اعتاد بعض اللبنانيين أن يقرأوا شعراً "جنوبياً" عربياً دأب على كتابته طوال سنوات شعراء الجنوب ولكن لم يخطر في بالهم يوماً أن من الممكن أن يكتب شعر جنوبي في لغة أخرى كالفرنسية مثلاً. فالشعر الجنوبي استطاع أن يؤلف حالاً خاصة في الحركة الشعرية اللبنانية اتسمت بخصال عدة، لغوية وأسلوبية علاوة على المضمون المأسوي والنضالي الملتزم. الشاعر والروائي الكسندر نجار شاء أن يكتب شعراً "جنوبياً" ولكن خارج سياق "التيار" الجنوبي. فهو اختار أولاً اللغة الفرنسية للكتابة، وهي أصلاً لغة التعبير لديه - كما يقال - وانطلق ثانياً من قضية "سجن" الخيام بعد تحريره ليكتب قصائد قصيرة ذات نبرة خفيضة غير منفعلة أو غير خطابية. والقصائد عبارة عن شهادة شعرية وربما عاطفية على التجربة الأليمة التي خاضها السجناء اللبنانيون في ذلك السجن "المشؤوم" كما يصفه الشاعر الذي بدا منذ "افتتاحه" في العام 1985 أشبه ب"وصمة عار" في التاريخ اللبناني الحديث وفي تاريخ الحرب اللبنانية. فالسجن هذا الذي فتحته اسرائيل على الأرض اللبنانية كان سجّانوه لبنانيين على غرار السجناء الذين عزلوا فيه ورموا في عتمته. وبعدما كتبت الأسيرة سهى بشارة كتاباً بالفرنسية عن السجن، يكتب ألكسندر نجار بالفرنسية أيضاً قصائد حية ونضرة وكأن السجناء كتبوها بأنفسهم. فالشاعر يستعير في أحيان أصوات السجناء ليعبّر عن الآلام التي كابدوها، علاوة على استعادة أجسادهم التي كانت موضع التعذيب وكآباتهم وعزلاتهم... لكنه لم ينسَ طبعاً أن يستوحي أحلامهم الكبيرة وآمالهم التي لم يستطع السجانون أن يصادروها حتى في أقصى أحوال الترهيب والتعذيب. يكتب ألكسندر نجار قصائد أليفة ذات طابع يومي عن أجواء السجن، عن الخوف والانتظار، عن مواجهة الموت واليأس، عن العزلة السحيقة داخل الزنزانات، عن آلام الجسد والروح... ولا يتعمد الشاعر الفصاحة ولا الترميز واللعب على المفردات والمعاني ولا الغموض والتورية، بل يكتب شعراً "واقعياً" طالعاً من عمق المعاناة التي عرفها أولئك السجناء. لغته واضحة وغنائية ولا تتخلى لحظة عن مفهوم "الشهادة". فالشاعر يدرك جيداً أنه يكتب شهادة شعرية عن سجناء الخيام وأحياناً على لسانهم هم وبحسب ما عانوا وقاسوا. وكان الشاعر استهل كتابه ببعض ما كتبه الشاعر الفرنسي بول إليوار عن تجربة السجن في قصيدته الشهيرة "في الموعد الألماني" أيام كان شاعراً مناضلاً ضد الاحتلال: "فكّروا في الأماكن التي بلا خفر/ حيثما البشر منزوون/ حيثما الغائبون هم حاضرون/ حيثما العيون بلا بريق". جميل أن نقرأ شعراً عن سجناء "الخيام" وعن السجن المقيت في لغات شتى.. فهذا السجن الذي دمّرت أبوابه عقب انسحاب جيش الاحتلال الاسرائيلي هو من أبشع الصفحات التي طويت في تاريخ لبنان الحديث. لقد كان هذا السجن رمزاً للعبودية والحرية في آن، عبودية السجانين اللبنانيين الذين انحازوا الى العدو والجزار وتعاملوا معه وحرية السجناء الأبطال، الذين قاوموا الاحتلال وواجهوا آلته العمياء من غير أن يهابوا الموت والأسر. قد لا تحتاج قصائد الكسندر نجار "الخيامية" الى نقد يوضح أبعادها أو لعبتها اللغوية والشعرية. فهي قصائد أليفة وحقيقية وفي متناول القراء أياً كانوا. ولعل تعريب بعض تلك القصائد يشكّل صورة واضحة عن مناخها الغنائي المتحرر من متاهة الخطابية والمنبرية. * صدر الكتاب بالفرنسية عن دار النهار، 2000. قصائد مختارة الأمل مأسورين في قفص كحيوانين أنت وأنا رفيقين في البؤس تأمرني بالأمل كما لو أنّ الأمل يؤمر به كم من الوقت أيضاً كم من ليالٍ كم من كوابيس كم من حرمان قبل أن يسقط هذا الباب وهذه الجدران التي تحجب الضوء وتعزلنا عن الحياة ما عدت أعدّ الثواني ولا الساعات ولا الأيام أنني أعدّ السنوات التي تفصلني عنكم يا إخوتي في الخارج أو تفصلني عن الموت السنوات التي تبعدها صلواتي ينبغي أن أصمد ينبغي أن أعود كي أقبّلَ يدكم وأطلبَ الصفح على رحيلي المفاجئ من دون وداع. الرأس في الكيس وحيداً رأسك في الكيس قدماك ومعصماك موثوقة معلّقاً على عمود تتلو صلوات كي تقتل الوقت قبل أن يقتلك عيناك تضطربان تحدّقان في الداخل تبصران قلبك مترعاً بالحبّ مشيئتك كاملةً ذكرياتك سليمةً وعيناك تلتمعان رغم الزمن رغم العمود والكيس على رأسك الصرخات صرخات في الظلمة سمير أو كرم مصطفى أو ابراهيم يُعذّبون هذا المساءَ دورهم هم لا يصرخون من الألم لا يصرخون لئلا يتكلّموا ثمّ لأنّ الصرخات تخنق الانتحابات يا للعجب إنّه الأسير المبتور الذي يُضرب أعرفه من صوته إنّهم يضربون كالصمّ بشدّة ساقه المبتورة أعرفه من صوته الأقوى من أصوات الآخرين لأنّ لا شيء لديه ليخسره لأنّه خسر كلّ شيء كلَّ شيء ما عدا الشرف تسلّط كي يدفعوا الابن الى الاعتراف يعذّبون الأم كي يدفعوا الأم الى الاعتراف يعذّبون الابن يا للمساومة الأليمة الاعترافات أو الموت في وسط الروائح والغسيل المتدلّي التسلّط والتلهّف ومن أجل أن يُؤثث الانتظار ثمة رسوم مهداةٌ الى أولئك الذين يصرفون بأسنانهم كي يحجزوا الكلمات الموتى أولئك الذين يصمدون يخجلون دوماً من كونهم عاشوا بعد أولئك الموتى والموتى يخجلون دوماً من كونهم رحلوا باكراً جداً انني أفكر بكم أنتم الذين لم تبقوا هنا أنتم الذين تحيون في قلوبنا وتسكنون تلك الجدران لتخبروا الناس عن كراهية العدو عن خوف الرحيل قبل الأوان وعن شهامةِ الموتِ وقوفاً ترجمة: ع. و.