الكتاب: الأعمال الكاملة - جزءان شعر الكاتب: علي الجندي الناشر: دار عطية - لبنان، سورية 2000 لا تعيش قصيدة سورية كصدى لروح شاعرها، وكمرآة تختلج في عمقها نبضات حياته كما تعيش قصيدة علي الجندي، بسيطة تشابه إقباله النهم على العيش في شراهة من "سيموت غداً"، وطافحة بلغة تتراقص في مفرداتها خيبة كبرى من الوجود برمته... خيبة لم تكن - مثل خيبات الشعراء الآخرين - حكمة الشيخوخة وخلاصة العمر، بل هي على العكس من ذلك تماماً، إذ هي الاطلالة الأولى التي شاء لها ان تقدم "شهادته" الشعرية والروحية معاً على الحياة. كيف لا وقد اختار علي الجندي لمجموعته الشعرية الأولى عنواناً لافتاً هو "الراية المنكسة"، وكأنه يعلن منذ مجموعته الشعرية الأولى انسحابه الكامل والعلني من أية وشائج - حقيقية أو وهمية - مع أية رغبة في تحميل الشعر ما لا يطيق مما ليس منه من مهام خارجية تستدعيها الايدلوجيا حيناً، ورغبة الشعراء في الحصول على دور اجتماعي، لا تطيقه القصيدة الحقيقية ولا تبحث عنه. علي الجندي بمعنى ما، لم تتملكه الرغبة في رؤية ملامح وجهه من خلال التأمل في صورة المجتمع، بل ذهب في الاتجاه المعاكس، حين راح يقرأ صورة المجتمع في مرآة روحه، محتفلاً بخيباته الخاصة والصغيرة، بوصفها خيبات الحياة كلها... أوليست تلك الخيبات، خلاصات العواصف والنكسات وارتطامات الأفراح العابرة، بما في الجبال من صلادة، وما في الحروب من قتلى ودمار؟: "أضلّ من سنينَ في مجاهل البحار أموت ألف ميتة في رهبة النهار والليل عندما يهلّ من مغاور القفار، يلفني، برحمة الذهول، و... الدوار". بدايات علي الجندي الشعرية انطلقت من رؤية الشاعر لمحيط اجتماعي تعصف به هموم الوجود في بحثه عن توازن مع عالم يذهب نحو اللاتوازن، وكأن الشاعر في تأمله للحياة يرى بقع السواد وظلاله كما ترتسم في داخل النفس وفي المخيلة معاً، وهو إذ يكتب قصيدته ينحاز الى رغبة داخلية عارمة في التعبير عن اللحظة في ذاتها، فاللحظة في حالة كهذه هي صورة حيّة للحياة: "كلما اذنتِ الشمس على شباك بيتي بالمغيبِ رنّ ناقوس احتضار في فؤادي وتعرّت طفلة النوم من الثوب القشيبِ تلك أيام حدادي..." مجموعة علي الجندي الشعرية الأولى "الراية المنكّسة" أخذت أهميتها من انحيازها الكلي الى خطاب داخلي خافت النبرة، جاء غريباً - الى حدٍ بعيد - عن التيارات الشعرية "العاصفة" التي كانت تموج بها قصائد الشعراء الآخرين من مجايليه، خصوصاً أن تلك السنوات من الخمسينات قد شهدت انحيازاً شعرياً جماعياً لقصيدة "الالتزام"، لا بمعناها المتعلق باختيار الموضوعات، ولكن بحرص شعرائها على نبرة خطابية تتوجه نحو رنين الكلمات وايقاعها الخارجي الذي أوقع قصائد هؤلاء في التشابه وأبقى قصائدهم عند حدود برّانية لا تلامس جوهر الأشياء أو المشاعر، وهي مسألة يمكن ملاحظتها عند قراءة ما كتبه جيل الرواد. لحظة "الراية المنكسة" شعرياً هي لحظة انحياز الى جوهر الشعر حيث يذهب علي الجندي الى قصيدة لا ترغب في اشعال حرائق ما، قدر ما تسعى الى ملامسة حزن شفيف عند قارئ شديد الخصوصية. وبقدر ما يشكل حضور المرأة في شعر علي الجندي من بهاء، نراه يؤكد لنا ان المرأة التي يطلق هتافه باتجاهها هي مطلق امرأة. انها مزيج من لوعة الشاعر ومن قوة مخيلته، وهي أيضاً حضور حقيقي، تجسّده نساء حقيقيات، يراهن الشاعر في تجواله في المدينة: "في كل عرق من عروقك المتعبة الدماء يا مدينه أراه، يفترسني، يشدّني من الجفون يكاد يلقي بي الى غيابة الجنون يا أيها الجمال هزئت بي جعلتني أكفر بالانسان إن لم يكن جميلا أول - ولعله أهم - ما تشير اليه علاقة الشاعر علي الجندي بالمرأة، وما يمثله حضورها في قصائده، هو ان يتحدث عن المرأة ذاتها ولأجل ذاتها، أي انه بخلاف الكثيرين من مجايليه وزملائه لا يسعى لأن تكون امرأة القصيدة رمزاً لأي مسمّى آخر، كالأرض أو الوطن مثلاً، حيث يقدم الشاعر المرأة بوصفها نصفه الآخر، الطافح بالحب والانسانية والتي يشكل حضورها شرطاً وجودياً لحضوره. وبهذا المعنى فإن قصيدة علي الجندي تقترب كثيراً من اعتبارها تكثيفاً فنياً لحياة من لحم ودم، حياة تتراجع خلالها الصفات المعنوية المجردة - بما تشكله من اشارات رمزية - لصالح نبض يمكن الاحساس به، بل ورصده، وتأمل ما يبعث على الفرح والحزن فيه. هذه الملامح الأساسية في شعر علي الجندي نراها "في مجموعاته اللاحقة - "في البدء كان الصمت" و"الحمّى الترابية" و"قصائد موقوتة"، وهي مجموعات المرحلة الأولى من حياته الشعرية - وقد أخذت نضجها الفني الذي ساعد القصيدة أكثر على اقامة علاقة حميمة مع قارئها. ففي هذه المجموعات نلمح تنويعاً على اقانيم الشعر ذاتها، ولكن بمزيد من اتساع الرؤية الفكرية، واتساع الحدقة، وقدرة أكبر للمخيلة: "جرّحيني يا ابتسامات الطفولة مزقي أرضي البخيلة وأعيدي لمياهي العكرة صوتها المبحوح، رجيّ وجهها الطافح صمتاً لوّنيها وارحلي عن حوافي وحلها المنتصرة". هذا الاتساع في الرؤية، بما يحمله من انفتاح على المشهد الاجتماعي من خلال الذات، نراه في صورته الفنية الأعمق والأجمل في مجموعة الشاعر "الحمّى الترابية"، حين يستعيد علي الجندي شخصيته الشاعر "قطري بن الفجاءة"، ويسقط عليها همومه الفردية، التي هي أيضاً هموم المثقفين العرب. "الحمّى الترابية"، ظل من بين مجموعات علي الجندي الشعرية، أكثرها تميزاً على رغم انتمائه زمنياً الى مرحلة البدايات الابداعية للشاعر. وفي هذه المجموعة كتب الشاعر رؤياه لدور المثقف العربي انطلاقاً من لحظة مكللة بالسواد، يعبر عنها الشاعر في رباعيات متتالية، تحمل في معظمها شعوراً عالياً بخراب الواقع: "تبتهل الأرائك الغبيّه بأذرع من خشب طريه لليّل للكواكب القصيه لعلّه يدثّر الحريه!" "الحمّى الترابية" اذا شئنا الدقة قصيدة واحدة وإن تعددت أناشيدها، وما يجمع هذه الأناشيد، يتجاوز "وحدة الموضوع" الواحد الى اطار فني يحمل وشائج متشابهة يمكن من خلالها رؤية العالم الواقعي الذي ينطلق منه الشاعر، ويمكن كذلك ملاحظة الاتكاء الجميل على الهواجس الفردية للتعبير عن واقع عام. الهاجس الفردي هنا؟ هو أكثر من مجرد هاجس عابر... إنه الوقوف على الحدود الفاصلة بين عالمين، يذهب أحدهما نحو موتٍ حتمي، وآخر ينبعث من الرماد ويسكن روح الشاعر وروح القصيدة على حدٍ سواء. إنه حلم الشاعر في عالم أكثر جمالية، ولكنه ليس حلماً ساذجاً يمكن ان يلوح بين السطور في خيلاء عابثة، بقدر ما هو حتمية تقررها حالات الموت التي تعيشها صور الواقع الراهن. قصيدة علي الجندي في "البحر الأسود المتوسط" الديوان اللاحق للحمى الترابية نراها تقترح فضاءات شعرية أكثر رحابة، تتسع خلالها الرؤية، من خلال اعتماد الشاعر صنيعاً شعرية أكثر حرية على الصعيد الشكلي، ومن خلال الميل بوضوح أشد الى وصفية تتجاوز الوصف الإحادي الى محاولة الاقتراب من مشهدية شعرية متعددة الأبعاد: "هو البحر: دمدمة وصهيل مع الموج، تيه على الموج، زوبعة وهدير وبرق... وأشباح قافلة من أناس خفيين تطفو على الماء". أعتقد ان تجربة علي الجندي الشعرية قد اكتملت في صعودها منذ هذه المجموعة الهامة "البحر الأسود المتوسط"، ورأيناها بعد ذلك في المستوى ذاته في مجموعتيه اللاحقتين "بعيداً في الصمت، قريباً في النسيان" و"صار رماداً"، وهو ما لم نره في المجموعات الأخرى، التي جاءت في تقديرنا أقل فنية من سابقاتها. تجربة علي الجندي الشعري عموماً، تكتسب أهميتها من إتكاء الشاعر على ما هو شعري بالضرورة، ومن ابتعاده المقصود - والموفق - عند اسناد الشعر، بما ليس منه، فعلي الجندي في شعره كله، فارق الخطاب الرنّان، وإن لم يبتعد عن هموم الأمة، بل حاول أن يعبّر عن هذه الهموم من خلال شاشته الخاصة، التي ترى وتصور وتعيد بث ما تراه.