النجاح الكبير الذي يحققه الآن فيلم "هانيبال" يؤدي، بين نتائج أخرى، الى فتح أفلام الرعب الذي ازداد تنوعاً - شكلاً ومضموناً مذ كان ألفرد هيتشكوك سيد هذا النوع من الأفلام. بدوره، ليس "هانيبال" فيلم رعب آخر، كما هي مثلاً حال "فالانتاين" الذي سبقه بأسبوعين، ولم يحظ بربع النجاح الذي حصده "هانيبال" "فالانتاين" رعب قتل عشوائي يستند الى تبرير نفسي باهت موجه الى جمهور شبابي لا يمكن الاتكال عليه اذ هو مزاجي يندفع الى هذا الفيلم ويبتعد عن ذاك من دون سبب واضح. "هانيبال" فيلم أكبر حجماً يستند الى خلفيات كثيرة، أهمها أنه نوع من التكملة لفيلم "صمت الحملان" لجوناثان ديمي الذي برز قبل نحو عشر سنوات. كبر حجمه كان سيجعله أكثر خطورة: موازنته التي شارك في تمويلها ستوديوان كبيران هما "مترو غولدوين ماير" و"يونيفرسال" وصلت الى نحو 80 مليون دولار، لكن ايرادات الأيام الثلاثة الأولى من العرض اقتربت من ستين مليوناً في أميركا الشمالية وحدها، ونحو 35 مليوناً حول العالم، ما يجعله في حكم تلك الأفلام التي ستسترد تكاليفها الكبيرة. وعلى رغم ذلك، هناك احتمال ان يكون هذا النجاح نتيجة الصدمة الأولى، وأن تؤدي محاولة تجميل صورة السفاح انطوني هوبكنز الى فتور الاهتمام به بعد حين ليس ببعيد. ولكن حتى لو حدث ذلك، فإن تجاوز الفيلم كلفته وتحقيقه أرباحاً ملحوظة حال تجاوز ايراداته ضعفي تلك الكلفة بات أمراً مؤكداً. الثابت ان سينما الرعب، على رغم اخفاقات هنا وهناك، هي من تلك الأنواع الأكثر مطلباً بالنسبة الى هوليوود. في قديم عهدها كانت هذه السينما ملك شخصيات كلاسيكية مثل "دراكولا" و"فرانكنشتاين" و"دكتور جايكل" الذي ينقلب "مستر هايد" والرجل الذي ينقلب ذئباً" و"المومياء" التي خرجت من باطن التاريخ الفرعوني. السائد في هذه النماذج التي اعتمدتها هوليوود من أواخر العشرينات وصاعداً هو أنها تتحدث عن شخصية واحدة تنقلب على نفسها. فدراكولا يبدو شخصاً عادياً ثم يتحول مصاص دماء أو وطواطاً، ودكتور جايكل يجري تجربة على نفسه ينقلب إثرها قاتلاً متوحشاً، بينما الرجل الذئب أصابته لعنة القمر بدراً وفي كل ليلة يخسر انسانيته ويتحول وحشاً دامياً. أىضاً تستند الى محاولة الانسان التدخل في الخليقة شيء سبق بقرن كامل ما تتنافس شركات علمية اليوم على فعله عبر تكثيف أبحاثها في علم الجينات لصنع نسخ بشرية. فالعالم جايكل يجري تجارب على نفسه ليجبر الشخصية الحيوانية التي في داخله على الخروج من عمق ذاته، والدكتور فرانكنشتاين يسرق اطرافاً من الموتى يضمها بعضها الى بعض، ليصنع انساناً أقوى وأكبر، ويعتمد الكهرباء التي تولدها العاصفة كي يبث فيها روح الحياة. "قوانين هايز" كلاهما يكتشف انه خسر القدرة على ضبط ذلك الوحش. كلاهما ادانة لذلك العلم الذي يحاول ان يؤدي دور الخالق بتجاهل تام لاختلاف القدرات والافتقار الى الكمال المطلوب تنفيذاً لعملية الخلق. في الستينات وقع حدثان في نطاق هذه السينما هما ان ستوديو هامر الانكليزي أعاد صياغة أفلام الرعب الكلاسيكية على غرار جديد أصبحت بموجبه كلاسيكيات حديثة بدورها، والثاني ان "قوانين هايز" الأميركية اندحرت، ما جعل الأميركيون في حل من الأعراف والتقاليد التي لم تكن تسمح بكثير من حرية العرض. في النطاق الأول، اطلقت شركة هامر سلسلة من أفلام دراكولا وفرانكنشتاين والمومياء الى جانب أخرى غير منتمية الى هذه الشخصيات المعروفة تتميز بدرجة عالية من الأسلوبية وحسن التنفيذ. عبرها قدمت عدداً من المخرجين الذين لم يصنعوا في حياتهم السينمائية شيئاً أفضل مما صنعوه في تلك النوعية من الأفلام: روي وورد بايكر "مصحة"، ترنس فيشر "لعنة الرجل الذئب"، "لعنة فرنكنشتاين" بين أخرى كثيرة، دوغلاس هيكوكس "مسرح الدم"، فردي فرنسيس "حكايات من المدفن"، دان كيرتس "دراكولا" وغيرهم. الممثلان اللذان كمل كل منهما الآخر في هذه المرحلة كانا كريستوفر لي وبيتر كوشينغ. ومعظم هذه الأفلام وجد طريقه بنجاح الى صالات العرض اللبنانية أواخر الستينات ومطلع السبعينات وعرض معظمها في صالة الحمراء لأن مالكيها كانوا موزعين معتمدين لها. أما "قوانين هايز" فكانت ألفت في هوليوود مع مطلع الثلاثينات وهي عبارة عن تشريعات تحدد ما يتبدى على الشاشة. القبلة نعم، ممارسة الجنس كلا. عري المرأة من الظهر فقط، العري الكامل أو الأمامي غير مسموح. القتل لا بأس به شرط الا يسيل الدم، والعنف مشترط بتحديد زاوية اللقطة وطريقة صياغة المشهد حتى لا يكون مباشراً ومؤثراً. بمثل هذه الشروط عايشت سينما الرعب وغيرها من الأنواع تقاليد تحد من حريتها في تقديم عرض "واقعي" على النحو الذي نراه اليوم أمراً عادياً. بسببها لم يكن من الممكن قط ان يصور أرثر بن فيلمه الرائع "بوني وكلايد" حيث الرصاص ينهمر على ضحيتي اليأس الاقتصادي وانقسام المجتمع نخبة تملك وغالبية لا تملك. ولم يكن ممكناً على الاطلاق ان يباشر سام بكنباه تياره المميز في سينما الوسترن بدءاً بفيلم "الزمرة المتوحشة". كذلك كان مستحيلاً امام جين فوندا وارسولا أندرس وراكيل ولش وكثيرات غيرهن الحصول على موافقة الاستوديوات للتعري امام الكاميرا. كل شيء تغير بدءاً من العام 1956 عندما انهار نظام هايز رسمياً وتجرأت هوليوود على الخروج - تدريجاً - الى العلن بما لم يكن متاحاً من قبل. المشهد ما قبل الأخير من فيلم "مسدسات بعد الظهر" لسام بكنباه غير اي من مشاهد ما قبل النهاية في "الزمرة المتوحشة". في الفيلم الأول، الذي نفذه عندما كانت قوانين هايز لا تزال قائمة نرى جوويل ماكراي المصاب والآيل الى الموت وهو "ينزل" من الكادر الى الأرض. اللقطة بعده خالية كما لو ان الغياب روحي يستخدم محمد خان في فيلمه الجديد "أيام السادات" لقطة مشابهة لحادث اغتيال الرئيس الراحل. لكن في "الزمرة المتوحشة" القتل طويل ونصفه ملتقط بسرعة بطيئة وتفاصيل دموية. كلاهما ينجح في ما يقصده. في وقت فشلا آخرون في توظيف الحرية الممنوحة كما فشلوا في العمل ضمنها. تحفة روميرو ليس هذا تأريخاً لسينما الرعب، بل عرض لما سيطر عليها من اتجاهات، وكيف وظفت في مراحل متتابعة. هيتشكوك كان على حق في عدم انتقاله من الموحى به الى المعروض على الشاشة. فعلى رغم الحرية التي اخذت السينما الأميركية تتمتع بها مباشرة بعد انهيار تلك التقاليد، كانت سلبياتها استبدال الخيال الذي كان السبيل الوحيد المؤدي الى رد الفعل المرجو بحرية العرض التي ألغت، لدى معظم المخرجين، الحاجة الى اعتماد الخيال واشغال ذهنية المتلقي وليس عينيه فقط. في سينما الرعب ازداد التباعد، في اضطراد، بين نوعية هيتشكوك الايحائية لا يزال مشهد قتل جانيت لي في الحمام نموذجاً مهماً لطريقة احتيال مخرج على شيفرة هايز وتقديم مشهد رعب عنيف من دون الخروج عن قواعدها والنوعيات اللاحقة التي لم تكن كلها عنيفة عنفاً مجانياً. بينها، وخصوصاً في نهاية الستينات وخلال السبعينات من القرن الفائت، ما كان طروحات تعكس وضعاً ماثلاً على سطح الحياة الاجتماعية الأميركية ومتغيراتها. عام 1958 خرج من تحت ستار المجهول مخرج مستقل اسمه جورج أ. روميرو وقدم فيلماً صنع من الضجة أنذاك ما صنعه فيلم "مشروع بلير ويتش" قبل عامين. الفارق أن "بلير ويتش" كان فارغاً من اي مضمون اجتماعي. فيلم روميرو كان مثل المرأة. ربما مرآة قديمة غير ناصعة، لكنها كانت واضحة في انتمائها الى ما شهده المجتمع الأميركي آنذاك من متغيرات. الحقد العنصري الفيلم هو "ليلة الأحياء الموتى" بالأبيض والأسود وبموازنة لا تزيد عن موازنة دقيقتين أو ثلاث من كلفة "المهمة مستحيلة 2" أو "هانيبال". قصة تحول بعض البشر آكلي لحوم آدمية. انهم "زومبيز" يجوبون الأرض بحثاً عن الأحياء ليلتهموهم. يتحركون بصعوبة ولكن بقوة وعناد. وبضعة أفراد من الاحياء العاديين يجمعهم هذا الظرف المخيف في بيت صغير يتحصنون فيه مدافعين عن انفسهم ضد أعداء لا يكفون عن محاولة اقتحام البيت في تلك المنطقة الريفية النائية. ولكن في وقت كانت حرب البقاء أحياء تدور بين الطرفين، كانت حرب أخرى تدور داخل البيت المحصن: بطل الفيلم دوان جونز شاب أسود. بطلة الفيلم فتاة بيضاء جوديث أو داي واللقاء الأول كان مواجهة بين اثنين ليسا مستعدين لتبادل الثقة. لكنهما يفعلان ذلك سريعاً. فالعدو واحد وخطير. الموقف العنصري، كاملاً، يأتينا مع لجوء عائلة يقودها رجل أناني مريض بالخوف من السود وكرههم راسل شتاينر. وبين الاثنين تدور كل المعارك الحادة التي تقع داخل البيت ومحاولة العنصري التسبب في قتل الأسود بإبقائه خارج البيت وعدم فتح الباب له بعدما أتم خطة لدرء خطر "الزومبيز". قبل "الدوغما" وقبل "مشروع بلير ويتش" معاً، أمسك جورج أ. روميرو كاميرا باليد وعمد الى الاضاءة الطبيعية، لكنه خلّف وضعاً متأزماً وفريداً وبالغ التخويف. وفي غمار ذلك لم ينس ما طلبه لنفسه من رغبة في نقل أجواء المجتمع ومتغيراته في ذاك الحين. وهذا ما فعله لاحقاً في الجزءين اللذين لا يقلان رعباً وجودة "فجر الاحياء الموتى"، "يوم الاحياء الموتي". في هذين الفيلمين هجوم على مجتمع الاستهلاك واظهار ان الموتى الاحياء ليسوا سوى نوع واحد من أعداء المجتمع. النوع الآخر قد يكون من الذين لا يزالون "عاديين" يعيشون بيننا ولا ندرك ماهية ضغائنهم ودوافعهم المبيتة. هالووين ودربه نقلة أخرى في عالم سينما الرعب وردت مع جون كاربنتر. هذا مخرج آخر ولد من بطن "السينما الفقيرة". فبموازنة لم تزد عن 300 الف دولار وفرها المنتج مصطفى العقاد يومذاك حقق كاربنتر فيلماً ناجحاً زادت ايراداته عن 30 مليون دولار حينها ولا يزال يحقق ايرادات من حقوقه المتنوعة هو "هالووين" 1973. هنا بداية البداية بالنسبة الى القاتل المقنع. السفاح الذي يقتل من دون سبب مفهوم والذي يرفض ان يموت. هذه هي النسخة الأولى تماماً لما شوهد في السنوات الثلاث الأخيرة عبر سلسلتي "صراخ" و"أعلم ما فعلتم في الصيف الماضي". "هالووين" لم يعكس ما عرضه جورج أ. روميرو من مضامين اجتماعية، لكنه سينمائياً كان من النوعية الخلاقة نفسها للتوتر العالي ايحاء وعرضاً مباشراً على نحو متساو. ونجاحه لم يؤد فقط الى سلسلة "هالووين" آخرها ينطلق الى التصوير خلال أسابيع قليلة مقبلة بل الى انتشار سلسلة مشابهة أخرى، بينها "الجمعة الثالث عشر" و"كابوس شارع إيلم" و"للهضاب أعين" و"مذبحة تكساس المنشارية". ولكن حتى في "هالووين" و"مذبحة تكساس" و"للهضاب أعين" وسواها، ثمة لمحات من استعراض اجتماعي. هناك، على سبيل المثال، العائلة الأميركية التي أسست نفسها على بنى اجتماعية اعتبرتها ثابتة لتكتشف سريعاً انها تهتز سريعاً وتودي بذلك الاستقرار الى الأبد ومن دون توقعات مسبقة. هناك ربط موحى به بين الخروج بهزيمة حرب فيتنام وخسارة الثقة بقيمة العائلة التقليدية. مايكل مايرز المجرم المقنع في "هالووين" هو ابن تلك العائلة ويهاجمها انتقاماً لما تسرب اليه من أحداث وهو صغير. الخلفية النفسية هي مجرد اطار للهجوم على تقاليد البنية العائلية الواحدة المسؤولة عن وعود لم تنجز. في "للهضاب أعُين" أخرجه سنة 1977 ويز كرافن الذي لا يزال نشطاً في مجال سينما الرعب، فهو الذي أخرج "صراخ" قبل 3 سنوات تصيب الكارثة عائلة واحدة متماسكة عندما تضيع وسط صحراء تسكن هضابها غير البعيدة مجموعة متوحشة من البشر. ضد المجتمع والسائد هناك انواع كثيرة من أفلام الرعب أو تلك التي تثيره. هناك أفلام الوحوش الديناصورية أو غير المألوفة، وهناك أفلام الفضاء والمخلوقات ذات الأشكال المتعددة التي تهبط علينا من فوق، وهناك افلام الأرواح والأشباح، وأفلام العناكب والصراصير والديدان وكل تلك المخلوقات الصغيرة التي تنطلق في أفلام معينة بكميات كبيرة لتفتك بالناس. لكن النوع الأكثر رعباً بلا ريب هو ذلك الذي يتحدث عن الانسان نفسه. وكل ما ذكرناه آنفاً هو من ذلك النوع. ليست افلام مثل "مخلوق البحيرة الزرقاء" وحش من أعماق بحيرة في الأمازون أو أن "غزو ناهشي الجسد" مخلوقات فضائية تتنكر في شكل آدمي أو "العنكبوت" التجارب العلمية تخرج عن فحواها وتؤدي الى نمو عنكبوت أسود يدمر الغرب الأميركي، وسواها الكثير، أفلاماً مرعبة. لكن الأكثر تخويفاً ان يكون المرعب شيئاً بشرياً بالكامل يخرج عن وجدانه ومنطقه كما هي الحال مع "هانيبال" تماماً. من ناحية أخرى، الفوارق بين افلام الرعب الراهنة على تنوعها وتلك التي دأبت السينما على صنعها من ماضيها السحيق، وعلى الأخص تلك التي خرجت من كنف الستينات، شاسعة. لك ان تتأمل حقيقة ان بعض أفضل أفلام الرعب في تاريخ السينما كانت تلك التي لم تتميز بنجومها أو بموازناتها من "سايكو" الى "هالووين" والكثير غيرها هي أيضاً تلك التي تغلبت على مشكلاتها المالية عبر نقل الأحداث من المدينة المكتظة الى البلدة الصغيرة أو الى خارجها في تلك الحقول والغابات والصحارى. "سايكو" ليهتشكوك يترك سريعاً مدينة فينكس التي كانت صغيرة عام 1960 عندما صنع الفيلم الى منطقة نائية "كان هذا الفندق مزدحماً قبل ان تفتح الطريق الجديدة - يقول انطوني بيركنز لضحيته جانيت لي أول ما تصل الى فندقه المنزوي بعيداً من الطريق العام. "هالووين" لكاربنتر دار في بلدة صغيرة واستمر في نطاقها فيلماً بعد آخر. "ليلة الموتى - الأحياء" لروميرو في ريف فيلادلفيا البعيد و"فجر الموتى - الأحياء" في "شوبيننغ مول" و"يوم الموتى - الأحياء" في مختبر تحت الأرض و"للهضاب أعين" و"مذبحة تكساس المنشارية" في البراري النائية حيث لا كثافة سكانية. ومن كل هذا ينبع سؤال أخير: هل السبب في عدم وجود تيار لسينما الرعب في السينما العربية عائد الى أن ملكة الخيال لدينا محدودة أو غارقة في "حب التعرض للواقع المعيش"؟ أم لأن الرعب الذي نعيشه من حولنا كاف؟