دورةً تلو أخرى تتسع أرجاء "معرض أبو ظبي الدولي للكتاب" كفسحة للحوار واللقاء ليس بين القراء و"الكتاب" فحسب، وإنما أيضاً بين "الثقافات" العربية والناشرين العرب والمثقفين. وقد يكتسب المعرض فرادته في كونه منبراً عربياً بامتياز تلتقي عبره "الثقافات" التي حالت وتحول المتناقضات العربية دون لقائها. هكذا طغى الحضور الفلسطيني هذا العام على معرض الكتاب الدورة الحادية عشرة سواء عبر المعرض الفريد "مئة شهيد، مئة حياة" أم من خلال إطلاق مشروع "القدس في البال" الذي وجد المشرفون عليه الفرصة الملائمة في المعرض. أما العراق فلم يغب بدوره هذا العام، فحضر عبر مسرحية آتية من داخل "الحصار" وعنوانها "الجنة تفتح أبوابها متأخرة" وكذلك عبر عمل سينمائي وثائقي عنوانه "تقاسيم من بغداد" اخراج سايد كعدو. ناهيك بحضور أسماء عربية بارزة تعاقبت على إحياء الأمسيات والندوات ومنها: الشاعر محمد الفيتوري، الكاتب سمير سرحان مصر، الشاعر آدم فتحي تونس، الشاعر أحمد الشهاوي مصر... غير أن الطابع العربي لم يعنِ غياب الحضور الإماراتي، فالشعراء والكتاب والفنانون الاماراتيون حضروا عبر الأمسيات واللقاءات والأعمال المختلفة التي توزّعت طوال أيام المعرض 4 - 14 نيسان /ابريل، ومنهم: ناصر الظاهري، عادل خزام، خلود المعلا... علاوة على الاحتفاء بذكرى الأديب الراحل جمعة الفيروز. إلا ان الحدث الأبرز هذا العام تمثل في اعلان غياب الرقابة على الكتب. ولم يبدُ هذا الاعلان مجرّد شعار بل كان بادرة حقيقية أشاعت جواً من الارتياح في أوساط الناشرين والكتّاب والقرّاء. وتكفي جولة صغيرة على بعض الأجنحة المصرية أو اللبنانية أو السورية وسواها كي يتبيّن الزائر أن بعض الكتب الممنوعة عربياً معروضة هنا من غير افتعال أو صخب ومنها كتب: نصر حامد أبو زيد وحيدر حيدر وعبدالله القصيمي.... وإلغاء الرقابة على الكتب جعل الناشرين في حال من التفاؤل. فكتبهم تصل للفور ولا تخضع لحملات تفتيش وتحرٍّ. والمعرض الذي يقدم الكثير من الخدمات للناشرين العرب ويسعى دوماً الى شراء الكثير من كتبهم الجديدة من خلال المجمّع الثقافي قدّم لهم الفرصة السانحة لعرض ما يشاؤون من الكتب بعيداً من "عين" الرقابة. لكن الشرط الوحيد الذي فرضه جهاز الرقابة هو عدم ترويج الكتب المزوّرة أي التزام قانون الملكية الفكرية. أما "إلغاء الرقابة" فبات وشيكاً بحسب ما أعلن مدير ادارة الرقابة في وزارة الاعلام سالم سعيد العاوي. وهذا التوجه يتبناه وزير الاعلام والثقافة عبدالله بن زايد آل نهيان المعروف بانفتاحه على التحولات الحديثة في حقل الاعلام والثقافة. وهو يضع قضايا الانترنت والنشر الالكتروني والاتصال الفضائي في صدارة الشؤون الطارئة والتي تحتاج الى حلول سريعة. وقد قال خلال افتتاحه معرض "مئة شهيد...": "الكتاب سيزول في العقد المقبل، والسؤال: كيف نتعامل مع الكتاب الألكتروني بإيجابية؟". ولعل وزير الاعلام والثقافة لم يطرح مثل هذا السؤال إلا بعد تيقنه من المنافسة الشديدة بين الكتاب العادي والكتاب الالكتروني. علماً أن هذا الأخير لم يستطع أن يهدد الكتاب الورقيّ على رغم ما يُشاع عن سطوته ورواجه. واحتل النشر الألكتروني حيّزاً في معرض أبو ظبي من خلال "الموسوعة الشعرية" الالكترونية ومؤسسة "الورّاق" التي تنشر الكتب التراثية عبر الانترنت. النشر الالكتروني أما الموسوعة الشعرية فهي باكورة أعمال "المجمع الثقافي" في مجال النشر الالكتروني، وهي تهدف الى جمع كل ما قيل في الشعر العربي منذ الجاهلية وحتى العصر الحاضر، ومن المتوقع أن تضم أكثر من ثلاثة ملايين بيت. والمقصود بالشعر العربي، الشعر العمودي الموزون والمكتوب باللغة الفصحى. ويضم الإصدار الحالي من "الموسوعة الشعرية" زهاء مليوني بيت من الشعر موزعة على الدواوين الشعرية الكاملة لأكثر من ألف ومئتي شاعر في حين تتم الاضافة بمعدل مئة ألف بيت شهرياً، وروعي في تصميم الموسوعة الشعرية الشكل المتناسق مع سهولة الوصول الى المعلومة المطلوبة. ويمكن الزائر الإبحار ضمن النصوص الشعرية بسهولة ويسر. وأضيفت أداة مهمة الى الموسوعة هي علم العروض كي تساعد الزائر في فهم قواعد الشعر العربي. وضُمِّنت الموسوعة إضافة الى الدواوين الشعرية، أهم معاجم اللغة العربية لسان العرب، تاج العروس، الصحاح، كي يستطيع المستخدم معرفة معاني الكلمات المستعصية على الفهم نظراً لعدم استعمال بعضها في اللغة الحالية. أما مشروع "الورّاق" فهو مشروع ثقافي صرف وقد أُسس ليكون في طليعة المواقع الأدبية العربية على الانترنت. ويضم المشروع منجزات بارزة في حقول المعرفة منذ ما قبل الاسلام وحتى العصر الحديث. واللافت اختيار الاسم "الورّاق" الذي يدل على حرفة صناعة الكتاب التي تمرّس العرب فيها. لكنه "ورّاق" الكتروني وفي إمكان أي زائر له أن يطلع على أبرز الآثار الأدبية والمجلات الفكرية والرسائل والمخطوطات والمترجمات. ويصعب فعلاً تعداد ما يحوي هذا الموقع من آثار وأعمال في ميادين معرفية شتى. أما أهدافه فأبرزها: ربط جامعات العالم العربي والعالم ومراكز البحث المختلفة بمحتويات المكتبة العربية، عرض الثقافة العربية في واجهة عالمية بغية ادخالها العصر وانصاف حضورها بعدما غيّبتها عن العالم أعمال التعصب الديني والفكري والثقافي، مواجهة تحديات العولمة بالوسائل العلمية نفسها التي يستخدمها العالم، وفتح الباب أمام تفاعل الثقافات والحضارات، ورفع الغبن الذي تعرضت له الثقافة العربية، ربط العرب المهاجرين والمغتربين بالعرب المقيمين في بلادهم وفتح القنوات بين ثقافة عربية مقيمة وثقافة عربية مهاجرة، ربط المستشرقين والمستعربين في أنحاء العالم بالثقافة العربية، توفير المكتبة العربية لكل قارئ، سواء في الديار الإسلامية، أو في غيرها من الديار، وربط هؤلاء القرّاء بالثقافة العربية، ربط المشرق العربي بمغربه، وحل المشكلة المتمثلة في ضعف التواصل الثقافي بين جناحي العالم العربي ثقافياً وحضارياً. معرض... لا سوق قد لا يحتل معرض أبو ظبي المساحات التي تحتلها معارض الكتب العربية، فهو معرض صغير في حجمه واللجنة التي تشرف عليه تعمد الى انتقاء الدور المهمة في العالم العربي وذات المنحى الأدبي والثقافي والعلمي. فالمعرض ليس سوقاً تجارية والدور العادية لا تتهافت اليه والذريعة دوماً هي ضآلة المبيعات. ولم يتوان بعض الناشرين المشاركين عن التأفف من هبوط حركة شراء الكتب. فمعظم الزوار الذين يقصدون المعرض ليسوا سوى زوار عابرين، والمعنيون بالكتاب قليلون نسبياً. غير أن ما يعوّض عن هذه الضآلة في المبيع جو الحرية الذي يرسخه غياب الرقابة. فالناشر يشعر أنه قادر أن يعرض ما يشاء من كتب من دون أن يعاني المتاعب الكثيرة التي يعانيها في عواصم أخرى. غير أن الدول التي تشارك هذا العام في المعرض سواء مباشرة أم عبر ممثلين لها بلغت 33 دولة، وعدد الناشرين 415 والعناوين مئتي ألف عنوان، والنسخ المعروضة مليوني نسخة. إنها أرقام متواضعة نظراً الى أرقام معرض القاهرة مثلاً أو معرض بيروت. لكنها قد تكون كافية في ما تضم من جديد في عالم النشر ومن أصيل وحقيقي. فالمعرض انتقائي وزبائنه يعرفون جيداً ماذا يريدون. أما فرادة هذا المعرض فتكمن في الدراسة التي وضعها المجمع الثقافي عن "أحوال" الكتاب العربي خلال العام 2000. ولحظت الدراسة أمراً مهماً يتمثل في غياب الكتاب العلمي. فهذا الكتاب لا يحتل أكثر من 7 في المئة من مجموع ما نشر خلال العام 2000، ومعظم ما نشر ينتمي الى المناهج الدراسية كالزراعة والمحاسبة وبعض فروع الهندسة، علاوة على الحاسب الآلي. ويكاد ينعدم التأليف في مجال العلوم البحتة والتي تشمل: الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الكيمياء، علوم الأرض والحيوان، الاحياء. وما ينشر في هذه المجالات ليس إلا إعادة طبع لبعض المؤلفات التي صدرت قبل سنوات. أما كتاب الطفل فثمة تحسن نسبي في مستوى إخراجه. وأسهمت ثورة الاتصالات في إدخال أشكال جديدة إذ ظهرت بعض الكتب على اسطوانات مضغوطة أو أقراص مرنة، ويمكن القول إن ما طرأ على كتاب الطفل من تطوير تستفيد منه شريحة صغيرة من أطفال العالم العربي إذ ما زال أكثر من 60 في المئة من أطفال العالم العربي تحت خط الفقر. أما الكتب التراثية، فيقع معظمها في دائرة علوم الدين الاسلامي وبعض هذه الكتب أعيد طبعها وكانت ظهرت قبل أكثر من مئة عام من دون أن يعاد تحقيقها أو توضع فهارس لها اللهم إلا بضع محاولات نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي تشهدها البلدان العربية. وفي مجال معارض الكتب العربية التي أقيمت في القاهرة ومسقط والبحرين وأبو ظبي وبيروتوتونس والسعودية والأردن واليمن وسورية والشارقة والمغرب والكويت، يلحظ التقرير ان الكتاب العربي حقق بعض التقدم سواء في الاخراج أو في إقبال القارئ. لكن كل المعارض من دون استثناء تحتاج الى دعم حكومي لشراء المجموعات المتميزة من المطبوعات وإهدائها الى المكتبات العامة ومكتبات المدارس، تعويضاً عن ضعف الإقبال وضعف القوة الشرائية لدى مرتادي هذه المعارض، وتشجيعاً للناشرين على تقديم أفضل ما عندهم. مئة شهيد... من فلسطين أما الحدث الأبرز في البرنامج الذي يرافق معرض الكتاب فكان معرض "مئة شهيد... مئة حياة" وقد اتسعت له إحدى صالات المجمّع الثقافي. والمعرض ينظمه مركز خليل السكاكيني في رام الله وكان افتتح قبل أسابيع في المدينةالفلسطينية وجذب جمهوراً غفيراً من مواطنين عاديين ومثقفين وفنانين وصحافيين وجميعهم جاؤوا ليشاهدوا بضعة آثار تركها شهداء الانتفاضة الفلسطينية. وقد لا يكون أثر المعرض بالغاً في الداخل الفلسطيني مثلما يكون خارج الأرض الفلسطينية. أثر بالغ وأليم أن يندلع في وجدان المواطنين العرب أياً كانوا حين يشاهدون مثلاً حذاء الشهيد الطفل محمد الدرة أو قبعة الشهيد الفتى سلامة زيدات أو "شهادة" الفتى محمد تمام في "الحدادة واللحام" أو الدفتر المدرسي الذي تركه الشهيد أحمد صيام أو نظارات حسام بخيت أو... أو... إنها الأشياء الصغيرة التي كان يملكها شهداء الانتفاضة، تروي حكايات نضالهم وآلامهم، وتسرد قصص فقرهم وحياتهم العادية جداً وتكتب لهم تاريخاً آخر، تاريخاً حميماً وخاصاً جداً: حقائب، ملابس، أوراق، دفاتر، فرشاة أسنان، أحذية، نارجيلة، جوارب، مسابح، قبعات... وأقفاص هجرتها العصافير. أشياء وتفاصيل قد تكون عادية ونافلة لو لم يملكها أولئك الأبرياء والعزّل الذين حصدهم رصاص الجنود الاسرائيليين فسقطوا أطفالاً ونساء وكهولاً وفتياناً وشباناً... تقول عايدة العابدي التي تنتمي الى الفريق الذي نظم المعرض في رام الله: "تبلورت فكرة هذا المشروع في منتصف شهر تشرين الأول اكتوبر 2000، بعد مرور أسابيع على انطلاق انتفاضة الأقصى. واضافة الى الفكرة الأولى تبلورت كذلك رؤية للمعرض التكريمي والكتيب المصاحب له على أن يكونا مجردين في تصميمهما، وأن يؤكدا على قدسية الحياة، وأن يخاطبا بالأساس البصر والمشاعر. ولعل أحد أهداف المشروع كان استرجاع الشخصية المميزة لكل واحد من الشهداء، وحدِّد بعض الأسس لتنظيم المعرض وصوغ الكتيب. أولاً، أن يتم ترتيب الشهداء بحسب أعمارهم، ثم أن يكون لكل شهيد مساحته الخاصة به التي تحوي صورته وإحدى ممتلكاته الشخصية. تخاطب هذه الأغراض الشخصية الزائر مباشرة، تتخطى الموت وتسترجع الحياة. ونجح الفنان سمير سلامة في تجسيد هذه المفاهيم في تصميم موحد للمعرض، وذلك خلال اسبوعين من العمل المكثف والشاق. واستخدم صناديق عرض بلاستيكية شفافة تظهر شخصية كل شهيد. تعلو كل صندوق ورقة شفافة تحمل اسم الشهيد وصورة له بالأبيض والأسود. وللتأكيد على قدسية الأغراض المعروضة، قام بطيها بعناية وربطها بشريط من "الرافيا". في الوقت ذاته، صمم الفنان شريف واكد الكتيب، وخصص لكل شهيد صفحتين، وبين الواحدة والأخرى ورقة شفافة تغطي وجه الشهيد، تحاكي صناديق العرض الشفافة. وللتعامل مع الألوان المتعددة للأغراض الشخصية والصور، قررت مصورة الكتيب ايزابيل دي لاكروز أن تصور الأغراض باللون البني سيبيا وهو أصبح في ما بعد اللون الموحد للكتيب بأكمله. وقامت كذلك باختيار الأغراض التي ستعرض، ثم قام الفنان سمير سلامة بالخيارات النهائية. في البداية، كان من المخطط ادراج كل شهداء الانتفاضة في هذا التكريم، لكنه سرعان ما تبين أن اعداد الشهداء تتزايد. وعليه تقرر تحديد مجال التكريم بالشهداء المئة الأوائل، وهم يمثلون المناطق في البلاد بما فيها القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك المناطق الفلسطينية داخل الخط الأخضر. فتلقت كل واحدة من عائلات الشهداء رسالة شخصية توضح أهداف المشروع وقائمة منوعة من الأغراض الشخصية المطلوبة. كان من المفترض أن تستغرق مرحلة إعداد المشروع شهراً واحداً ولكنها استغرقت في الواقع ثلاثة أشهر ونصف بسبب الحصار المفروض على المدن الفلسطينية، مما جعل الوصول الى عائلات الشهداء عملية شبه مستحيلة. وعلاوة على الإغلاق فإن الألم الذي تعانيه هذه العائلات جعل من جمع المعلومات أمراً شاقاً للغاية. واستغرق هذا الجزء من الأعمال التحضيرية الوقت الأطول في عملية الإعداد كلها، فالمعلومات الجديدة ظلت محل بحث وجمع وإضافة وتدقيق، ثم خضعت النصوص لعملية تحرير وترجمة. ومع كل هذا، ما زال هناك بعض الشهداء الذين لم نحصل سوى على معلومات مختصرة جداً عن سيرتهم الذاتية. ونأمل أن نستكمل سيرهم في مرحلة لاحقة حيث ان هذا المشروع سيظل قيد التطوير". ولم يقتصر الحضور الفلسطيني على معرض "مئة شهيد..."، بل تمثل أيضاً في انطلاقة حملة "القدس في البال" وهي عبارة عن كرّاس يستعيد بالصور والنصوص تاريخ فلسطين ويثير قضية الانتفاضة. والكرّاس يتوجه الى الأطفال والطلاب والقراء البالغين أيضاً الذين عليهم أن يستخدموا الصور ليعيدوا رسم المشهد الفلسطيني تاريخياً وجغرافياً وحضارياً وثقافياً... وقدمت مؤسسة "ريحان" صاحبة المشروع الكرّاس بمقطع من قصيدة لمحمود درويش يقول: "هيا... تقدّم أنت وحدك/ فاصعد/ أيها القربان نحو المذبح الحجري، يا كبش/ الفداء - فدائنا... واصعد قويّاً". أما المقدمة والنصوص فصاغها زكريا محمد. مسرح عراقي وترسيخاً للطابع العربي استضاف معرض أبو ظبي ضمن البرنامج المرافق عرضاً مسرحياً آتياً من "الداخل" العراقي ولو من المنفى العراقي وعنوانه "الجنة تفتح أبوابها متأخرة". وبدا العرض منذ اللحظات الأولى شديد الدرامية قاتماً وحزيناً ونابعاً من قلب المأساة التي يرزح تحتها الشعب العراقي. لكن إغراق النص تأليف فلاح شاكر في الأدبية والانشائية واللفظية أوقع العرض في البطء وأثقل كاهل الممثلين واللعبة الاخراجية. وحاول المخرج محسن العلي والممثلون شذى سالم وجواد الشكرجي ورائد محسن أن يتحرروا من وطأة النص ولم يتمكنوا. فالنص أدبي أكثر مما هو مسرحي. وعمد المخرج الى اعتماد الحركة الدائمة داخل سينوغرافيا "معدنية" توحي بالمنزل الذي تدور فيه الأحداث أو اللقاءات وبالقسوة التي باتت تسم حياة العراقيين. إلا أن حركة الممثلين غدت على شيء من المبالغة والمجانية وكأنها تعاكس النص وتنفصل عنه. إنها قصة امرأة عراقية ذهب زوجها الى الحرب وطال غيابه كثيراً... وعندما عاد لم تتعرّف اليه، أو هي رفضت أن تتعرّف اليه، فحياتها لم تعد تتسع له... إنها الحياة - الجحيم، سواء في الجبهة حيث قضى الزوج أياماً وليالي من الخوف والوحشة والجنون أم في المنزل الفارغ حيث الزوجة تعيش على بقايا الذكريات أو في المدينة التي حلّ بها الخراب والجوع. وإن لم يكن العرض في حجم انتظار الجمهور الاماراتي والعربي له فهو يظل عملاً "مأسوياً" وحقيقياً طالعاً من أرض الألم والحصار. أما الفيلم الوثائقي "تقاسيم من بغداد" الذي أخرجه سايد كعدو ونظمت عرضه جمعية متخرجي الجامعة الاميركية - بيروت فرع أبو ظبي فكان أشبه باللحظات الجارحة والشاعرية التي أيقظت في نفوس المشاهدين الكثير من الألم والحزن تعاطفاً مع الشعب العراقي المقهور. واعتمد المخرج لغة اخراجية مرهفة تجمع بين التوثيق والسرد، بين الواقع والمخيلة على رغم صدق تلك اللحظات الأليمة التي عبّرت عنها الصور واللقطات. وكان المخرج أمضى أشهراً في العراق يجول بكاميراه على مشاهد البؤس والدمار التي يصعب وصفها حقاً.