يمكن اعتبار قمة سرت العربية الاستثنائية التي عقدت خلال الاسبوع الماضي نجاحاً لرئاسة القمة الليبية، فهي التي سعت الى عقدها وحددت جدول اعمالها، وهي التي استضافتها ورتبت لها ملحقاً تمثل بالقمة العربية - الافريقية. الأهم من ذلك ان مؤتمر سرت سجل نجاحاً لجهة تأكيده على تطوير العمل العربي المشترك. فهذا الموضوع يعتبر عادة موضوعاً «هامشياً» بالمقارنة مع المواضيع «الكبرى» و»الملحة» و»الطارئة»، وبالمقارنة مع «التحديات المصيرية التي تواجه الامة العربية». فأمام اصرار الحكومة الاسرائيلية على انهاء تجميد الاستيطان، لا بد من قرارات عربية «حازمة» ومن موقف عربي جماعي. وامام احتمال تفكك الدولة السودانية، لا بد من اعلان تضامن ممثلي الامة العربية مع السودان ومع وحدة اراضيه وشعبه. الحق يقال ان المؤتمرات العربية لا تقصر على هذا الصعيد، ولا تبخل على الذين يطلبون الدعم والتأييد بالقرارات والاعلانات. أما الدعم الحقيقي الذي يتبلور عبر تطوير العمل العربي المشترك كأساس لا غنى عنه من أجل تنمية الطاقات العربية وتمكين العرب وتعزيز قدرتهم على التعامل بنجاح مع القضايا العربية، فانها مواضيع اخرى لا تمت بصلة - او هكذا يقول اولو الامر- الى «قضايا الساعة». فضلاً عن ذلك فانها مواضيع حساسة قد تمس «السيادة الوطنية» للدول العربية، وتجرها الى «المتاهات» وتسبب لها «المتاعب مع الاصدقاء». علاوة على هذا وذاك، فان البحث في تطوير العمل العربي المشترك يجر في كثير من الاحيان الى الخوض في مشاريع ومقترحات بعيدة عن «البراغماتية»، و»غريبة عن الواقع»، كما يقول «الواقعيون» من أرباب الفطنة والمعرفة. لذلك كله كان من الافضل الا تعطى هذه الموضوعات من الاهتمام إلا أقله، أي ما يرضي بعض الحالمين والسذج، وعلى ألا يتبلور هذا الاهتمام في مشاريع وقرارات محددة. قمة سرت اخترقت هذا التقليد فداعبت «احلام» المتطلعين الى قيام تكتل عربي اقليمي متماسك وناشط، واكدت على محورية العمل العربي المشترك، وعلى ضرورة بلورته في مشاريع وادوات وخطوات محددة. اعطاء التعاون العربي الاقليمي الاولوية في المؤتمرات والقمم العربية يعتبر انجازاً سليماً وتصحيحاً لمسار المؤتمرات العربية الاقليمية الرسمية. الا ان ضمان استمرار الالتزام بسلم الاولويات هذا يتطلب وضوحاً في مقاربة مسألة تنمية التعاون بين الدول العربية. هذا الامر كان موضوع نقاش مستفيض، كما قالت اخبار سرت، بين دعوتين: الاولى، اكدت على الطابع السياسي لمسألة تطوير العمل العربي المشترك، ومن هنا كانت الدعوة، على سبيل المثال، الى استبدال جامعة الدول العربية بكيان جديد اتحادي. الثانية اكدت على الطابع الوظيفي لتطوير العلاقات العربية بحيث تبقى الهياكل الاقليمية على حالها على ان يركز على تنمية الافق التعاوني لهذه العلاقات بخاصة في مجالات الاقتصاد والثقافة. الملفت للنظر انه في كثير من الاحيان، صدرت هاتان الدعوتان عن طرف عربي واحد. اي ان بعض القادة العرب كان يمزج خلال مناقشات «سرت» بين الطابعين معاً فيطالب بالتحرك على خط سياسي ووظيفي معاً. ان الفصل بين الاثنين، اي بين السياسي والوظيفي غير ممكن، ولكن المزج بينهما يؤدي احيانا الى عكس المطلوب، اي الى تعطيل مشاريع التعاون الاقليمي. فالدعوة الى قيام الاتحادات السياسية تثير قضية الصراع على صلاحيات السلطة الاتحادية ومسألة السيطرة عليها. هذا ما يطرح كل يوم في اطار الاتحاد الاوروبي، وهذا ما طرح عندما دعي الى تحويل منظمة الوحدة الافريقية الى اتحاد افريقي. بالمقابل فان تحديد وترشيد العلاقة بين الاثنين، أي بين الوظيفي والسياسي، يفتح الطريق أمام تحقيق هذه المشاريع. لقد ظن بعض مفكري ومهندسي نهج التعاون الاقليمي الوظيفي مثل ارنست هاس انه اذا بادرت مجموعة من الدول الى تحقيق التعاون الوظيفي في ما بينها، فان هذا التعاون سيخلق معطيات وظروفاً تجر «بحكم الضرورة» الى استمرار هذا التعاون. حدد هاس ومتبنو نهج «الوظيفية» آليات مهمة تدفع بهذا الاتجاه: الاولى، هي «التداعي»، وهو الذي ينشأ عند التعاون في قطاع معين- غالباً اقتصادي- ويتطور، فينتقل بصورة تلقائية الى قطاع آخر. وتستمر هذه العملية حتى تسقط سائر قطاعات الانتاج والمجتمع في شبكة التعاون الاقليمي، كما كانت تسقط القلاع والحصون في يد الزاحفين. يقدم جوزيه مانويل باروزو، رئيس المفوضية الاوروبي، مثلاً على التداعيات عندما يقول ان أزمة اليورو فرضت على المفوضية استحداث ادوات مؤسسية جديدة لحل هذه الازمة، وان هذه الادوات نقلت الاتحاد الاوروبي الى مستوى جديد من التعاون («هيرالد تريبيون» الدولية في 22/6/2010). الثانية، هي نمو المؤسسات الاقليمية وتوطيد ولاء العاملين فيها للفكرة التي تقوم عليها وذلك بحكم العمل والزمالة والعلاقات المؤسسية. ولا ريب ان لهذه الآلية اهمية خاصة في الاطار الاوروبي اذ ان بيروقراطية الاتحاد تضم حالياً ما يقارب الاربعين ألف موظف يرتبط مصيرهم المهني بمصير الاتحاد الاوروبي وتطوره ونموه. اكتشف الوظيفيون بعد التجارب التي مرت بها السوق الاوروبية المشتركة، ان هذه الآليات الوظيفية والتلقائية، على اهميتها، لا تشكل وحدها ضمانة لاستمرار الصيرورة الاوروبية الاتحادية، وان لا غنى عن الارادة السياسية حتى تستمر وتتطور هذه الصيرورة. وتوصل الوظيفيون الى ان العلاقة الجدلية بين الوظيفي والسياسي هي التي تقود، في نهاية المطاف، الى استمرار الصيرورة التعاونية والاتحادية. الشرط الاساسي هنا هو ان تحترم القيادات السياسية عملية النمو الطبيعي التي يمر بها التعاون الوظيفي، وألا تتدخل إلا لحماية التعاون الاقليمي من الاختناقات والمصاعب «السياسية» التي يضعها المناهضون في وجهه. لئن احتاجت اوروبا الى مثل هذه العلاقة بين الوظيفي والسياسي عندما سعت الى بناء تكتلها الاقليمي، فإن المنطقة العربية هي اشد حاجة بما لا يقاس الى مثل هذه العلاقة. ذلك ان المناهضين لفكرة التعاون الاقليمي العربي الذين يضمون جيوشاً جرارة من «الجهاديين» المنتشرين على سائر الجبهات المحلية والعربية والاقليمية والدولية، هم على استعداد للتدخل السريع ضد أية تداعيات من النوع الذي اشار اليه ارنست هاس ولبتره واجتثاثه من جذوره. وكما انه من غير الواقعي الاعتماد المفرط على اثر التداعيات اياها على مسرح التعاون العربي الوظيفي، فان من غير الواقعي ايضا الاعتماد على نمو مؤسسات العمل العربي المشترك وعلى اثرها على العلاقات العربية -العربية. ان حجم هذه المؤسسات لا يضاهي في شيء حجم مؤسسات الاتحاد الاوروبي، ومن ثم فانه لا يعول على مدى تأثيرها على مصير العمل العربي المشترك. الاهم من ذلك انه في الوقت الذي تضم هذه المؤسسات اعداداً من المقتنعين والملتزمين بالفكرة العربية التي نهضت على اساسها هياكل العمل العربي المشترك، فانها تضم في الوقت نفسه اعداداً مماثلة من اولئك الجهاديين الذين يقاتلون بكل ضراوة مشاريع التعاون الاقليمي العربي، وهم يملكون خبرات عريقة في حرف هذه المشاريع عن هدفها. هكذا نجد على سبيل المثال لا الحصر، ان ترجمة «التضامن العربي»، كما جاءت على موقع الجامعة العربية الالكتروني، تعني التضامن مع السودان والصومال وجزر القمر. أما التضامن العربي الذي يعني الارتقاء بمستوى العلاقات بين الدول العربية، والذي يعني تنمية التجارة العربية البينية وازاحة الاختناقات من امام منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى (غافتا)، والتضامن العربي الذي يعني تعزيز التعاون واخوة السلاح بين القوات المسلحة العربية، وهو ما شهدنا مثالاً مجيداً له خلال حرب اكتوبر، فهذا ما لا يدخل في تفكير اولئك «الجهاديين». أمام هذا الواقع، فإنه حري برئاسة القمة العربية ان تضم جهودها الى جهود القادة والرؤساء والهيئات والمنظمات العربية التي تؤمن بجدوى التعاون العربي وتتطلع الى الارتقاء بمؤسساته وأنشطته أملاً بتمكين العرب، وان تبذل جهداً مستمراً بالتعاون مع هؤلاء من اجل بلورة برامج ومشاريع العمل العربي المشترك ومن اجل ضمان تحقيقها من طريق تضافر الارادة السياسية مع الصيرورة الوظيفية وصولاً الى تحقيق الآمال العربية في النهضة والحرية. * كاتب لبناني