجنبية 1958 التي ألغت الصيغتين التنفيذيتين لكنها أبقت قاعدة تقضي أن إبطال الحكم في بلد المنشأ هو سبب كاف لرفض تنفيذه في الخارج. الثالثة: بالنسبة للبلاد العربية، في اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي حول الاعتراف بالاحكام الصادرة في القضايا المدنية والتجارية والإدارية والاحوال الشخصية وتنفيذها والتي نصت في المادة 37 منها على الاعتراف بأحكام المحكمين ولكنها اشترطت حيازة الحكم التحكيمي على صيغة التنفيذ في بلد المنشأ لإعطائه صيغة التنفيذ في بلد التنفيذ والتالي ربطت التنفيذ ببلد المنشأ. الوضع القانوني السائد يهدف نظام معاهدة نيويورك لتأمين نوع من التنسيق الدولي في الرقابة القضائية على الاحكام التحكيمية وتجنب ان يكون الحكم التحكيمي نافذاً في بلد وباطلاً في بلد آخر. والوسيلة التي اعتمدت للتنسيق بين مواقف مختلف المحاكم الوطنية هي في اعطاء فعالية دولية لإبطال الحكم التحكيمي فإذا ابطل في بلد المنشأ، فقد فعاليته في بلد التنفيذ. ولكن، هذه الفعالية الدولية للابطال تبدو اليوم في تراجع، وان كان ليس أكيداً. وترجح معاهدة نيويورك الافضلية للرقابة القضائية في بلد المنشأ. وتنص المادة الخامسة على انه "لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم الا اذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في بلد المطلوب اليها الاعتراف والتنفيذ الدليل على ان الحكم لم يصبح ملزماً للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد التي فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم". وتنص المادة السادسة من معاهدة نيويورك على ان "للسلطة المختصة المطروح امامها الحكم - إذا رأت مبرراً - ان توقف الفصل في هذا الحكم اذا كان طلب إلغاء الحكم أو وقفه أمام السلطات في البلاد التي فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم، ولهذا السلطة ايضاً بناء على التماس طلب التنفيذ ان تأمر الخصم الآخر تقديم تأمينات كافية". وبالتالي، فإن اتفاقية نيويورك تحفظ لقاضي دولة بلد المنشأ دوراً له الارجحية مرتين. من جهة أولى، فإن حكمه بإبطال الحكم يفرض نفسه على القضاة الاجانب الذين تطلب منهم الصيغة التنفيذية للحكم. ومن جهة اخرى، فإن هذه الارجحية تتيح للطرف الخاسر مراجعة قاضي بلد المنشأ للإبطال، وهذه المراجعة كافية لشل أي طلب للتنفيذ موقتاً أمام القاضي الاجنبي. إذاً فإن ال111 دولة المنضمة الى معاهدة نيويورك تلتزم برفض اعطاء الصيغة التنفيذية اذا أُبطل الحكم في بلد المنشأ. وعلى العكس من ذلك، فإن الأثر الدولي للإبطال يمتد احياناً لسلطة قاضي بلد القانون الذي حسم النزاع على أساسه، هذا في حال كان التحكيم في بلد والقانون المطبق لحسم النزاع في بلد آخر. وفي هذه الحالة يصبح هناك قاضيان اثنان مختصان بالإبطال ويمكن ان تصدر قرارات متناقضة من القضاءين من دون ان تكون أفضلية أو سلم أولوية بينهما. بعد ثلاثة أعوام من إبرام اتفاقية نيويورك، وضعت اتفاقية جنيف الأوروبية للتحكيم التجاري الدولي وسجلت تراجعاً للأثر الدولي لإبطال الحكم التحكيمي. وبعد ذلك واعتباراً من عام 1980 أخذ بعض القضاة المحليين يرفضون الأخذ بإبطال الحكم التحكيمي في بلد المنشأ وترتيب أي نتيجة على ذلك. اتفاقية جنيف الأوروبية 1961 الهدف الأساسي من هذه الاتفاقية كان تسهيل العلاقات التجارية بين دول أوروبا الشرقية والغربية التي تختلف في أنظمتها الاقتصادية. وكان المنطلق ان التحكيم يسهل حسم المنازعات من أجل تحسين العلاقات. من هنا كان الاتجاه الى تحسين بعض قواعد اتفاقية نيويورك. ووفقاً لاتفاق جنيف الأوروبية، فإن الإبطال ليس له أثر دولي إلا إذا كان تسبيبه قائماً على واحد من الأسباب الأربعة الأولى في اتفاقية نيويورك، وبالتالي فإذا أُبطل الحكم في بلد المنشأ لعدم قابلية النزاع للتحكيم وفقاً لقانون هذا البلد، أو لمخالفته النظام العام في هذا البلد، فإن هذا الإبطال لا يكون له أثر مقيد لقاضي التنفيذ في البلدان المنضمة الى معاهدة جنيف. وهكذا سقط مبدأ هيمنة قاضي بلد المنشأ على قاضي بلد التنفيذ. فأصبح بالإمكان تنفيذ حكم تحكيمي أُبطل في بلد المنشأ، في بلد متعاقد آخر. قضاة بلدان التنفيذ تراجع الأثر الدولي لإبطال الحكم التحكيمي وزاد في الاعوام الأخيرة بفعل أحكام قضائية في بلدان عدة لا سيما فرنسا. في بلجيكا اعطت المحكمة المختصة الصيغة التنفيذية في 6/12/1988 حكماً تحكيمياً صدر في الجزائر في 29/12/1985 وأُبطل من القضاء الجزائري. وهذا الحكم البلجيكي استبعد تطبيق اتفاقية نيويورك التي أثارها الطرف الجزائري، لكن الجزائر لم تكن انضمت الى اتفاقية نيويورك بعد، وطبقت المحكمة القضائية البلجيكية قانون التنظيم القضائي البلجيكي ولاحظت ان المنفذ عليه لم يثر أي سبب من أسباب رفض الصيغة التنفيذية كما ان أياً من الاسباب الأخرى غير متوافر وفقاً للقانون البلجيكي، لذلك استندت المحكمة البلجيكية الى نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية التي صدر الحكم بموجبه والذي يعتبر الحكم نهائياً. في بلجيكا ايضاً، ولكن تطبيقاً هذه المرة لاتفاقية نيويورك، أعطيت صيغة التنفيذ لحكم تحكيمي صادر في عمّان عام 1994 ضد المؤسسة العربية لضمان الاستثمارات التي ألزمت بدفع تعويض في الحكم التحكيمي، واعترضت على تنفيذه معتبرة ان هذا الحكم لا تتوافر فيه الحجة التي تفرضها المادة الرابعة من اتفاقية نيويورك ولا يصبح ملزماً الا بعد مصادقة المحاكم الأردنية عليه. وردت المحكمة القضائية البلجيكية ان الأسباب التي تقتضيها معاهدة نيويورك لحجية الحكم التحكيمي متوافرة لأن الحكم وتواقيع المحكمين غير منازع بها. واعتبر القضاء البلجيكي انه ليس مسلماً به ان الحكم التحكيمي المطعون به ليس ملزماً في القانون الأردني وان صيغة التنفيذ ليست هي التي تعطي الحكم إلزاميته الدولية، بل صيغة التنفيذ والمصادقة على الحكم التحكيمي لا تعني سوى تنفيذ الحكم التحكيمي في الأردن. وأعطى القضاء الفرنسي الصيغة التنفيذية لحكم تحكيمي صدر في بولندا في 10/3/1993 لكن القضاء البولندي اتخذ قراراً بتعليق التنفيذ نتيجة مراجعة طعن بالحكم المذكور واعتبر انه عملاً بالمادة السابعة من اتفاقية نيويورك فان قراري التعليق ومراجعة الابطال ليسا سبباً لرفض تنفيذ الحكم التحكيمي في فرنسا. ادعت شركة HILMARTON على شركة O.T.V مطالبة بدفع اتعاب اضافية لحظها عقد استشارات ووساطة من اجل الاستحصال على عقد اشغال عامة في الجزائر. رد المحكم الذي نظر في الدعوى مطالب الشركة الاولى مستنداً الى بطلان عقد الوساطة واعتبر الحكم التحكيمي ان العقد مخالف للقانون الجزائري الذي يمنع الوساطة واعتبر الحكم التحكيمي ان العقد مخالف للنظام العام الدولي. وراجعت الشركة بطلب ابطال قدم لمحكمة جنيف التي قضت بإبطال هذا الحكم وصادقت على ذلك المحكمة الفيديرالية التي اعتبرت ان مخالفة القانون الجزائري لا تنقض الآداب العامة وفقاً للقانون السويسري. في هذه الاثناء تقدمت شركة O.T.V بطلب اعطاء الحكم التحكيمي صيغة للتنفيذ في فرنسا فحصلت عليها في 27/2/1990 فاستأنفت شركة HILMARTON قرار اعطاء صيغة التنفيذ. لكن محكمة بداية باريس صادقت على قرار رئيس محكمة بداية باريس مستندة الى المادة السابعة من اتفاقية نيويورك معتبرة ان ابطال الحكم التحكيمي في بلد المنشأ لا يشكل سبباً لرفض اعطاء الصيغة التقليدية. في سويسرا، استعادت المحاكمة التحكيمية سيرها بعد اعادة تشكيلها بفعل ابطال الحكم التحكيمي، وبمبادرة من شركة HILMARTON وبالنتيجة صدر حكم تحكيمي جديد، من محكم آخر في 10/4/1992 يلزم هذه المرة شركة O.T.V دفع العمولة المطلوبة. طلبت شركة HILMARTON في 25/2/1993 من رئيس محكمة بداية نانتيد الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي الثاني وفي9 /22/1993 اعطيت صيغة التنفيذ لحكم المحكمة الفيديرالية السويسرية الذي يبطل الحكم الاول. في الوقت نفسه قدمت شركة HILMARTON طلب نقض لقرار اعطاء صيغة التنفيذ للحكم التحكيمي الاول وبتاريخ 23/3/1994 ردت محكمة النقض الطلب المقدم من شركة HILMARTON واعتبرت ان المادة السابعة من اتفاقية نيويورك تجيز لشركة O.T.V التذرع بقواعد القانون الفرنسي حول صيغة تنفيذ الاحكام التحكيمية الدولية الصادرة خارج فرنسا. وتعقدت الامور اكثر، حين اصدرت محكمة استئناف فرساي قرارين، الاول باعطاء صيغة التنفيذ لحكم المحكمة الفيديرالية السويسرية الذي يبطل الحكم التحكيمي الاول والثاني باعطاء صيغة التنفيذ للحكم التحكيمي الثاني الذي يلزم شركة O.T.V بدفع عمولة. واصبح الوضع في غاية التعقيد اذ صارت O.T.V الفرنسية حائزة في بلدها على حكم قضائي يعطي صيغة التنفيذ للحكم التحكيمي الذي جرى ابطاله. بينما شركة HILMARTON التي ربحت الدعوى التحكيمية في النهاية وصدر حكم تحكيمي لصالحها لم يعد بإمكانها تنفيذ هذا الحكم التحكيمي في فرنسا لأن الاول اكتسب قوة القضية المقضية. تقييم قانوني أثارت هذه الخلافات في المواقف وهذه الاحكام القضائية عاصفة في الفقه، الذي اعتبر ان الاجتهاد الفرنسي - الاميركي غير منطقي قانوناً وغير مناسب. في القانون: ان حكماً تحكيمياً جرى ابطاله في بلد المنشأ لا يعود له وجود. فكما هو في النظام القانوني لبلد المنشأ هكذا يجب ان يكون في الخارج، لأن بلد مكان التحكيم يبقى عنصر ارتباط اساسي في التحكيم الدولي، وكل الاتجاهات الحديثة لم تنجح في فك هذا الارتباط وازالة شرعية وفائدة هذا الارتباط، فقانون وقاضي مكان التحكيم يبقى لهما منطقياً الدور الاساسي والاول.، واطراف النزاع اختاروا مكان التحكيم لأن لهم الحق باختياره، الاطراف هؤلاء يكونون اختاروا اخضاع الحكم التحكيمي لرقابة قاضي مكان التحكيم وبالتالي اخضاع الحكم لإمكانية الابطال. وكذلك فان نظام اتفاقية نيويورك سيتطاير اشلاء وتزول امكانية التنسيق الدولي في الرقابة على الحكم التحكيمي التي تهدف المادة الخامسة 1 لتأمينها فيبطل الحكم التحكيمي في بلد وينفذ في بلد آخر، ويرد في بلد ثالث.. فنشجع بذلك معرضاً للفوضى المكلفة. فالطرف المستفيد من الحكم التحكيمي سيبحث عن القاضي الاكثر تساهلاً وتسامحاً وان لم يكن على ارضه اموال ولا حسابات مصرفية او املاك للطرف المحكوم عليه. هذا السباق على الصيغة التنفيذية سيولد عدم استقرار مضر بصورة التحكيم الدولي، ستصيب سمعة التحكيم الدولي واستقراره كوسيلة امينة لحسم سريع لخلافات التجارة الدولية. هذا الاجتهاد الفرنسي - الاميركي لا مأخذ عليه في القانون فهو يطبق المادة السابعة من اتفاقية نيويورك ويحترم روح هذه المادة. فالنص لا يتعلق بالقواعد الأكثر افادة لتنفيذ الاحكام التحكيمية الاجنبية وامام قواعد اكثر ملاءمة تتراجع اتفاقية نيويورك من اجل فعالية دولية اكبر للاحكام التحكيمية. اضف الى ذلك ان حكم قاضي المنشأ ليس مطلقاً حتى في نظام نيويورك، فالحكم الذي يقضي برد المراجعة ضد الحكم التحكيمي في بلد المنشأ لا يحصن هذا الحكم ولا يمنح قاضياً اجنبياً آخر من ممارسة رقابته على هذا الحكم التحكيمي الذي ردت المراجعة ضده في بلد المنشأ كلما طلب منه استقبال هذا الحكم في نظامه القانوني وبإمكان قاضي التنفيذ طبعاً رفض اعطاء الصيغة لحكم تحكيمي يعتبره قاضي بلد المنشأ صحيحاً ومستوفياً كل الشروط. ولعله من غير الطبيعي ولا من المقبول ان يعطي قاضي دولة ما سلطة محو آثار حكم تحكيمي لا يروق له في العالم كله والمخاطر تبقى كبيرة اذا كان هذا الابطال غير مبرر في سائر الدول ومبنياً على اعتبارات قانونية محلية محضة في حين ان الحكم التحكيمي الذي ابطل في بلد ما قد يكون طريقه سالكاً في بقية دول العالم. من هنا يتبين ان الافضلية المعطاة لقاض مكان التحكيم من اجل التنسيق في الرقابة على الحكم التحكيمي تتضمن مخاطر كبيرة وليس امراً مرفوضاً الحد من هذه المساوئ. وقد يبدو في الوقت الحاضر من غير الواقعي ازالة اي اتصال قانوني بين التحكيم الدولي والبلد الذي يجري فيه التحكيم لاسباب عملية او للحاجة الى تدخل قاض محلي للمساندة... واذا كان من المعقول اخراج التحكيم من قيود البلد الذي يجري فيه التحكيم فان فك الارتباط هذا يبقى افقاً في المستقبل لا يمنع رقابات محلية متعددة في بلدان تنفيذ الحكم التحكيمي. رابعاً: المستقبل... موقف حاولت لجنة قانون التجار الدولية في الاممالمتحدة التحرك في اتجاه معالجة موضوع تجاوز اتفاقية نيويورك: هل تلغى المادة الخامسة بحيث تتراجع سلطات قاضي بلد المنشأ على الحكم التحكيمي؟ ويبقى الحكم محلقاً غير مرتبط ببلد المنشأ او ببلد القانون المطبّق؟ وهل تنشأ فوضى ترتد على التحكيم بنتيجة ذلك؟ ام يجب تدعيم دور قاضي بلد المنشأ؟ ويبدو ان دولاً قليلة تقبل التنازل عن سلطة قاضي البلد الذي يستقبل الحكم التحكيمي! ودولاً كثيراً لا تقبل التنازل عن سلطات قاضي مكان التحكيم. وتخلت لجنة قانون التجارة الدولية عن محاولة تعديل اتفاقية نيويورك وانصرفت الى اصدار قانون نموذجي للتحكيم الدولي وقواعد للتحكيم، وهو قانون وقواعد لا تخرج عن اطار اتفاقية نيويورك. ولكن هل يكون الحل في رقابة وحيدة هي لقاضي بلد التنفيذ بحيث تلغى طرق المراجعة في بلد المنشأ؟ وهو الحل الذي اعتمده المشرع البلجيكي عام 1985 ثم عدّله عام 1998 بحيث اجاز ذلك لأطراف النزاع ولم يعد هو القاعدة. وهل ذلك منطقي؟ هناك رأي يقول: "لماذا ابطال حكم تحكيمي في بلد لن ينفذ فيه؟ ولماذا إبطاله طالما انه لن يكون لهذا الابطال اثره في بلد التنفيذ؟ أليس من غير المنطقي ان يفرض قاضي بلد على سائر قضاة بلدان العالم موقفه ورأيه في حكم تحكيمي ليس سوى عمل قانون خاص؟ والرأي الساعي لتحرير الحكم التحكيمي من الارتباطات يستند الى ما تقوله محكمة النقض الفرنسية من ان الحكم التحكيمي لا يدغم في النظام القانوني للدولة التي جرى فيها التحكيم، كما هو وضع العقد في المكان الذي وقع فيه! الحكم التحكيمي والعقد ليس لهما جنسية وكل دولة حرّة في اعطائه او حرمانه من صيغة التنفيذ. ومن الواضح ان في سماء الفقه والاجتهاد والتشريع الدولي غيوماً كثيرة وان المواجهة تدور بين تيارين: تيار فقهي مدعوم بالاجتهاد الذي اشرنا اليه سابقاً وحجر الزاوية فيه الفكرة الفرنسية عن حكم تحكيمي دولي مفكوك الارتباط بأي قضاء وبأي قانون وبأي بلد ولا اثر لابطاله في بلد المنشأ على قرار قاضي بلد التنفيذ، وهذا الرأي المبالغ في سعيه لتحرير التحكيم من القيود والارتباطات له ما يبرره قانونياً. فعقد الزواج، كما والوصية اذا ما أُبرما في الجزائر وارتكبا مخالفة للقانون الجزائري في اصول ابرامهما يبقى لهما مفعولهما في مصر وسويسرا ولو ابطل عقد الزواج او الوصية في الجزائر. ويدعو فقه هذا التيار الى ترك الحرية كاملة لقاضي بلد التنفيذ بحيث لا يحرم الحكم التحكيمي من صيغة التنفيذ الا اذا ثبت له عيب يفضي الى ابطاله حتى ولو لم يبطل بعد في بلد المنشأ. اما عدا ذلك فهو غير مقيّد ويستند تيار آخر الى الترجمات المختلفة لاتفاقية نيويورك. اما التيار الآخر فيدعو الى احترام قرارات بلد المنشأ وتقييد قاضي بلد التنفيذ بها الا اذا وجد قاضي بلد التنفيذ "ان قاضي بلد المنشأ كان متحيزاً في حكمه ومتعسفاً في تفسير قانونه..." بحيث يعفى قاضي بلد التنفيذ من التقييد بحكم يبطل الحكم التحكيمي في بلد المنشأ اذا تضمن هذا الحكم نقضاً فادحاً وفاضحاً لقانون بلد المنشأ نفسه. فلا يعود الامر امر احترام قاضي بلد التنفيذ لقرار بلد المنشأ، بل امر مزيد من الاحترام لقانون بلد المنشأ. وامر تجاوز اتفاقية نيويورك ضروري وبالامكان ان يتم من خلال اتفاقية نيويورك ذاتها. فالمادة السابعة من اتفاقية نيويورك تفتح باب الاستفادة من اتفافيات وقوانين تؤمن للحكم التحكيمي طريقاً اسهل للتنفيذ. كذلك الترجمة الانكليزية للمادة الخامسة من اتفاقية نيويورك التي تعطي الحرية لقاضي التنفيذ في الالتزام او عدم الالتزام بحكم قاضي بلد المنشأ... وهذه نوافذ من اجل ان يكون للحكم التحكيمي فعاليته وآثاره المضمونة ولا يبقى تحت رحمة مزاج قاض في بلد المنشأ! يبقى الاعتبار الاساسي لقرارات قاضي بلد المنشأ نابعاً من سلطان الارادة ذاته... فمن الصعب تجاهل قرارات قاضي بلد المنشأ طالما ان سلطان الارادة هو الذي اختار هذا البلد مع النتائج المترتبة عن ذلك من تطبيق قانونه في قواعده الآمرة ورقابة قاضية. من الصعب جداً تصريف الفكرة الفرنسية للحكم التحكيمي المفكوك الارتباط ببلد المنشأ وان تسلم سيادة الدولة بذلك وان تقبل هذا التنازل بالغاء دور الرقابة لقاضي بلد المنشأ حين يحصل التحكيم لديها واحالة الرقابة بكاملها الى قاضي بلد التنفيذ. واكبر دليل على ذلك ان اتفاقية انشاء السوق الاوروبية المعقودة عام 1957 الزمت الدول الاعضاء على المفاوضة لتأمين "اعتراف وتنفيذ متبادل للقرارات القضائية كما وللاحكام التحكيمية". وفي الدول العربية كان الوضع ذاته مع اتفاقية الرياض المتعلق بابها الخامس "بالاعتراف بالاحكام الصادرة في القضايا المدنية والتجارية والادارية وقضايا الاحوال الشخصية وتنفيذها": ففي هذه الاتفاقية يجب ان يأتي الحكم التحكيمي الى بلد التنفيذ مكتسياً صيغة التنفيذ من قضاء بلد المنشأ الامر الذي يجعل اتفاقية الرياض في مرتبة اقل من مرتبة اتفاقية نيويورك في تنفيذ الاحكام التحكيمية. والحل برأينا هو ان يبقى لقاضي بلد المنشأ رقابة وان يحترم قاضي بلد التنفيذ قرار قاضي بلد المنشأ بمقدار ما احترم وراعى هذا القرار الاعتبارات الدولية في ابطاله للحكم، فاخضاع الحكم التحكيمي الدولي في طرق المراجعة لاحكام قانونية محلية داخلية محضة وابطاله على هذا الاساس فيه نقض لروح القانون اذ تطبق النصوص القانونية الداخلية على احكام تحكيمية دولية. وحتى لا يبقى الامر ضبابياً فيمكن هنا ايضاً اعتماد اتفاقية نيويورك في مادتها الخامسة بحيث نعتمد من الأسس والمقاييس الدولية التي اعتمدتها اتفاقية نيويورك لتنفيذ او عدم تنفيذ الاحكام التحكيمية الدولية اربعة هي: 1 - اخلال الخصم اعلاناً صحيحاً بتعيين المحكم وباجراءات المحاكمة. 2 - الحكم قد تجاوز المهمة التحكيمية. 3 - ان تشكيل المحكمة التحكيمية او اجراءات التحكيم مخالف لما اتفق عليه الاطراف او للقانون. 4 - مخالفة النظام العام. وفقاً لهذه الأسس الاربعة التي يمكن اعتبارها مقاييس دولية يمكن لقاضي بلد المنشأ ان يراقب الحكم التحكيمي الدولي الذي صدر في هذا البلد ولكن الرقابة يجب ان لا يكون فيها اي تعسف او تجاوز لان الامر اذا زاد عن حده انقلب ضده. تجاوز اتفاقية نيويورك ممكن وضروري لان التحكيم الدولي اصبح يلعب دوراً اكبر واهم واخطر في التجارة والتوظيف الدولية منذ عام 1958 حين اقرت اتفاقية نيويورك، ويمكن ان يتم ذلك من خلال اتفاقية نيويورك ذاتها. وكلما سهلنا للحكم التحكيمي طرق التنفيذ ساعدنا التحكيم على ان يبقى ضماناً للتوظيف والاستثمارات الدولية وأمنا للاستثمارات والتوظيفات الدولية طريقاً سالكاً لما فيه خير الاقتصاد العالمي. * دكتور في الحقوق.