من المتوقع أن تفرغ اللجنة العربية الوزارية المكلفة بإعداد مشروع "تقنين دورية القمة العربية" من وضع تقريرها النهائي في الثاني من شهر أيلول سبتمبر المقبل تمهيداً لاحالتها الى وزراء الخارجية العرب ومن ثم لرفعه الى القادة العرب كي ينظروا فيه ويبتوا بأمره. ومن الأرجح، في ضوء التجارب الماضية والظروف الراهنة، ان يكون مصير المشروع الإهمال. فالأصل في تقنين دورية القمة العربية متوفر في وثائق القمة العربية الأولى والثانية اللتين انعقدتا في منتصف الستينات حيث اتفق على قيام مؤسسة القمة وعلى اجتماعاتها الدورية وعلى كيفية وآلية اتخاذ وتنفيذ قراراتها. ولقد كان مصير ما تم الاتفاق عليه آنذاك التجاهل والتجميد إذ ان القيادات العربية عقدت، منذ ذلك التاريخ ما ينوف على العشرين قمة كانت الأكثرية الساحقة منها مؤتمرات طارئة، أما القمم الدورية فلم تعقد إلا مرات قليلة مما عطل فكرة مأسسة مؤتمرات القمة العربية. الأجواء العربية الراهنة تبدو بعيدة عن مناخات مؤتمرات القمة دورية كانت أم غير دورية. فبصرف النظر عن الحاجة الماسة الى مثل هذه المؤتمرات، وبصرف النظر عما تتعرض اليه القضية الفلسطينية من احتمالات الضياع، وبصرف النظر عن الضغوط التي يتعرض اليها الفلسطينيون من أجل تناسي القدس قضية اللاجئين والسيادة والاستقلال الحقيقيين، وبصرف النظر عن احتمالات تحول الجولان الى اسكندرون أخرى، وبصرف النظر عما تتعرض اليه الدول العربية من حالات الحصار الاقتصادي والسياسي والعسكري، وبصرف النظر عن التردي الذي تعانيه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، وبصرف النظر عن ذلك كله، فإن الدعوة الى عقد القمة لا تلقى استجابة عربية كافية. فعندما سئل رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عن احتمالات انعقاد القمة أجاب بأنه "يسعى" الى عقد هذه القمة، بينما أعرب مساعدون من المسؤولين الفلسطينيين عن شعورهم بالاحباط لأن هذه المساعي تصطدم بممانعة رسمية عربية. إذا كانت القيادة الفلسطينية قادرة على الاكتفاء باعطاء جواب مبهم حول احتمالات عقد قمة عربية قريبة، فإن القيادة المصرية مضطرة الى اعطاء جواب أكثر دقة حول هذه المسألة. ذلك ان مصر تترأس القمة العربية منذ انعقاد مؤتمرها الأخير في حزيران يونيو 1996 في القاهرة، وقد أناط القادة العرب بالرئيس المصري مهمة التحضير لقمة جديدة وحملوه هذه المسؤولية. وهكذا فإنه لما سئل عمرو موسى وزير خارجية مصر حول تلك الاحتمالات أجاب بأنها مستبعدة حالياً لسببين: الأول، ان القمة الطارئة لا تعقد "لمجرد الانعقاد" ولكن من أجل الخروج "بموقف عربي متماسك"، وبدعم قوي للأطراف العربية المعنية بصورة مباشرة "بعملية السلام". ولما كان هذا الدعم متوفراً، كما جاء في حديث وزير الخارجية المصري، فإنه لا حاجة لملحة، إذاً الى القمة العربية. الثاني، هو أن القمة الدورية مطلوبة في حد ذاتها وهي لا تتعلق بحدث معين مثل انهيار قمة كامب دايفيد، بل لحاجة القادة العرب الى بحث قضايا عديدة ودائمة مثل التعاون الاقتصادي وغير الاقتصادي بين دولهم. ان الوزير المصري يحظى باحترام واسع في الأوساط العربية، وتتسم أحاديثه بالدقة والحصافة، ولكن مع ذلك هناك متسع للتساؤل عما إذا كان من المستطاع تكوين موقف عربي متماسك خارج مأسسة القمة العربية كخطوة أساسية على طريق بناء كتلة اقليمية حقيقية. أما الإشارة الى الحاجة الى دورية القمة العربية والمهمات التي تنتظرها فإنها تثير التساؤل عن النصيب الذي أحرزته الدول العربية في مجال التعاون الاقتصادي وعن دور القمة العربية في تحقيقه. الأوساط التي أشارت الى وجود احباط فلسطيني بسبب استبعاد القمة العربية وحتى قمة مصغرة لدول لجنة القدس، تعرب عن وجود احباط موازٍ له نتيجة شعور القيادة الفلسطينية بأنها لا تلقى دعماً عربياً كافياً لفكرة اعلان الدولة الفلسطينية في 13 أيلول سبتمبر لمواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية. القيادة الفلسطينية قد تكون قادرة على مواجهة الضغوط الإسرائيلية وعلى احتوائها، أما الضغوط الأميركية فإنها تحتاج الى ما هو أكثر من الجهد الفلسطيني. انها تتطلب "موقفاً عربياً متماسكاً" يصعب توفيره، كما قال وزير الخارجية المصري ضمناً، خارج مؤتمرات القمة العربية. فالولاياتالمتحدة تضع كل ثقلها السياسي في ميزان "عملية السلام" من أجل تعزيز الموقف الإسرائيلي. مسؤولوها يجوبون الدول المعنية ويرسلون الإشارات المتوالية الى هذه الدول لا لكي يدعوا أطراف المفاوضات العربية - الإسرائيلية وشأنهم، وانما لممارسة الضغط على الفلسطينيين حتى يقبلوا بالمطالب الإسرائيلية. هذا المطلب الأميركي ليس موجهاً الى دول صديقة للعرب فحسب، بل انه موجه، كما تشهد جولة ووكر القريبة في الشرق الأوسط، الى الدول العربية. أي ان الولاياتالمتحدة تسعى، بما تملك من نفوذ وتأثير وعبر وسائل ترقى الى مستوى التهديد الفج، الى نقل الدول العربية من الاضطلاع بدور الظهير التاريخي لشعب فلسطين ولقضيته، الى دور السند الراهني لإسرائيل ولمشاريعها التوسعية! وما يميز هذا الطلب الأميركي اليوم، ان الإدارة الأميركية باتت تتحدث عنه علناً وسط تجاهل كبير لأي اعتبار من اعتبارات السياسة مثل مشاعر الرأي العام العربي وحساسيته الفائقة تجاه بعض قضايا الصراع العربي - الإسرائيلي كقضية القدس، أو مصداقية النخب الحاكمة العربية أمام شعوبها، أو مبادىء الشرعية الدولية والقيم الأخلاقية التي يتحدث بعض المسؤولين الأميركيين عن ضرورة ادغامها في السياسة الدولية. ان مثل هذا الضغط الأميركي الموجه الذي يمارس على الفلسطينيين وعلى الدول العربية معاً يحتاج الى تدبير عربي مشترك وفعال. مشترك بمعنى انه يصدر عن الدول العربية مجتمعة وليس بصورة افرادية. وفعال بمعنى انه يصدر عن أصحاب القرار الحقيقيين في الدول العربية الذين هم القادة العرب لا غيرهم من المسؤولين المحليين. ان حاجة الأطراف العربية الأخرى التي تواجه ضغوط اسرائيل وحلفائها في الادارة الأميركية الى القمة العربية لا تقل عن حاجة الفلسطينيين اليها. السوريون يسعون الى تحسين أوضاعهم الداخلية والتفاوضية عبر العلاقات الثنائية مع الدول العربية الأخرى. في هذا السياق تصب مساعي تطوير العلاقات السورية - العراقية التي تجلت في الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين. كذلك يصب في نفس السياق الاجتماع الذي عقدته اللجنة السورية - العراقية خلال الأسبوع الأول من شهر آب أغسطس الحالي، أي بعد انقطاع دام عشرين عاماً تقريباً وما صدر عن هذا الاجتماع من مقررات حول زيادة التبادل التجاري بين البلدين. كذلك تجلت هذه المساعي في اعادة تشغيل خط الموصل - حلب، وتنشيط التجارة البرية العراقية - اللبنانية عبر الأراضي السورية. فضلاً عن تطوير علاقتهم مع العراق، فإن السوريين يحرصون أيضاً على تطوير علاقتهم مع الأردن وهذا ما بانت مظاهره في موافقة دمشق على اسالة المياه السورية الى الأردن مساعدة له على مواجهة النقص الشديد في موارده المائية. فضلاً عن الاهتمام بتطوير العلاقات مع دول الجوار العربي، فإن دمشق تأمل في توثيق التفاهم والتعاون مع دول الخليج وهو ما كان عنواناً وحافزاً الى جولة الرئيس الأسد الخليجية الأخيرة. ان بعض الأوساط الإسرائيلية تجد في هذه المبادرات مخططاً خطيراً لإعادة احياء "الجبهة الشرقية" بدعم خليجي. ولكن بعيداً عن هذه التخيلات، فإن التطور في العلاقات المثلثة السورية - العراقية - الأردنية لا يتعدى الأفق الوظيفي الذي يخدم مصالح الدول الثلاث على المديين البعيد والمتوسط ولكنه لا يغني عن التحرك العربي الجماعي. هذا ما أكدته الدعوة السورية المتجددة الى عقد مؤتمر قمة عربي قريب لمواجهة ما هو داهم ومستجد على صعيد "عملية السلام" والمفاوضات العربية - الإسرائيلية وعلاقات العرب الدولية. اذا كانت أسباب الدعوة الى قمة طارئة متوافرة وملحة، فهل تتوافر أسباب الدعوة الى مؤتمر قمة دورية، وبالمعيار نفسه الذي أشار اليه وزير الخارجية المصري أي تطوير التعاون الاقتصادي بين مجموع الدول العربية؟ من بين القرارات التي أصدرتها قمة 1996 اتسم القرار المتعلق بقيام "منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى" بأهمية خاصة، بل انه كان بالفعل، أهم قرار صدر عن تلك القمة. ولعل الوزير موسى كان يقصد مثل هذا القرار عندما تحدث عن التعاون الاقتصادي العربي. فأين أصبحت منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى اليوم؟ أين أصبح ذلك المشروع الذي اعتبره القادة العرب مدخلاً الى مساواة العرب مع غيرهم من الأمم والشعوب والناهضة؟ في حديث أدلى به وزير الخارجية المصري خلال المؤتمر الثامن لرجال الأعمال المصريين في الخارج الذي انعقد في القاهرة في مطلع شهر أيار مايو الفائت، أعلن موسى انه من المستبعد قيام "المنطقة" حالياً أو في المستقبل القريب. وأشار الى وجود عقبات كثيرة تعترض تطبيق البرنامج التنفيذي لقيام المنطقة واعلان تحرير التجارة العربية البينية بالكامل في نهاية عام 2008 كما جاء في قرارات المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي. وأوضح ان في مقدمة هذه العقبات كثرة الطلبات التي تقدمها الدول العربية بغرض اعفائها من تنفيذ خطة تخفيض الضرائب الجمركية على وارداتها من الدول العربية الأخرى. وتؤيد التقارير الصادرة عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية الانطباعات التي كونها وزير الخارجية المصري، وهي تتحدث عن ضعف التزام الدول العربية التي انضمت الى المنطقة بالبرنامج التنفيذي لتحرير التجارة البينية العربية. هذه التعقيدات والصعوبات التي ترافق قيام "منطقة" ليست شأناً غريباً عن مشاريع انشاء التكتلات الاقتصادية ومناطق التجارة الحرة في أقاليم العالم الأخرى. فعندما قامت السوق الأوروبية المشتركة واجهت الكثير من العثرات الى درجة ان فرنسان الديغولية التي كانت ركيزة كبرى من ركائز السوق جمدت عضويتها في بعض مؤسساتها ردحاً من الزمن. وتواجه آسيان وميركوسور راهنياً الكثير من المصاعب الراهنة. من أجل معالجة مثل هذه التعقيدات والاختناقات يجتمع القادة الأوروبيون والآسيويون والأميركيون اللاتينيون فلا يتركون البت فيها للأجهزة التنفيذية وحدها. وإذا كانت مثل هذه الاختناقات تحتل حيزاً مهماً وأولوية على جدول أعمال القمم الأوروبية التي تتبع دولها الديموقراطية الليبرالية واللامركزية في الحكم، وإذا كانت هذه الصعوبات تحتل مرتبة موازية في الأهمية في سلم اهتمام قمم ميركوسور وآسيان التي تضم دولاً تسير على طريق الدمقرطة واللامركزية؟ فهل يكون مجدياً أن تترك للبيروقراطية معالجة مثل هذه الاختناقات والعثرات في دول تتسم نظم الحكم فيها بالإسراف في المركزية والغلو في الشخصنة؟ وهل يمكن لغير القادة العرب أن يتخذوا القرارات الحاسمة بصدد تحريك عجلة التعاون بين الدول العربية بغرض تطوير أوضاعها الاقتصادية وتحسن أحوال شعوبها؟ القمة العربية هي المجال الأفضل لتكوين موقف داعم للفلسطينيين وللسوريين وللبنانيين الذين يواجهون ضغوط اسرائيل وحلفائها الدوليين. والقمة العربية هي الجهة الأصلح لانقاذ مشاريع التعاون والتكتل العربيين من الاختناقات والعثرات، ولتمكين الدول العربية من السير على طريق الافادة من ثرواتها الطبيعية ومواردها البشرية فائدة فعلية. فلعل مؤتمر وزراء الخارجية العرب المقرر انعقاده في مطلع شهر أيلول سبتمبر ينظر الى تقرير لجنة دورية القمة بهذا المنظار فيوافق على محتواه ويضم صوته الى صوت اللجنة على رغم أن تجارب الأوضاع العربية الراهنة ترجح، كما قلنا أعلاه، احالة التقرير والدعوة الى القمة الى ادراج الإهمال. ولعل القوى العربية المعنية بمسألة التضامن العربي ترفع صوتها بالدعوة الى مؤتمر قمة عربي قريب يخفف من أسباب ومظاهر التدهور العربي المتسارع. * كاتب وباحث لبناني.