الكل بات يقرّ بهشاشة ما آلت اليه الأوضاع في لبنان. الخطاب الرسمي نفسه بات يجد صعوبة بالغة في استعادة معزوفته الانتصارية المتغنية بالتماسك، والنهوض، وفرح الناس. بعد طول مكابرة، يضطر هذا الخطاب للاعتراف باستفحال الأزمة السياسية، تماماً كما اضطر في الأمس القريب للاعتراف بهول الأزمة الاقتصادية. الا انه ليس هناك ما يشير، حتى الآن، الى ان الاعتراف الرسمي بالأزمتين يمكنه أن يؤسس لمعالجة جدية وشاملة تنطلق من واقع التلازم بينهما، ومن قراءتهما في اطار جامع. فهذا الاعتراف لم يصدر من عملية تفاوض سياسي داخلي بل جاء كمؤشر للانتقال الى طور جديد من عملية تصدّع السلطة المحلية والشكل الانتدابي من العلاقات اللبنانية - السورية. وهو شكل بات تجاوزه شرطاً أولياً لانقاذ هذه العلاقات، ولاطلاق امكانات المعالجة السياسية والاقتصادية في لبنان. بقدر ما يتعذر اختزال كل ما يعانيه لبنان في هذه العلاقات، تتعذر معالجة أي مشكلة يعانيها لبنان من دون معالجة المشكلة المركزية التي تعانيها هذه العلاقات. لا يعني ذلك ان السبب الرئيسي لما يعانيه الاقتصاد اللبناني يختزل في مشكلة اغراق البلد بالعمالة أو البضاعة السوريتين، وانما في ما تفرضه "علاقة الرعاية"، وبالذات في مستواها السياسي، من شلل في مجالات الحياة الاقتصادية اللبنانية، بما في ذلك مجالات التكامل الاقتصادي اللبناني - السوري. بعبارة أخرى، لا يمكن ان يجد لبنان وظيفة اقتصادية معينة له طالما انه محكوم بهذه العلاقة المتصدّعة. وطالما لم تتوافر الجرأة السورية المناسبة للانتقال من منطق المناورة مع دعاة السيادة الى منطق المبادرة التي من شأنها، وحدها، تجاوز العلاقة الراهنة الى علاقة قومية، مستقلة عن لعبة الطوائف اللبنانية، ومتفاعلة في شكل ايجابي مع مستلزمات الوفاق اللبناني الداخلي، ومفضية من طريق الاقتناع المتبادل والمصلحة المشتركة الى نسج دائرة دفاعية استراتيجية تنجز في اطارها عملية اعادة انتشار القوات السورية. وهي عملية تستدعي بالدرجة الأولى الكف عن التدخل في صغائر الأمور، وانهاء مظاهر الوجود الأمني في العاصمة السياسية للبنان. ان تجاوز العلاقة الراهنة الى العلاقة القومية هو السبيل الأوحد لانقاذ التحالف الاستراتيجي بين البلدين. في حين يؤسس استبقاء هذه العلاقة كما هي لتفكيك التحالف الاستراتيجي. فالأوضاع اللبنانية، على هشاشتها، لم تعد تخضع لأسر الزمن الدائري أو تسير في حلقة مفرغة. مخطئ من يعتقد ان الوضع يمكن ان يراوح مكانه، أو انه من الممكن استبقاء الوجود العسكري السوري الى ما لا نهاية، بتحويله الى مشكلة خلافية بين الطوائف اللبنانية. فالوضع يتغير جولة بعد جولة، ورصيد العلاقة الحالية الى مزيد من الاستنزاف. لسنا أمام وضع يخسر فيه الجميع، والمشكلة لا تكمن في ما تخسره العلاقة الراهنة من رصيد، بل في ما يخسره الدور الاقليمي لسورية جراء تلك العلاقة. وهذه حقيقة مقلقة ومؤلمة، لكل من يرى في سورية دعامة أساسية في الصراع العربي - الإسرائيلي. وبالتالي فإن الواجب القومي يستدعي تمكين سورية من انهاء انتدابها في لبنان، بدل ان ينهي هذا الانتداب تحالفها مع لبنان. وهذا الواجب القومي لم يعد يحتمل التأجيل، الى مرحلة "ما بعد شارون". انه من ضرورات مواجهة مرحلة شارون. من بوسعه ان يتصور، مزيداً من "التماسك" اللبناني في مواجهة ضربة شارونية، وبالذات ان جاءت الضربة تحت حجة الرد على عملية مستقبلية في مزارع شبعا، أو قل على "تحرك سياحي" عند بوابة فاطمة! ان مفهوم "الواجب القومي" ليس مفهوماً سحرياً، غيبياً، بل هو يفترض المصلحة، والملموسية، والارتفاع الى منزلة الربط الدينامي بين ضرورة معالجة الملفات اللبنانية المتفجرة وبين التصدي المشترك للتحديات الاقليمية. بدلاً من ذلك كله، نرى مريدي العلاقة الانتدابية وهم يكتفون باستخدام "الظرف الشاروني" من باب تخوين كل من يطالب بانقاذ العلاقات اللبنانية - السورية، وتقسيم الساحة اللبنانية على نحو فظ بين انصار الانتداب السوري الشامل، وأنصار الانسحاب السوري الشامل، أو تقسيم الساحة المسيحية عبر عزل كيفي لخطاب البطريرك عن الجمهور المؤيد له، وتجزئة الجمهور بين من أمّ الصرح البطريركي لواجب راعوي كنسي، وبين من وفد اليه مدفوعاً بمواقف متطرفة لا شأن للبطريرك بها!! ان الظرف الشاروني يفرض نفسه على ملف العلاقات اللبنانية - السورية. بيد ان ما يفرضه هذا الظرف هو ضرورة المبادرة الى اسلوب معين من المعالجة، مرتبط بظروف المواجهة، وليس الى اسلوب معهود من الانفعال والتخوين يستنزف امكانات المواجهة. ان انصار علاقة الوصاية انما يفرّغون "الظرف الشاروني" من مضمونه النوعي ساعة يدرجونه في سياق الاستخدام المعهود. استخدام يحظر المناداة بالسيادة والديموقراطية والمطالب الاجتاعية، قبل التحرير، بحجة ان التحرير لم يتم، وبعده، لأنه جرى اكتشاف مزارع شبعا، ولأن العمل العسكري على جبهة المزارع لا يحتاج لأي اجماع وطني. وذلك بخلاف مسألة طرح ملف العلاقات واعادة الانتشار. بيد ان هذه المعادلات تنفجر من تلقاء ذاتها، فعدم طرح هذا الملف هو أكثر خلافية من وجوب طرحه كما ينص اتفاق، في أن مجرد مساءلة حزب الله في ما اذا كان يتقبل أي عملية في مزارع شبعا تقوم من دون علمه يظهر لنا حجم الفارق الشاسع بين قضية الجنوب، وقضية مزارع شبعا. فأي عملية تحدث، في مزارع شبعا، من دون علم حزب الله، يمكن ان تتهم علناً، من قيادة هذا الحزب، بالعمل لحساب اسرائيل. وبالنتيجة فإن قضية المزارع، وبتناسب عكسي مع مساحتها بالنسبة الى الشريط الحدودي، انما تأتي لتظهّر وتكبّر واقع الاعاقة الأساسية المتأتية من تلزيم المقاومة في بلد متعدد طائفياً الى حزب من دون سواه. تتمثل هذه الإعاقة في انها تلغي امكان ان تتمتع المقاومة في بلد تعددي بما يمكن ان تتمتع به أي مقاومة تجابه الاحتلال في بلد آخر، وهو امكان ان تكون المقاومة مقياساً للوطنية في بلدها. ان ذلك متعذر على حزب الله الذي لا يمكن لأحد من خارجه ان يتقبل فكرة ان هذا الحزب أكثر وطنية من كل ما عداه. وهذه الاعاقة تظهر في شكل آخر، حين ينظر السيد نصرالله الى المسائل الخلافية من باب طوائف الأكثرية وطوائف الأقلية، جاعلاً من الوجود السوري ضمانة للأكثرية من الأقلية. وهنا يلحظ تراجع توصيف الوجود السوري بالموقت، والتراجع عن ربطه بالأوضاع الاقليمية، وصولاً الى جعله "ممنوعاً من الصرف الى ما شاء الله". ان تعويل العلاقة الانتدابية على اختلاف موقف اللبنانيين منها بحسب طوائفهم يؤسس منذ اليوم لاعادة انتشار سورية وفقاً لخارطة طائفية، وليس وفقاً لضرورات التوحد اللبناني والسوري - اللبناني، تماماً كما ان تعويل هذه العلاقة على الرضى الأميركي هو رهن بتوكيلها وظائف لا تفيد كثيراً القضية العربية. ان ربط الوجود السوري بلعبة الأكثرية والأقلية يدخل هذا الوجود في دوامة خطرة، فهو إذ يستند الى عدم جواز تقرير الأقلية عن المجموع بالنيابة عن الأكثرية، يجعل من غير الطبيعي تواجد الجيش السوري في مناطق الأقلية، وهذا ما نخشاه: فريق يستقوي بالسوريين فيستبقيه، فتكون النتيجة انه يستبقيه عنده لوحده، فيما ينعتق منه الفريق الآخر، بكل ما يعنيه ذلك من انتقال شبه الدولة من حال التصدّع والتذرير الى الانهيار والاضمحلال. حين نص اتفاق الطائف على اعادة انتشار الجيش السوري في مهلة زمنية معينة، لم يكن هذا الجيش قد دخل بعد الى المنطقة الشرقية، كما حصل غداة عملية 13 تشرين الأول أكتوبر حين دخل الى "المتنين" وهي منطقة كانت خاضعة لسيطرة حكومة العماد عون. أما في ما يتعلق بالجزء الذي كانت تسيطر عليه ميليشيا القوات اللبنانية الأشرفية وكسروان - جبيل، فإن الجيش السوري لم يدخله سواء بعد حل الميليشيا لنفسها ودخولها في مشروع الدولة، أو بعد حظر الحزب المنبثق عنها واعتقال قائدها. اليوم، يرتدي الضغط المسيحي، موضوعياً، طابع "ضغط موضعي"، اي انه يستهدف بالدرجة الأولى، انسحاب السوريين من المناطق التي دخلوا اليها بعد عملية 13 تشرين الأول، أي بعد التاريخ الذي يؤرّخ الاحباط المسيحي ابتداء منه. ان الضغط المسيحي هو ضغط موضعي يمارس لانسحاب السوريين من المتنين، وخصوصاً من محيط القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، وهذا التحديد ورد بالحرف في بيان مجلس المطارنة في ايلول سبتمبر 2000، كما انه من المتعذر عزل هذا الضغط الموضعي عن الخطوة الأمنية الملتبسة في 14 آذار مارس المنصرم. من ناحية أخرى، يغلب على التحاليل المتداولة حول ظاهرة استقبال البطريرك تقويمها لجهة علاقة الخطاب بالحشد، والاعتدال بالتطرف، والحشد بالحشد المضاد. كل هذه التحاليل مبررة. ولكن ينبغي الالتفات الى ما تحمله الظاهرة من جديد، أي الى ما يميزها كظاهرة عن قبلها، والى ما يجعلها تؤسس لمعطى سياسي معين، وفي هذا الصدد، فإن ما حصل في بكركي، يشير الى بداية ظهور سلطة ظل وليس فقط مرجعية دينية - سياسية آخذة في التشكل والتبلور في المنطقة الشرقية، فلم يعد قمع التيارات المسيحية السياسية أمراً متيسراً بأدوات المرحلة السابقة نفسها، وبالتالي فإن هذه التيارات تفرض على السلطة قوانين اللعبة، فإن قمعت واجهت القمع باستبسال وجماهيرية، وان لم تقمع واصلت عملية استنزافها للعلاقة الانتدابية، وواصلت عملية تحويل سلطة الظل في الشرقية الى واقع عيني. قد يكون في ما تقول تصورات، وتخيلات، ونحن لا ننكر ذلك، ولكن من باستطاعته استبعاد تزايد "الضغط الموضعي" طالما ان التعاطي الجهازي هو سيد الموقف، وطالما ان استراتيجية هذا التعاطي الجهازي منقادة وراء عملية تهيئة الأجواء لمغامرة بونابرتية لا يمكن محاصرتها بغير تلازم وثيق بين قضيتي السيادة والديموقراطية.