على بعد 500 كلم من القاهرة، وعلى شاطئ البحر الاحمر تقع تلك المدينة الصغيرة التابعة لمحافظة البحر الاحمر، وصاحبة الفضل في وضع المحافظة برمتها على مكاتب المسؤولين ورجال الاعمال والمستثمرين وراغبي قضاء اجازة بعيداً عن صخب المدينة الكبيرة. تلك المدينة كانت يوماً قرية ضئيلة يعتمد سكانها على صيد الاسماك، وقلما جذبت غريباً اليها بغرض السياحة أو حتى حب الاستطلاع، لكن هذا الوضع لم يكن ليستمر طويلا، وإلا كان ظلماً بيناً، فتلك الشواطئ الممتدة ذات مياه صافية، وشعاب مرجانية، وأسماك ملونة، وهواء نقي، والأهم فيها الطبيعة التي لم يتمكن البشر من إفسادها بعد. الغردقة، نموذج متفرد في عالم السياحة يصعب ان تجد مثيلاً له في أي مكان في العالم، ليس فقط لجماله لكن لتناقضاته وايضاً الجوانب السلبية فيه التي لم تفلح في الإطاحة بالغردقة من على الخارطة السياحية. وشهدت اواخر السبعينات من القرن الماضي بداية خروج الغردقة الى النور، وايضاً بداية المشاكل، ففي أقل من عشر سنوات تحولت تلك القرية المنزوية المنسية ذات البيوت المتناثرة الأشبه بعلب الورق المقوى الى غابة من المباني والفنادق التي هي خليط من الطراز الاوروبي والعربي والمملوكي والاسلامي، والهندي، والصيني، وظهرت على هيئة 20 كم من الفنادق والقرى السياحية على شاطئ الغردقة، ناهيك عن المئات الاخرى الموجودة في الداخل. ونجحت الغردقة، وبسرعة صاروخية، في أن تجد لنفسها مكاناً في مجلات السياحة العالمية ومنشوراتها باعتبارها منتجعاً سياحياً متميزا لهواة البحر ورياضاته، والطبيعة ومحبيها وأدى ذلك الى أن أضحت وجهة دائمة للطيران العارض، لا سيما القادم من إيطاليا وألمانيا وروسيا. وجذبت الغردقة عدداً من مواطني تلك الدول للإقامة فيها، لا سيما النساء الالمانيات صاحبات الأفكار لإقامة المشاريع السياحية المناسبة للمنطقة، وهناك حالياً الكثير من مراكز الغوص والغطس المنتشرة في القرى السياحية والمملوكة لأجنبيات، كما هناك عدد من القرى السياحية والفنادق التي تديرها ألمانيات، هن في الغالبية زوجات لمصريين. وساهمت تلك الظاهرة في إقامة خطوط اتصال مباشرة بين الغردقة والغرب، لا سيما المانياوإيطاليا، وسهل ذلك أمر تنظيم الافواج السياحية القادمة للسياحة في الغردقة على متن خطوط الطيران العارض، وهناك الآلاف من السياح الألمان، والايطاليين والروس الذين أتوا لزيارة الغردقة غير مرة، لكنهم لم يزوروا القاهرة مرة واحدة. ونعود إلى السياحة نفسها أو العطلة التي يمضيها السائح في الغردقة، وهي تقدم تنويعة كبيرة من أماكن الإقامة، بدءاً بفنادق وقرى الخمس نجوم الفاخرة، ومروراً بفنادق النجوم الثلاث، وانتهاء بالمخيمات وبيوت الشباب الرخيصة جداً، وإن لم تكن سيئة. وتعاني الغردقة حالياً من تخمة فندقية، وهي إلى زيادة، فرغم العدد الهائل من القرى المتراصة، لا يبدو أن حركة البناء والاضافة الى طاقة الغردقة الفندقية تتوقف، وتشير تقديرات الى وجود نحو 120 فندقاً في الغردقة، وليست مبالغة لو قلنا ان العدد يزيد من شهر إلى آخر. أماكن الاقامة الاكثر رواجاً هنا هي القرى السياحية المغلقة، وهي تلك "المنتجعات" واسعة المساحة، والمطلة على البحر مباشرة متمتعة بشاطئ خاص وعدد من حمامات السباحة ومجموعة من المطاعم والبارات والنوادي الليلية، ومراكز الغطس وتعليمه، ومجموعة من المحلات التجارية كذلك. واغلب الافواج السياحية القادمة على متن الطيران العارض يقيم في تلك القرى السياحية التي تقدم لهم العوالم الثلاثة المطلوبة: الغطس، والشمس، والطعام، بالاضافة طبعاً الى مكان للمبيت. كما تشيع تلك القرى بين المصريين الذين وجدوا في الغردقة في السنوات القليلة الماضية بديلاً للرحلات الى خارج مصر، وإن كانت لا تقل كلفة عنها في اغلب الاحوال، فمتوسط كلفة اقامة الفرد المصري في غرفة مزدوجة في قرية اربع نجوم نصف اقامة لمدة اربع ليالي بالاضافة الى تذكرة الطائرة من وإلى القاهرة لا تقل عن 900 جنيه مصري، وهو المبلغ الذي يوازي رحلة الى تركيا أو لبنان أو سورية للفترة نفسها بالطائرة. كذلك تسعى الغردقة الى توسيع شعبيتها لدى السياح العرب، لا سيما القادمين من منطقة الخليج، إلا أنه سعي بطيء لم يسفر عن أعداد كبيرة من القادمين اليها من دول مثل الكويت، والامارات، والسعودية، رغم أن الاخيرة يمكن الوصول اليها بحراً في رحلة على متن العبّارات اليومية. والاقامة في اغلب قرى الغردقة السياحية لها ميزة تعد في الوقت نفسه عيباً فهي تنقل السائح الى عالم صغير ينتهي عند بوابات القرية، ولذا فإن السياح الذين لا يبرحون قريتهم لا يمكن ان يطلق عليهم أنهم زاروا مصر. فالقرية تقدم مثلاً إمكان التدريب على الغطس في دورة خاصة يحصل بمقتضاها المتدرب الذي يجتاز الاختبارات بنجاح على شهادة معتمدة عالميا، ويتكلف ذلك نحو 300 دولار اميركي، ويمكنه بعد ذلك استئجار ادوات الغطس بكلفة نحو 20 دولارا يوميا. ورغم ان الغالبية العظمى من المقبلين على مزاولة وتعلم رياضة الغوص من الاجانب من غير العرب، الا ان اعداداً متزايدة من الشباب والشابات المصريين بدأوا يزاولونها في السنوات الاخيرة، وهم يأتون الى الغردقة في رحلات موسمية لممارستها. ويقدم اغلب القرى خدمة استئجار معدات الرياضات البحرية من انزلاق شراعي و"جت سكي". وتراوح كلفة استئجار المعدات في اليوم الواحد لإحدى هاتين الرياضتين بين 50 و60 دولاراً اميركياً. ويقال إن الغردقة جنة هواة الصيد، وهنا يجد محبو الصيد مختلف انواع المراكب واليخوت ومعدات الصيد للايجار، ويمكن تنظيم رحلات صيد لأيام عدة في عرض البحر. كما تحوي الغردقة عدداً من الجزر القريبة، اشهرها جزيرة الجفتون، وتنظم لها رحلات بحرية يومية تستغرق بين ثلاث وسبع ساعات، ويمكن الاستمتاع بمشاهدة المخلوقات البحرية فيها مع وجبة غداء من السمك المشوي الطازج الذي يعده القائمون على الرحلة. وانتشرت ظاهرة جديدة على شواطئ القرى والفنادق السياحية في الاشهر القليلة الماضية، تتمثل في شباب مصري يعرض خدماته لرسم الوشم على أجزاء الجسم المختلفة، كذلك لعمل الضفائر الافريقية. ويقبل السياح عليها في شكل ملحوظ، فتجد أسرة بأكملها تخضع لعملية رسم بالوشم، وتراوح اسعار الوشم تبعاً لحجم الرسم، ومدى دقته، وفترة بقائه، فهناك الرسم الذي يدوم شهرا، أو ثلاثة او ستة اشهر وجميعها يخضع للتفاوض، فقد تبدأ المماكسة بمئة دولار وتنتهي عند عشرة دولارات. وكل الاسعار في الغردقة تميز بمرونة عالية، ويخضع لنظريات اقتصادية لا يفهمها سوى اصحاب الاستثمارات السياحية فمثلاً الاسعار المقررة على الرياضات البحرية يمكن ان تخفض الى النصف لو كان الزبون مصرياً، لكن اسعار الاقامة في الفنادق للافواج السياحية الآتية من الخارج أقل بكثير من تلك المفروضة على المصريين. وللعالم الاصطناعي الذي تقدمه القرية السياحية ميزة لعميلها الذي يصحو من نومه، ليفتح نافذته المطلة على البحر أو على حمام السباحة، ثم يتوجه لتناول الافطار، ويذهب في رحلة صيد يعود منها بعد الظهر ليستريح بعض الوقت، ثم يتناول العشاء، ويمضي ليلته يتفرج على رقص شرقي في تلك الخيمة، أو فرقة روسية في ذلك الملهى، إلا أن العالم الذي ينتمي اليه خارج القرية مختلف تماما. فالمدينة نفسها، ورغم جهود الانقاذ التي تبذل فيها، لا يمكن ان توصف إلا بالعشوائية ونبدأ بسيارات الميكروباص التي تمر على القرى ومنها الى وسط المدينة لنقل العاملين ومن يرغب من السياح، وهي جزء لا يتجزأ من مافيا الميكروباص التي تعاني منها العاصمة القاهرة، قيادة مجنونة ومحطات غير ثابتة، وسباقات حامية بين سائقيها لكسب اكبر عدد ممكن من الركاب من دون مراعاة لأدنى قواعد المرور. وتصل الى وسط المدينة لتجدها خليطاً غريباً، عمارات سكنية حديثة طليت بكل ما هو فاقع من الألوان: الفستقي والبمبي والزهرى، ارتفاعات متفاوتة، وطرز بناء لا تخضع لأي مقاييس جمالية أو حتى متناسقة، أما المحلات التجارية، فترتفع فوقها لافتات بلغات اجنبية بأسلوب ركيك ومعظمها بالالمانية والروسية، محلات ذهب، و"تي شيرت" قطنية مطبوعة، ومحلات سوبر ماركت صغيرة تنبهت الى فحش أسعار زجاجات المياه والمشروبات الغازية في القرى، فضاعفت اسعارها لتبقى رغم ذلك اقل من مثيلاتها في الفنادق، وهناك كذلك عدد من المقاهي والمطاعم، إلا أن المدينة تفتقد الى نكهة خاصة بها. وأغلب الظن ان ذلك يعود الى قلة عدد سكان الغردقة الاصليين مقارنة بالوافدين فأغلب المصريين - غير السياح - في الغردقة من سكان قنا، وهي أقرب مناطق مصر الى الغردقة، إذ وفدوا إليها للعمل في بناء الفنادق والعمل فيها، كما تحفل الغردقة بمصريين من القاهرة والاسكندرية والمنصورة والزقازيق وبورسعيد وغيرها من مدن المحروسة من شباب، وعدد من الفتيات الذين يعملون في كل ما يتعلق بخدمات السياحة، بدءاً بعمال نظافة الغرف، ومروراً بموظفي الاستقبال والعلاقات العامة، وانتهاء بالمديرين المقيمين. وتراوح مستويات العاملين المصريين تبعاً للمكان الذي يعملون فيه فالغردقة تحوي قرى تابعة لاغلب كبار الاسماء في عالم السياحة والفندقة من "ماريوت" و"شيراتون" جنباً الى جنب مع المخيمات وبيوت الشباب التي لا تتعدى كلفة الاقامة فيها مع وجبة الافطار عشرة جنيهات مصرية للمصريين، ونحو خمسة دولارات - وأحياناً اقل - للاجانب. وقد تسببت عشوائية البناء - سواء المساكن أو الفنادق - في مشاكل بيئية عدة في الغردقة، من تجريف الشاطئ، الى تعرض الكثير من الشعاب المرجانية للتلف، إلى التلوث البصري لانعدام التناسق، وطالبت أصوات عدة باتخاذ الغردقة نموذجاً لا يجب الاحتذاء به في تعمير المناطق السياحية الاخرى الكثيرة التي تحفل بها مصر والتي تنوي السلطات وضعها على خارطة السياحة العالمية. يذكر أن تقريراً اميركياً صدر أواخر التسعينات حذر من تدهور الوضع البيئي مع استمرار النمو العشوائي المفتقد الى التخطيط والذي قلل من قيمة المنطقة خلال عقد مضى. ورغم عشوائية البناء، "وكوزموبوليتانية" البشر، وارتفاع الاسعار للمصريين وانخفاضها للاجانب، فإن الغردقة من الاماكن الخلابة التي تقدم بعضاً من كل شيء: شواطئ، وطبيعة يعجز الرسام الماهر عن نقلها، وترفيه نهاري وليلي، واماكن للعب الاطفال، واستجمام الكبار، ومرح الشباب. هي إذن أهل بالمشقة التي ستتكبدها إذا زرتها قادماً من القاهرة 500 كم مستقلاً الباص لمدة سبع ساعات أو من الاقصر لمدة خمس ساعات، لكن الباصات مريحة ومكيفة والطريق خضع لتحسينات وعمليات تطوير وتوسيع عدة في السنوات الاخيرة. كما أن خطوط الطيران من والى القاهرة متاحة يومياً على متن طائرات مؤسسة "مصر للطيران".