1 لعل ما جرى في المغرب، خلال المهرجان العالمي للشعر، المنعقد بالدار البيضاء من 23 الى 26 ايلول سبتمبر له دلالة كبيرة. حضارية. أتجرأ على الاشارة الى هذه الدلالة. بل على الكتابة بخصوص المهرجان. رغم اني احد الافراد الذين ساهموا في التصور والإنجاز. اقول في نفسي لماذا ابتعد عن التأمل. انا الآخر. علانية في ما جرى. طيلة اربعة ايام. وكأنها قصيدة اخترقت جسد الدار البيضاء. في لمح البصر. حقاً. يمكن ان نخجل من الحديث. ان نتأفف. ان نترك الآخرين يتناولون الموضوع بالطريقة التي يرونها مناسبة. وهذا كله معمول به في اوساطنا وحياتنا الثقافية والاجتماعية. على السواء. حيث من غير المقبول ان يتقدم احد المسؤولين عن تنظيم مهرجان بالحديث عنه مباشرة بعد انتهاء أنشطته. لا افتعل شيئاً. فالمسألة تنحصر في التأمل. الذي يمكن ان نمارسه بكل حرية. بهذه المناسبة او تلك. وهي على كل حال معروضة للنقاش. لأن الأمر الأساسي لا ينحصر في تناول ما قمنا به من اجل تنويه او تمجيد. بل هناك الأسمى. الأنبل. وهو النظر الى ما فعلنا وإلى ما انخرطنا في فعله. متأملين من ركن متخلف. ركن المحلل. الذي لا يتوقف عن التأمل في الافعال الثقافية الدالة. الحضارية منها على الخصوص. في تاريخنا الحديث. اقصد منذ ما يقرب من قرن. علامات رمزية اصبحت موشومة على جسدنا الثقافي والشعري. وهي علامات تحولت مع الزمن الى مرجعية للقراءة وإعادة القراءة كلما حاولنا التأمل في الدال الثقافي العربي. وفي سياق كهذا. الذي هو سياق الثقافة العربية الحديثة. سياق موسع. يصبح الحديث عن الدلالة الحضارية لما جرى في المهرجان العالمي للشعر بالدار البيضاء مطلوباً من كل من يرغب في تحديث مجتمع وثقافة. وكل من يسعى الى اعتماد العلاقات الجديدة مع الثقافة الانسانية وسيلة للحوار ولإيصال الصوت العربي الى العالم. مخترقاً حواجز لم نتوقف عن استحضارها في كل مناسبة. يصبح فيها التحديث الثقافي والاجتماعي، في العالم العربي، موضوع نقاش بين النخبة. ذلك ما افترضه، بموضوعية. لا لأن ما جرى ارتبط بالمغرب. اي بمنطقة طال استبعادها من خريطة الجغرافية الشعرية والتحديث الشعري. بل لأن الدار البيضاء جسدت مكاناً عربياً. لا فرق فيه بين القاهرة وبغداد. او بين دمشق وتونس. وهذا ما أحسسنا وأحسّ به المشاركون من كل مكان. المسألة أبعد من الرقع المنكمشة على نفسها. الأمكنة التي لا تستطيع ان تتخيل غنى العالم العربي. باتساعه الجغرافي والبشري والثقافي. فما يهم في واقعة كهذه التي عشناها هو انها تمس الشعر العربي الحديث كما تمس الثقافة العربية الحديثة. بدون اي مبالغة. وباعتقادي ان عهداً جديداً يمكن ان يبدأ في المغرب الشعري على الاقل. بعد ما جرى. وشارك في حدوثه فاعلون متعددو الصفات والوظائف. وهم الذين أحسوا شيئاً فشيئاً ان ما جرى لم يكن ليترك الوقائع الثقافية والشعرية محايدة. كما لو اننا عشنا انفجاراً لطاقات لا حدود لها كانت معتقلة في ركن مجهول من الذات. الذوات. الفاعلة في الحقل الشعري المغربي. 2 ولا شك ان حدثاً استثنائياً كهذا سيدفع الى التأمل المشترك. من اجل استخلاص ما علينا استخلاصه في اتجاه فعل تحديث. حر. ولا حدود له سوى الفعل اللانهائي الذي به نقيس علاقتنا بأنفسنا وبالعالم. ولكني افضل ان تكون الدلالة الكبرى هي ما انشغل به. الآن. احياناً تتزاحم التأملات في ذهني الى حد انني لا اعرف من اين ابدأ. هل ابدأ من وضعية الشعر التي كثيراً ما حوّلها بعض الأدباء والنقّاد العرب الى لحظة ندب حتى اصبح الحديث عن الشعر مساوياً للجريمة؟ ام ابدأ من الفرق بين التمثيلية الجغرافية والتمثيلية الشعرية وهو الذي لا نزال نعاني منه بألم شديد؟ ام ابدأ من العلاقة بين المشرق والمغرب كما هي في عصرنا الحديث. علاقة تنسى الماضي نهائياً من اجل فرض نموذج لا يستجيب لتحديث ولا لحرية ثقافية؟ اترك هذا وغيره الذي لا فائدة في عرضه. قضايانا الثقافية والشعرية المسكوت عنها او اللامفكر فيها تتسع. كلما اشتغلنا من مسافة مختلفة. مسافة القلق والسؤال. لأترك ذلك كله من اجل الدلالة الكبرى الحضارية. الحوار بيننا وبين العالم. هذا هو المهم. لقد مرّ الآن قرن على شروع العرب في الانفتاح على المغامرة الشعرية الأوروبية. التي قامت على التحديث. لغة وأشكالاً. منذ نهاية القرن التاسع عشر اخذ الشعر الأوروبي والأميركي يتسرّب بتؤدة الى القصيدة العربية. بوصفه حقيقة الشعر وحقيقة التحديث في آن. في تلك الفترة كان الوصول الى الأصل الأوروبي. في لغته او عبر الترجمة يمثل نهاية حلم الشاعر الراغب في الخروج من وضعية التقليد الى اختيار سلطة جديدة لها التحديث كما لها إعادة النظر في تاريخ الشعرية العربية. منذ قرن. والوقائع المتتالية نعرفها. ما نحتاجه هو إعادة القراءة. اي اعادة الفهم والتفسير. في ضوء اسئلة هي منا ومن زمننا. لا افترض هنا تأريخاً للعلاقة بين الشعر العربي وبين غيره. في عصرنا الحديث. ولا العودة مجدداً الى عدم انفتاح العرب قديماً على شعر الأمم الأخرى. مناسبات ممكنة في المستقبل قد تسمح بطرح تأملات ولكن الحوار المباشر هو المهم الآن. وتلك هي الدلالة الكبرى. كل منا يعرف ان شعراء عرباً. في العقود الاولى من زمننا الحديث كانوا التقوا بشعراء أوروبيين وأميركيين. ولنا الآن لقاء بين شعراء عرب وغيرهم من الشعراء على مستوى الأرض كلها. لا مبالغة في ذلك. الحديث عن المنافي التي تتوزع الشاعر العربي كاف وحده ليدلّنا على هذا الحوار المباشر بين العرب وغيرهم من الشعراء. ومن هنا يمكنا القول بأن العرب كأفراد يتوفرون على إمكانية يندر ان تتوفر لغيرهم في اللقاء بالعالم. 3 هذا التاريخ بحد ذاته غير مفكر فيه. وهو يحتاج لعمل جدي يستحيل ان ينجزه إلا فريق واسع الاطلاع وله خبرة قوية في البحث وعقلية حديثة جداً. ولكن الحوار المباشر، على ارض عربية بين نخبة من الشعراء العرب وبين نخبة من الشعراء من خارج العالم العربي، جديد تماماً. لأوضح المسألة. حتى لا نقع في التباسات. منذ ثلاثة عقود ربما اصبح اللقاء بين الشعراء العرب وغيرهم ممكناً على ارض عربية. وكان ذلك بصفة فردية. يمكن الاشارة الى شعراء زاروا اقطاراً عربية عدة. وهذا ملاحظ بيسر. وكذلك الأمسيات الخاصة او المساهمات ضمن مهرجانات. ومنذ عشر سنوات تحقق حلم كبير جداً. في صنعاء. اللقاء بين الشعراء العرب والشعراء الفرنسيين سنة 1989 ثم بينهم وبين الشعراء الإسبان في السنة الموالية، بفضل ادونيس وعبدالعزيز المقالح. لقاء مغلق حول موضوع محدد. وما تم في الدار البيضاء ربما كان مرحلة عليا من هذا التاريخ. ولربما كان مختلفاً فقط. ولا شأن لنا بالفرق بين الصيغتين. لأن الأساسي في هذه الحالة هو ان الشعراء المساهمين لا ينتمون الى قطر واحد ولا الى لغة واحدة ولا الى حضارة واحدة. ذلك ما هيّأ للدلالة ان تكون كبرى. لقد انتقل المهرجان العالمي للشعر من محور العالم العربي والعالم الغربي أوروبا وأميركا الى الانفتاح على الجغرافية الشعرية العالمية. وهذا يعني ان هناك وضعيات شعرية مختلفة في العالم وأن المهرجان أتى بالضبط لينتقل بالرؤية من الصيغة المتداولة الى صيغة جديدة. إن دعوة شاعرين من آسيا. الهند وتركيا. الى جانب شاعرين من منطقتين شعريتين غير متداولتين. مقدونيا وفنلندا. مثلاً. الى جانب شعراء آخرين من فرنسا وإسبانيا والدانمارك والولايات المتحدة الأميركية. لهي اشارة على مفهوم الحوار الذي كان المهرجان يسعى الى تحقيقه. انه محاولة الارتباط بالأوضاع الشعرية المتعددة والمختلفة في العالم. منها اوضاع تقترب من وضعيتنا العربية من حيث التاريخ. وأخرى من حيث الاتساع. وأخرى من حيث الأسئلة. فيما هي المناطق الشعرية والشعراء على السواء يعيشون وضعاً مشتركاً. على نحو متقارب. مكانة الشعر في العالم. راهناً. او وضعية الشاعر. وفي التلاقي بين هذين الصنفين من الأوضاع كان المهرجان يسعى الى الاقتراب من المتعدد الذي يخلق فرصة موسعة للحوار. 4 وكانت المفاجأة مدهشة. منذ اللحظة الأولى انطلق الحوار. تلقائياً. ومعرفياً ومنهجياً. بصيغ متداخلة. أن ينصت الجمهور بصمت الناسكين في الدار البيضاء الى اول شاعر في الأمسيات الشعرية. الهندي لوكسينات بطاشاريا. وهو يقرأ نصوصه باللغة البنغالية كان افتتاحاً لحوار عميق بين شاعر وبين جمهور. ما حدث مع الشاعر الهندي بطاشاريا تكرر مع غيره. بالنسكية نفسها. وبالمتعة نفسها. وهذا جديد. وإذا كان الحرص على متعة الجمهور اكيداً فان الحرص على الحوار المباشر بين الشعراء كان موجوداً ايضاً. ان الطريقة التي أنصت بها الشعراء الضيوف الى الشعراء العرب وهم يلقون قصائدهم كانت ممتعة. فالأذن كانت متبادلة بين شاعر وشاعر. بين شاعر ومتسلق. وتلك الأذن الخالصة. التي لا تنصت إلا للشعر. بعيداً من المعيار. او عن النموذج هي الأذن التي حررت الحوار مما كان يمنعه. هذه القراءات. من أمسية الى امسية. لم تكن تتوقف عند مسافة الإلقاء الشعري. في كل لحظة كان ثمة ما يدعو لاسترسال الحوار. مظاهر حضارية. أجيال من الشعراء والجمهور. مناسبات للنقاش الطويل. الفنون المتداخلة. موسيقى. تشكيل. مسرح. كلها كانت تتكامل مع الندوة الفكرية. بحضور جمهور منصت للشعراء وهم يتداولون. كل واحد منطلق من وضعيته الثقافية والشعرية. ومن دون تحديد لما يمكن ان يفسر عند النقاش من نتائج فورية. ذلك ما لم يكن ينتظره أحد. لم يكن الأمر بسيطاً. أبداً. تفكير طويل من أجل حوار ممكن. وهذا الحوار ممكن حقاً. حوار حضاري. ننتقل فيه من شاعرين يلتقيان في مكان ما من العالم ليتحاورا معاً. في مسألة شعرية. الى مرحلة تحضر فيها اسئلتنا النوعية. التي أرّقتنا لزمن طويل. وهي لا تزال معتمة في خطابنا الثقافي العربي. الذي لم يتعلّم او يتعوّد على الانفتاح على العالم. دلالة مخصوصة. تتجاوز الجهوي لتعطي ما جرى بالدار البيضاء خصيصة دلالة مركزة في سياق تاريخ الشعر العربي الحديث. وهو يستكشف لانهائيته في نفسه وفي غيره. معاً. من اجل قصيدة تجعل من الانسان عنوانها الأخير. وإذا كان المهرجان العالمي للشعر بالدار البيضاء قد أكد على إمكانية الحوار الحضاري بيننا وبين العالم. بطريقة جماعية. ومن مستويات تتباين. فمن حقنا ان نأمل في استمرار المهرجان. من اجل استثمار افضل للخطوة الأولى من حوار يهمنا نحن جميعاً.