أتى من ألف عام مضت تحفة الخيل والليل والبيداء. كلماته تدوي في عتمة الليل المغمس بلسعة برد قارس. يسمعونها فيركضون منتشين في كل اتجاه. الخيول المطهمة تزاحمهم. المشهد ساحر مليء بالحياة والحيوية وأنغام عذبة وأضواء تصخب بكل لون ولون. أبو الطيب المتنبي يزور دبي. يرقبه 1500 مشاهد يحضرون على مدى ثلاثة ايام متتالية المسرحية الغنائية الاستعراضية التي أعدها منصور الرحباني فكرة وتأليفاً وتلحيناً، وتفتتح اليوم أول عروضها المسائية على مسرح "مدينة الاعلام في دبي". الممثلون أُنهكوا تدريباً، وكذلك الخيول. أبيات الشعر الجميلة لا تزال على جدّتها حافلة بمعاني لا تموت. المخرج مروان الرحباني يشتعل بالحيوية. يضج مكبر الصوت في يده: "إطفاء الانوار"، "اقترب"، "ابتعد"، "قربوا هذه الصخرة"، "أبعدوها". أوامر يواصل اصدارها على مدى 14 ساعة هي فترة التدريب اليومية. همهمات تذمر علت حين صرخ عند الرابعة فجراً: "استعدوا لتمرين ثالث"، قبل ان يضيف مبتسماً: "لا تصدقوا، هذه مزحة، يعطيكم العافية". اللوحات الاستعراضية يقدمها 130 ممثلاً وراقصاً، والعدد الاجمالي للذين شاركوا في تحضير هذا العمل الفني الكبير من مهندسين وتقنيين وموسيقيين يصل الى 500 مشارك. بين الفنانين غسان صليبا في دور أبو الطيب المتنبي، وكارول سماحة في دور حبيبته الجميلة الأميرة خولة شقيقة الأمير سيف الدولة الحمداني الذي يؤدي دوره الفنان السوري جمال سليمان، في حين يؤدي صباح عبيد دور كافور الاخشيدي. منصور الرحباني أرهقته نزلة صدرية فغادر عند الواحدة صباحاً تاركاً لمساعديه متابعة التدريبات. الاستعراض يحمل صوراً تراثية جميلة عبرها تتحول مراحل حياة المتنبي الى لوحات فنية تزدان بالرقصات العذبة الملونة بإيقاع الاجساد والموسيقى الساحرة والكلمات الباعثة على التأمل. المتنبي يخرج فجأة الى المسرح من وراء غلالات الزمن. صوته البعيد يترامى الى اسماع المشاهدين. غسان صليبا تطوع محبة ليغني ويلقي أبيات الشاعر الكبير. صوته الجميل يدوي مليئاً بعظمة المتنبي، في أداء رقيق ورجولي. وفي الاستراحة يستقيل من دور الرجل العظيم ليأكل سندويشاً ويتحدث لدقائق بالهاتف النقال. القصة مؤثرة. تحكي الاحلام المهيضة لشاعر تنافس أبياته الجزلة أحلامه بالعظمة، من خلال استعراض المراحل المختلفة في حياة هذا العملاق الذي اجتذبته بلاطات كبار رجال عصره حتى مقتله، وهو في طريقه الى الكوفة. يحيك منصور الرحباني مشاهد ينسج فيها علاقة بين عالم الشاعر البعيد وبين حياتنا اليوم حيث "حلم الوحدة العربية" و"مجد العرب" و"حرب التحرير" و"تخليص الأرض من براثن الغزاة" و"ثورة الشعب الجائع". قال مرواني الرحباني: "المسرحية سياسية. اغتيال المتنبي حدث سياسي. الجميع يقرأه قراءة شعرية، لكنهم اغتالوا بقتله أحلامه العربية الكبيرة". اما المنسق العام لمهرجان دبي للتسوق حسين لوتاه، الذي تابع ولادة المسرحية يوماً بيوم، منذ انطلاق فكرتها، فقال ل"الحياة": "أردنا ان نستقبل في دبي حدثاً فنياً متكامل العناصر، موضوع المسرحية وبطلها المتنبي ينسجمان مع أجواء دبي، غرضنا ان نستعيد في مهرجان التسوق تراثنا في قالب عصري". ولجنة المهرجان هي التي تموّل انتاج المسرحية. كارول سماحة، صاحبة أغنية "صباح الألف الثالث" تؤدي في شكل مبهر. فساتينها مذهلة، وصوتها الساحر يلون شخصيتها العذبة في المسرحية وهي تلعب دور الأميرة العاشقة صاحبة الشخصية القوية. الجميع أرهق استعداداً للاحتفال الكبير اليوم. مروان الرحباني قال: "تركيب المسرح العريض والقيام بالبروفات النهائية لاستعراض طويل ومعقد من هذا النوع يحتاج الى جدية. تغيير الملابس يتطلب سرعة لا تتجاوز 30 ثانية بين مشهد ومشهد، اما تعديل الديكور الكبير فيتم في أقل من دقيقة. وقد أصيب اثنان من الراقصين بالإغماء من كثرة الضغط الذي رافق التدريبات النهائية". العمل المتقن ينشر أجنحته مساء اليوم في دبي. القادمون سيكونون على موعد مع استعراض ممتع سيثير في قلبهم حنيناً لن يستطيعوا تفسيره ومشاعر دفء تستمد جذورها من جمال الاغنيات والقصائد والرقصات التي اوحاها رجل لا يزال يطل خياله العملاق من ألف عام مضت.