على رغم أن الرحلة لا تستغرق السياح والزوار سوى 150 دقيقة، إلا أنها تحوي في أعينهم ظواهر ومعالم وأحداث أثمن من ذلك بكثير. فهي تحمل في طياتها ترجمة فعلية بالصوت والصورة والنكهة لسمات النظام العالمي الجديد. ينظر البعض إلى رحلات المراكب العائمة، أو بمعنى أدق المطاعم العائمة، على نيل القاهرة، على أنها رحلة سياحية ترفيهية مترفة. لكن جولة "الحياة" عليها أتاحت التعرف الى نموذج فريد لما صار إليه العالم في سنة 2001. والنموذج يتحرك يومياً عشرات المرات جيئة وذهاباً بين مراسي تلك المراكب المتناثرة على جانبي النهر، والمتمركز أغلبها في وسط القاهرة أمام الفنادق الكبرى، رحلات غداء، وغروب، وعشاء، تحمل على متنها آلاف البشر من أنحاء شتى من أرجاء المعمورة: آسيا، أوروبا، الاميركتين، استراليا، وافريقيا، ومن مصر نفسها، حيث النموذج المتفرد للعالم في الألفية الجديدة. والمصريون حاضرون بقوة من شبرا شمالاً إلى المعادي جنوباً، ومن مدينة السلام ومصر الجديدة شرقاً، أطباء ومعالجون روحانيون ومهندسون ومقاولون ورجال أعمال ولصوص ومبرمجو كومبيوتر وصانعوه ومروجوه، راقصات ومنقبات، مغنون درجة ثالثة وسيدات مجتمع درجة أولى، نادلون وعاملات حمامات ومطابخ، كل شيء وأي شيء على متن هذه السفينة الكبيرة التي لا حول لها ولا قوة في ما تحمله من متناقضات أو مترادفات. ولنبدأ بالزبائن أو عملاء المطاعم العائمة، وهم نوعان: مصريون وأجانب، والمصريون يندرجون تحت بند فئات عدة، جميعهم ذوو صلة بالنظام العالمي الجديد. والفئة الأولى هم المصريون الراغبون في الاندماج والانغماس في هذا النظام العالمي الجديد بالذات، وهم يملكون القدرة على ذلك، وأساس القدرة هنا "اليسر الاقتصادي"، فهم ممن نجحوا في اكتناز ثروة مالية كبيرة، وأغلبهم ممن يطلق عليهم "الأثرياء الجدد" سواء كانوا من اثرياء الانفتاح، أو "التخصيص"، أو عصر التحرير الاقتصادي، أو مرحلة الشفافية، أو حتى من الطبقات الطفيلية التي تتغذى على أولئك الاثرياء على اختلاف مصادر ثرائهم. وهم يتعاملون مع المكان باعتباره جزءاً لا يتجزأ من مملكتهم ولكل منهم مركبه أو مطعمه العائم المفضل، الذي يقيم فيه سهراته وحفلاته ومناسباته. والطبيب المشهور في عالم تجميل المشهورات كاد ينفجر من الحنق والاستهجان حين سأله أحد الذين وجه إليهم دعوة للعشاء مع عدد من الكبار الآخرين: هل تعرف مرسى المركب الفلاني؟ فرد عليه الطبيب: "لقد عشت نصف حياتي على طابق المركب العلوي، والنصف الآخر على طابقه السفلي". والفئة الثانية من المصريين هي المدعوون والمدعوات للفرجة على النظام العالمي الجديد، وهم الذين توجه لهم الدعوة من قبل شركة أو بنك أو مؤسسة لحضور حفلة غداء أو عشاء على متن المركب. وهم في تلك المناسبة النادرة الحدوث يطلعون على سمات النظام، وتتكون مواقفهم الأولية منه، وذلك بالتحليل والملاحظة عن بعد. والفئة الثالثة هي العريس والعروس اللذان جاء ليحتفلا بزفافهما مع أفراد معدودين على اليدين من اسرتيهما والمقربين جداً، والغرض من ذلك استثمار الموازنة المخصصة للحفلة بأفضل شكل ممكن، فهما يدفعان قيمة تذاكر الأفراد العشرة، مع اصطحاب كاميرا تسجل محتويات البوفيه المفتوح، ووجوه الحاضرين، مع العريس والعروس، ويبدو الزفاف بعد تحميض الفيلم كأنه زفاف أسطوري. والفئة الرابعة والأخيرة هم المصريون العاملون على متن المراكب من نادلين وعمال وعاملات وطهاة وغيرهم من المتأرجحين بين النظام العالمي الجديد و"توازن الرعب النووي وسياسة الحرب الباردة". وهم الذين يعيشون بصفة يومية في هذه البيئة من اختلاط الجنسيات والقيم والموسيقى والطعام على مجرى النيل منطلقين من الزمالك أو التحرير إلى المعادي وبالعكس ثلاث أو أربع مرات يومياً. أما المراكب نفسها - مع اختلاف الاسماء سواء المفهومة مثل "فرعون النيل" وغير المفهومة مثل "أونيكس" و"توباز" - فأغلبها مجهز تجهيزاً فاخراً مزركشاً، مع الحرص على إبراز عنصري الفخامة والعظمة. ويكسو الزجاج قاعة الطعام الرئيسية من الجانبين كاشفاً عن المنظر الخلاب لنهر النيل، أما التنظيم فهو شبيه بأي مطعم فاخر مع تخصيص مكان للبوفيه المفتوح، ومكان ظاهر للفقرات الفنية، وهنا مربط الفرس. يبحر المركب من مرساه في رحلته المعتادة، ويبدأ البرنامج بفتح بوفيه السلاطة المفتوح، وواضح أن كلمة "سلاطة" تنطبق على البوفيه شكلاً وموضوعاً، فهي ليست مجرد خلط للمواد الغذائية من خيار وطاطم، أو بنجر شمندر وخل ومقتونس بقدونس، أو باذنجان وطحينة وزبادي لبن، لكنها تمثل عدداً من بلدان كوكب الأرض في النظام العالمي الجديد. فهذه تبولة لبنانية أصيلة، وهناك لحم التونة بالخيار والطماطم ذات الخلطة الروسية المشهورة، وتلك الخس مع الخيار بالصوص الصلصه الفرنسي المعروف، أو بالتوابل الإيطالية الشهية، ناهيك عن السلاطة البلدي "المصرية" بمحتوياتها من خيار وطماطم وبصل وثوم مقطعة قطعاً منمنمة. وتبدأ الفقرات الفنية، شأنها شأن وجبة العشاء، بداية تدريجية، و"باند غربي" هي كلمة السر، أربعة أو خمسة عازفين بين أورغ وغيتار وكي بورد، ودرامز، جميعهم من المصريين في سن يتصاعد من العقد الثاني وحتى العقد السادس من العمر، وتغلب على وجوههم جميعاً، من دون مبالغة، مشاعر معقدة، يمكن وصفها في أغلب الأحوال ب"عزيز قوم ذل". فهذا خريج معهد كونسرفتوار كان يعتقد أن عالم الموسيقى سيستقبله بالورود والرياحين فاتحاً أبوابه عقب تخرجه، فإذ به يفاجأ أنه عالم دون باب من الأصل، وذاك "خنفس" قديم، تبوح معالم وجهه بالفرق الموسيقية التي شارك فيها في الستينات، والدول الأوروبية التي جال في ضواحيها في السبعينات، والملاهي الليلية التي طاف عليها بعد عودته منهزماً في التسعينات، وأخيراً "عزيز قوم ذل" مع "تحديات الألفية الجديدة". وقصص وحكايات لا أول لها ولا آخر، لا يقطع تسلسلها سوى صوت المطرب والمطربة وغالباً تنتمي الأخيرة إلى جنسية غير مصرية، مع مطرب مصري اختصاصه الأغاني الأجنبية. ويفصح النظام العالمي الجديد عن أحد عناصره مع بدء الوصلة الغنائية، وذلك بنجاح المعدات متقدمة التقنية في الشوشرة على صوت الغناء. ولا يكاد يسمع سوى الموسيقى، ونسبة كبيرة منها الكترونية، أي أنها لا تكون في حاجة إلى العنصر البشري. وبينما تتحرك محتويات السلاطة متعددة الجنسية من البوفيه إلى الأطباق ومنها إلى معدات جمع معدة الزبائن، يشدو المطرب والمطربة بما يحفظانه من أغانٍ أجنبية، أغلبها إنكليزي، واتباعاً للمثل الانكليزي القائل "OLD IS GOLD" فهما يشدوان بأغاني الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات إلى أن ينتهي الحضور من السلاطة، ويكونون مستعدين للطبق الرئيسي من اللحوم الحمراء أو البيضاء. وهنا، تبدو ملامح قرب وصول الراقصة الشرقية جلية، ويتحول "الباند" من غربي إلى شرقي، ويظهر المطرب المصاحب للراقصة، وهو غالباً يتسم بصوت سيء، أو قل يفتقد إلى السلاسة. وتعلن أصابع عازف الطبلة بدقاتها المتلاحقة عن دخول الراقصة، وهي غالباً روسية، جميلة الملامح بيضاء، شعر أشقر، وعينان ملونتان، لم تفلح الساعات الطويلة التي تمضيها في مشاهدة شرائط فيديو الرقص الشرقي لأباطرته من أمثال تحية كاريوكا، وسامية جمال، وسهير زكي، ولوسي، ودينا في النيل من سحرهما. تعاقد أحد تلك المراكب مع راقصة روسية تتمتع بكل المقومات السابق ذكرها بالإضافة إلى قوام مصري، فهي ممتلئة امتلاءً واضحاً، مع "كرش" غير ضئيل، وتثير هذه الراقصة في كل ليلة تساؤلات عدة بين الزبائن المصريين الذين ينقسمون فريقين: الأول يؤمن بأنها روسية لأن "جمالها بارد"، والثاني يجزم أنها مصرية لأنها "ذات كرش" ويقطع النادل الشك باليقين قائلاً: "هي روسية". وتعلن راقصتنا الروسية رسمياً عن انتهاء سياسة الحرب الباردة، فتتوجه بخفة لا تخلو من حرص على المياعة والدلع، وكلاهما يعضد موقفها، إلى طاولة تجلس عليها مجموعة من السياح الاميركيين، وتسحب أحدهم سحباً إلى "البيست" وتجبره على الرقص معها، والمسكين يبذل جهوداً خارقة ليهز وسطه ويحرك كتفيه أسوة بها، وينجح الاثنان في الإعراب عن أن "سياسة توازن الرعب النووي" دخلت سجل الماضي حين تصمد العصا المثبت أحد طرفيها على بطن السائح الاميركي والطرف الآخر على "كرش" الراقصة الروسية دون أن تهوي إلى الأرض حتى نهاية الوصلة ويصفق الجميع. وتهرع الراقصة لتغير البدلة الساخنة بأخرى أكثر سخونة وتعود ليخبرها رئيس النادلين أن أحد السياح اليابانيين الحاضرين يحتفل بعيد ميلاده، ويتكرر السيناريو، لكن الياباني صاحب عيد الميلاد أكثر اجتهاداً من سلفه الاميركي، الذي اثقلته شحوم الهامبورغر وأكواب المياه الغازية العملاقة في بلاده، ومنعته من الاتقان، وبقوامه الممشوق الرياضي، يبذل السائح الياباني كل ما في وسعه للقيام بالعمل الذي طُلب منه على أحسن وجه، إلا أن العصا التي وضعتها الراقصة على رأسه سرعان ما تقع على الأرض، ويعود إلى طاولته وهو سعيد بالتجربة. ويصفق الجميع، لا سيما مجموعة كبيرة من السياح المنتمين لأحد بلدان النمور الآسيوية الذين لم يألوا جهداً في تصوير الراقصة من جميع الزوايا بكاميراتهم الرقمية التي لا تخلو منها يد أحدهم. ويدور المركب عائد إلى مرساه، ليسارع النادلون بتبديل أطباق اللحوم بالحلو، وهناك اختيارات: أم علي وهي وصفة مصرية لعجائن مشبعة بالزبد واللبن والزبيب والمكسرات المفعمة بآلاف السعرات الحرارية واشيع أن الراقصة أسرفت في تناولها، وهو في الأغلب الاختيار الذي يعود إلى أيام الحرب الباردة، عكس الاختيار الثاني وهو سلاطة فواكه تكاد تكون خالية من السعرات وغنية بالفيتامينات. ويرسو المركب بعد ساعتين ونصف ساعة استمتع فيها الحضور بالغناء والرقص والطعام ومتابعة وتحليل أحوال البشر، والموازنة بين عصور مضت وحاضر لم تحدد معالمه بعد. ولا تكلف تلك الرحلة المتخمة بغذاء العقل والمعدة سوى نحو مئة جنيه مصري للفرد للعشاء، تنخفض إلى نحو 65 جنيهاً للغداء لكنه يخلو من الراقصات الروسيات بكرش أو من دون، وتصل إلى أدنى حد لها في رحلة الغروب وهو نحو 30 جنيهاً، وهي تقتصر على رؤية قرص الشمس وهو يختفي مع فنجان شاي وقضمة كيك.