يولد اليوم في مصر مخرج جديد متميز، هو خالد يوسف. ويبدو هذا واضحاً في فيلمه الأول "العاصفة" الذي اخترق به حاجز ممنوعات مليئاً بالأشواك السياسية على المستويين المحلي والعربي، هو موضوع حرب الخليج 1991 التي نتجت عن غزو قوات الجيش العراقيالكويت. والحكاية، في اختصار، تتلخص في أن شقيقين مصريين صار على كل منهما ان يوجه بندقيته الى الآخر وفي نهاية الفيلم، تأتي الهتافات التي يطلقها الشباب الجامعي ان على الأخ ألا يقاتل أخاه. هذا الهتاف قد لا يتضمن ما يتعلق بالعرب عموماً، بل في المقام الأول وربما فقط بشابين مصريين مجندين هما علي محمد نجاتي وناجي هاني سلامة، وهما ابنا حسن، أحد أبطال حرب أكتوبر، الذي أصيب في ساقيه أثناء احدى العمليات الفدائية عند ثغرة تشرين الأول أكتوبر 1973. وعندما شاهد حسن الرئيس الراحل أنور السادات يوقع معاهدة كامب ديفيد مع الإسرائيليين الذين جاءوا لرفع العلم الإسرائيلي في سماء القاهرة، خرج من المنزل مصاباً بالكآبة، ولم يعد اليه مرة أخرى. صار مفقوداً في المدينة، أشبه بالكثير من الجنود الذين فقدوا في أثناء الحرب. هو إذاً مفقود الحرب. انه موضوع بالغ الحساسية ذاك الذي كتبه وأخرجه خالد يوسف، من كان شارك يوسف شاهين كتابة سيناريو أعماله الأخيرة، خصوصاً "المصير"، و"الآخر" وساعده في الإخراج. عندما ترى هذين الفيلمين، قد لا تبدو مشاركة خالد واضحة، أو بالضبط لا نستطيع ان نعرف المساهمة التي قدمها الى أستاذه يوسف شاهين. لكننا هنا في "العاصفة" امام فيلم يخصه بالكامل، بدت فيه هويته، يقدم موضوعاً كلاسيكياً في اطار تقليدي، لكنه محكم جداً، يستطيع ان يهزك، وتحس انه تخلص كثيراً من المدرسة التي تربى فيها. صار له أسلوبه الخاص. الموضوع الذي بني الفيلم عليه، يمكن قراءة جذوره في الأساطير اليونانية، وخصوصاً اسطورة "روميلوس ورومانو" التي يكون على الأخوين فيها ان يحملا السلاح، كل منهما في مواجهة الآخر. لكن الاختلاف هنا، هو في مسألة السلطة. فالصراع على السلطة جعل ذلك الشقيقين يتقاتلان، وظهرت ملامح الشر عند أحدهما، فيما احتضن اخاه وهو يقتله. ومثل هذه المواضيع محببة كثيراً لدى المبدعين، ويقبل عليها الناس. لكن موضوعنا في "العاصفة" هو اننا أمام أسرة متماسكة في المقام الأول، الأب حسن الوطني عبدالله محمود، والأم هدى يسرا، وبعد رحيل الأب ليتيه في الأماكن، من دون ان نعرف عن مصيره شيئاً، تبدو الأم كأنها تزوجت ولديها. وتعيش الأسرة في شبرا. وتروي الأحداث في شكل تفصيلي الظروف التي عاشها كلا الأخوين، قبل ان تتم المواجهة عبر المختارة في ما بينهما. ويبرز ذكاء الفيلم في ان أحداثه انتهت قبل المواجهة الحتمية، وبدت هذه النهاية المفتوحة بمثابة اعطاء فرصة للمشاهد ليتخيل ما سيحدث بين ناجي وعلي عند المواجهة. ولأن المواجهة حدثت في التاريخ - ومعروفة مسبقاً بين الأشقاء الكبار - فإن المحزن هنا هو المواجهة بين ناجي وعلي. أمهما تتلهف عليهما، وهما فلذتا كبدها، بل ان هناك علاقة روحية بينهما، فأحدهما مطرب، والثاني ملحن. وقبل ان يسافر علي الى العراق، حذر أخاه من ان يقوم بتأدية أي أغنية أو عزفها، ان لم تكن من تلحينه، واتفقا على ان يتم ذلك من خلال مراسلات الأشرطة، وحصل ذلك فعلاً. ثم ان علي يرسم لنفسه "بورتريه" على لوح في المنزل، يبقى شاهداً عليه في منزله، خلال رحيله عنه. ونحن أمام فيلم قدري. فعلى الأخوين ان ينضما الى جيشين متصارعين، من دون ان يدريا ذلك. اي منهما لا يريد قدره، ف"علي" صدم بقصة حب احدى جاراته، وقرر السفر الى العراق بحثاً عن فرص عمل، وعلى رغم حصوله على بكالوريوس الهندسة، يقبل العمل في العراق في مهن صغيرة، ليدبر المال لأسرته، وهو الذي سيرسل من "أجر" معاناته ما يمكن أخاه "ناجي" من ان يشتري شقة ليتزوج حياة حنان ترك التي يحبها. وهذه التفاصيل لا بد من ان تتراكم، كي تترك أثرها في تخيل شكل المواجهة التي ستتم بين جيشين متصارعين: الأول انضم اليه "علي" طوعاً في البداية، والثاني تم تجنيد الأخ "ناجي" قسراً فيه باعتبار ان دوره في التجنيد حان. ويضعنا الفيلم امام ثلاثة مستويات من الدراما، فلكل من أفراد الأسرة التي تواجهنا قصة الأم هدى لا تزال شابة، تعمل مدرسة تاريخ، وتتسلل اليها مشاعر حب بطيئة مع زميلها المدرس الجديد محمود هشام سليم. ويحاول الفيلم ان يصور ان هناك ايقاع انسجام بينهما، اسوة بذلك الذي يربط بين الشقيقن. فكلاهما مدرس تاريخ، اي انه استوعب دروس التاريخ، بما تضمنت من حروب، وصراعات وسلطات. ومحمود أشبه بمدرس التاريخ في المسلسل الإذاعي "الرحلة" لصلاح حافظ 1970، حيث تم نقله ومعاقبته في وظيفته، لأنه درس التاريخ الحقيقي للتلاميذ، لا التاريخ المزيف مثلما هو وارد في الكتب المدرسية... وشتان ما بين منهاجي التاريخ للعامين 1970 و1989، حيث تدور أحداث فيلم "العاصفة". إذاً نحن أمام ايقاع خاص في العلاقات، ولم ينجذب الطرفان، هدى ومحمود، كل الى الآخر بسبب اختلاف الجنسين، رجل وامرأة، بل بسبب تقاربهما الثقافي الملحوظ. فحين تزور هدى رميلها في بيته، تسترعي انتباهها ضخامة المكتبة، وتطالع ديوان شعر تجده عنده، وهو أول ديوان كانت قرأته في حياتها، فأثر فيها كثيراً. نحن أمام ايقاع خاص للأبطال، وتقارب يشبه درجة التلاصق، والتوأمة. فإذا كان الزوج لمختفي حسن مناضلاً عسكرياً، وصاحب موقف سياسي في السبعينات، فإن محمود مثقف ينتمي الى الثمانينات، ويقف بقوة ضد ما يحدث من سوء حوله، ومن ذلك مناهضته المدرس الذي يعاقب تلاميذ يرفضون الذهاب الى دروسه الخصوصية، وأيضاً اعتراضه على ان يرسل الأشقاء العرب جيوشاً لمحاربة الجيش العراقي واخراجه من الكويت. ونحن هنا أمام فيلم موضوعي، لا تستطيع فيه ان تعرف من مع من بالضبط، لكنه ضد ان يقتل العربي شقيقه العربي، وضد ان يقتل الأخ أخاه، وهناك مشهد يبين كيف وقف علي لحماية عدد من رجال المقاومة الكويتية، حين اخفى وجودهم عن القائد العسكري العراقي. وفي الوقت نفسه، هناك مشاهد تكشف عن انسانية الشعب العراقي. فالرجل الذي عمل لديه علي تصرف معه، ومع زميل مصري آخر، على انهما من أسرته، والقائد الذي بدا جافاً، بحكم القانون العسكري، كان مجبراً على موقفه، لأن ما يفعله يتم بأمر القائد العسكري الأعلى. وأهم ما في الفيلم، بحسب رأيي، هو ذلك الايقاع المنسق في العلاقات، خصوصاً في قصص الحب، سواء بين محمود وهدى أو بين حياة وناجي. فالفتاة هنا، هي ابنة رجل له مكانته الاقتصادية والاجتماعية، في الوطن، هي وحيدته. وهو على رغم الجيرة القديمة بينه وبين أسرة حسن، يرفض في شدة ان يسلم ابنته الى شاب فقير، لا يصل الى مستواه الاجتماعي. هو يرى ان الحياة قسمان: المال الذي كونه، وابنته الباقية له لم نعرف أين الأم بالضبط. والفتاة حياة، ذات موقف نضالي، تتأثر بما يحدث في المجتمع، شأن الانتفاضة، وتشارك في حرق العلمين الأميركي والإسرائيلي في احدى التظاهرات، وتحضر الحفلات الغنائية ذات الطابع الوطني التي تقام في الجامعة، وتدفع حبيبها الى الهرب من الخدمة العسكرية، حتى لا يذهب لمحاربة أخيه في صحراء الكويت. المثير هنا اننا لسنا امام مواجهة بين الأخوة الأعداء، مثلما نرى في اعمال فنية عدة، ولكن بين التوأمين المتناسقين. وعلى رغم جسامه الاعتراض في المؤسسة العسكرية، يخبر علي قائده ان الكارثة ستحل، وانه قد يقتل أخاه، عندما تأتي الجيوش المصرية، مع التحالف الدولي. بل ان علي يجد نفسه محارباً في معركة "غير مجدية" يساق اليها سوقاً، ولا يمكنه التراجع، لأن مصيره ليس في يده ويحدث الشيء نفسه بالنسبة الى الأخ ناجي. وتدور أحداث الفيلم بين صيف 1989 وبداية 1991، اي من مرحلة التأهيل الخاص بدخول كل من علي وناجي معترك الحياة، وتنتهي عند تظاهرات الطلاب في شباط فبراير 1991، حين يرفع الطلاب الشعار القائل ان على الاخ ألاَّ يواجه أخاه. نحن هنا أمام مولود جديد متميز في السينما المصرية، يعرف كيف يختار موضوعه، بذكاء ملحوظ، وكيف يصعد الأحداث الدرامية، حتى تصل الى ذروتها، ثم فجأة يوقف تلك الأحداث، كي يجعل المتفرج يتخيل شكل النهاية والمواجهة، وكيف يفيد من الموروث الشعبي والوطني، وقد برع في تحريك المجاميع، سواء داخل الجيش، أو في التظاهرات الجامعية، وهي مجاميع ضخمة، غير مصطنعة. ونجح في الافادة من الأشرطة التلفزيونية التسجيلية، الخاصة بحرب تشرين اكتوبر ومعاهدات السلام، وأيضاً بحرب الخليج الثانية. وبالطبع نجح أيضاً في اعادة تجسيد التظاهرات الضخمة كأنها حدث حقيقي، ثم في اختيار طاقم العاملين معه، من أجيال عدة، فبدت يسرا صادقة في دور أم تتمتع بأمومتها لشابين تخرجا في الجامعة، ولم تفقد النضارة الى جوار النضج، ولمع الشبان الثلاثة حنان ترك وهاني سلامة ومحمد نجاتي، بدرجات متفاوتة. لكن النضج اتضح تماماً في الشخصية التي جسدها هشام سليم، والتي يقوم فيها بدور المدرس المؤمن بأهمية العملية التعليمية الصادقة في تغيير مفاهيم الشعوب.