1 في 5 أيلول سبتمبر من السنة الماضية 2000، كانت الأممالمتحدة قررت أن تجعل من هذه السنة 2001، سنة حوار بين الحضارات. الحاجة الى الحوار أصبح لها أنصارها في أكثر من منطقة في العالم. والأممالمتحدة، هذه البؤرة التي يلتئم فيها العالم ممثلاً في دول، هي التي تلقت الفكرة وأقرتها في منتظم دولي ليكون الحوار دولياً من أجل رؤية تختلف عما كان صرّح به هانتنغتون أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد النيويوركية، وهو ينظر الى المستقبل البشري القريب في ضوء الصراع بين الحضارات، صيغة للتعبير عما سيصبح عليه العالم بعد انقضاء عهد الحرب الباردة، وما ينبثق شيئاً فشيئاً كأفق لوضع حضاري جديد. وضعت الأممالمتحدة تاريخاً لهذا الحوار بين 25 و26 آذار مارس 2001 في نيويورك، واختارت الشعر ليكون اللغة الأولى للحوار مقدمة مغرية بالتأكيد. هناك أسماء مشاركة من مناطق عدة من العالم، أسماء محدودة العدد من أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، من آسيا واستراليا مع حضور رمزي للعالم العربي. كنت المدعوّ الذي عليه أن يتكلم لا باسمه، ولكن ضمنياً باسم العالم العربي. الثقافة العربية أو الشعر العربي تحديداً، وهو من أهم ما كان عليّ توضيح وضعيته ونحن مقبلون على حوار بين الحضارات، علاقة بين الحضارات، مقبلون في الحقيقة على تأمل ما معنى "بين" ربطاً ووصلاً بين الحضارات. الانتقال الى مرحلة العلاقة "بين" الحضارات يُفرح رغماً عن كل شيء، لمجرد أن العالم أصبح مدركاً لخطورة ما يجري في الضفاف المتباعدة للكرة الأرضية، للثقافات، للغات، للمناطق الثقافية إن شئنا التدقيق. فالحوار، هذه ال"بين"، هي ما أعطاني قدرة على تخيُّل ما يمكن أن يحصل أثناء اللقاء، ثم ما يمكن أن يُسفر عنه اللقاء كفكرة مستقبلية مفتوحة، أو هي مرتكز وعي يحتاج اليه العالم، منتقلاً من عهد الى عهد. وفي النفوس من الدخان ما يكفي لتجنُّب مواصلة السير على طريق الآلام. التعبير عن الرغبة في الحوار، وضع آليات للحوار، انتخاب الشعر كلغة للحوار، كلُّ ذلك لم يبد لي اعتباطياً. وراء الأوراق صوت يتكلم جاهراً بما يتأمل فيه. 2 لم أتردد في تلبية الدعوة. موضوع كهذا يسمّي عهداً علمياً جديداً. وحضور اللقاء لربما يسمح لي بأن أرى وأتكلم أيضاً. يُشجّع على الحوار. بالعزيمة ذاتها تبادلت الكلمات التمهيدية مع المسؤول رام دفينيني، مدير دار نشر نيويوركية صغيرة، المكلف من طرف الأمين العام للأمم المتحدة بهذا اللقاء، أو أكثر بهذا الحوار، للكلمات الواصلة عبر الهاتف، رنين البحث عن الإلفة. وفي اللحظة الافتتاحية من اللقاء، أحسست أن الولاياتالمتحدة الاميركية عالم يختلف عن العالم. في نيويورك يمكن أن تلتقي بأي مكان في العالم، بأشخاص ينتمون في الوقت ذاته الى هذا العالم الاميركي، والى البلدان التي هم منحدرون منها، رام الهندي، رام دفينيني. لم أجد تكلُّفاً في الكلام، ما تبادلناه انصبّ على برنامج اللقاء، وعلى الطريقة التي ستسير بها المناقشات. وهذا كله مساعد على الحوار. في اليوم الموالي حضر المدعوون في موعد بداية الحوار. ملف، مشاريع، أعمال، والعدد المحدود من الحاضرين في جلسة أولى بعمارة كريسلز، وسط مانهاتن، كانت تدل على المشترك. هو صوت الحوار الذي لا بد من بدئه بالكلمات المتلعثمة، قبل أن يتحول الى كلام يتضح خطوطاً ومسارات نحو ما أتى الجميع من أجله، الحوار بين الحضارات. ما الذي نعنيه بالحوار وبالحضارات؟ هذا السؤال كان منطلق النقاشات. فالعولمة تُلغي الحوار، وهذا مدخل أول الى منطقها. العولمة لا تنتظر رأياً، لا تبحث عن رأي مخالف. انها الجرافة التي تلقي بكل ما يعترض سبيلها الى الجحيم. هو ذاك مآل البكّائين الذين لا يزالون يشهرون سواعدهم أو يمزقون ملابسهم أمام عدسات التلفزيون، احتجاجاً على العولمة الاقتصادية، ومن الاقتصاد الى الجغرافيا والسياسة. حتى الذوق والموضة وصولاً الى الثقافة. لا تحزن كثيراً وأنت تُنصت الى عالم ليس هو عالمك، لا تفكر بما يفوق الحد المطلوب. في لحظة أولى من الحوار يبدو كل شيء مستحيلاً، على رغم ان الجو العام يفيد ان الجميع مقتنع بالحوار وبالرغبة في التعرف على المناطق المعتمة من الثقافة أو الشعر في العالم، لكن الاحساس بأنك قادم من مكان يفتقد الى أسس الدخول في حوار مع العالم هو ما يتحول الى أرق. ها نحن في لحظة حوار، والآخرون يمكن أن تُقنعهم بأن هناك ما يختلف عما يملكون من نموذج شعري أو حضاري. وفي الأخير: كيف سنواصل أمر الحوار؟ 3 الحوار بين الحضارات، ليس موضوعاً لندوة مُغلقة، تنتهي صلاحيتها فور اختتام برنامج اللقاء. العكس هو الصحيح تماماً. فالحوار فرصة جماعية للعمل من أجل فكرة مستقبلية، والعمل سيكون بالتأكيد بين من يعملون، لهم امكانية العلم. الثقة بالحوار أولاً، ثم مؤسسات تدعم وتساعد لتفتح طرقاً غير معهودة. وهذا هو ما أحسست انه ممكن، تلك الصعوبات التي كانت على الدوام عائقاً بين العالم العربي والعالم غير العربي، في مقدمته الغرب، يظهر انها ليست أبدية. شقوق ما تحدث في جدار العالم القديم الخارج الى العالم، ان هو رغب في ذلك. طبعاً، والعالم العربي له فرصة اللقاء بالعالم والحوار معه من أفق حضاري، شعري، تلك امكانية تمنحه كل شروط المُحاور الأساسي. الحضارة العربية في ماضيها، الشعر العربي الحديث، كل ذلك يضيف الى الحضور العربي معنى، والى الشعر العربي تأثيراً دولياً لا شك فيه. هذا ما شغلني وأنا أعرض أهمية الشعر. الشعر العربي أو قيمة الثقافة العربية، والنوعية الخاصة لكبار الشعراء العرب في المشرق والمغرب، وما يمكن أن تقدمه اللغة العربية من خلال الشعر الى هذا الحوار بين الحضارات. كان المدخل النظري الذي تناولت من خلاله مسألة الشعر العربي، ثم الوضع الحضاري في العالم، هو اللغة. كان يعنيني قول أن لا وجود للغة تفتقد الشعر. من هنا يصبح الحوار الحضاري دفاعاً عن الشعر مثلما هو دفاع عن الثقافة، ان هو كان يهدف الى مستقبل انساني مشترك. ان اللغة الانكليزية الأميركية نفسها مهددة، تسود العالم لكنها مهددة، لا لأن سيادتها لا تحميها من كل ما يتهدد اللغات الأخرى، بل لأنها مهددة من داخلها، وهي تتحول الى لغة ذات بعد واحد، هو بعد المنفعة. فالجملة الواحدة التي تنتجها الجملة النمطية، في الاعلام، في التخاطب، في السوق المالية، كلها عوامل تنبئ باندثار الانكليزية في حال تخلي هذه اللغة عن شعرائها. من هنا يصبح الشعر العربي ذا معنى بالنسبة الى العربية من جهة، وبالنسبة الى وضعية الخطاب والتخاطب على المستوى الانساني، من جهة ثانية. فالبشرية مهددة في اللغة التي بدونها تنتفي الحضارة، وفي انعدامها يتعطل الحوار. انها الخطورة الكبرى التي تجعل البشرية على هاوية الحُبسة. وتلك هي علامة الهلاك الحقيقي الذي يهدد الوجود البشري من ثقافة الى ثقافة، ومن حضارة الى حضارة. كيفما كان التفوق الذي يفتخر به صانعو الدمار البشري، بما يسمونه حكمة، هي الصيغة المثلى للخراب الجماعي. 4 الشعر يجسد هذا الحوار، وفي شهر نيسان ابريل تقام امسيات شعرية في مناطق متعددة من العالم، ضمن فكرة الحوار بين الحضارات. في اليوم الأول تم وضع لائحة. تضم مئة مدينة في العالم، لا توجد من بينها مدينة عربية واحدة في المرة الثانية، ارتفع عدد المدن الى مئة وخمسين، وقدمتُ احتجاجاً على غياب المدن العربية، ثم انتقل العدد الى مئة وثمانين، ولم يسمع رام دفينيني احتجاجي على غياب مدن عربية. وفي اليوم الأخير من اللقاء في قاعة الندوات الصحافية بالطابق الثاني من مبنى الأممالمتحدة، تمّ التصريح بوصول عدد المدن المشاركة الى مئتين، لا تُذكر من بينها مدينة عربية واحدة. عند استئناف العمل في احدى القاعات الصغرى بمبنى المنظمة الدولية، تساءلت عن معنى هذا الحوار الذي لا تحضر فيه مدينة عربية واحدة. طرحت السؤال بشدة على جميع الحاضرين لأقول بوضوح ان حواراً كهذا ليس حواراً، ولا بد من اعادة النظر في الرؤية التي تصدر عنه. والحق ان هناك عدداً من الحاضرين وقفوا الى جانبي في هذا الرأي. كان النقاش حاداً بخصوص هذا النشاط الشعري الذي يستثنى منه العالم العربي في غياب مبرر مفهوم وغياب وضوح في الاختيار او في فرض الاقصاء. لكنني في كل ذلك كنت أتساءل مع نفسي: أين العرب في الأممالمتحدة؟ أليس لهم مندوبون يمثلونهم؟ ماذا يفعل هؤلاء في موضوع حيوي؟ وكيف أنهم لا يبالون؟ حتى الاعلام العربي لم يكن حاضراً في الندوة الصحافية. ممثلون عن الصحافة من مناطق مختلفة من العالم كانوا حاضرين يسألون. يستفسرون عن هذا الحوار، لكن العرب يختفون في مكان مجهول. 5 ينتقل العالم الى وضعية جديدة. هذا مؤكد. والجميع متفق عليه، بعض العرب يلاحظ ما يقع هناك وهنا. لكن النخبة المثقفة منقسمة على نفسها. حتى الشعراء ليسوا دائماً في مستوى متقدم من رؤية ما يجري وما يأخذ في تبديل صورة العالم من دمار يسري في الجسد الجماعي، أبداً، قبل ذلك هناك امكانية أن نتكلم مع العالم، نتحاور بلغة، بقصيدة، هي غير التي كانت لنا في مطلع القرن العشرين. والسؤال هو: كيف نبدأ؟