المرور في بلدة خلكان الواقعة على الطريق بين آربيل والسليمانية، على مقربة من سد دوكان، يذكر بمؤرخ كردي كبير، من مؤرخي القرن السابع الهجري، سجل في تاريخه "وفيات الأعيان" حياة عدد كبير من أعيان الزمان وأرباب الأمر، وفيه حصة لقضاة وفقهاء وحكام ومتصوفة أكراد. والمؤرخ الذي يتوسط قبره البلدة التي عرفت باسم جده خلّكان قيل انه توفي في دمشق ودفن في سفح قاسيون. وظاهرة استحداث الأضرحة وتعددها لم تكن غريبة في كردستان العراق، فهناك ضريح للصحابي أبي عبيدة بن الجراح، في قرية تابعة لمنطقة هورمان من مناطق السليمانية، عرفت نسبة اليه بالأعبليلية، مع ان الصحابي المذكور توفي في غور بيسان في الشام، السنة 18 هجرية. والقول بوجود أضرحة ومزارات فخرية متعددة في المنطقة، للمسلمين وأهل الديانات الأخرى ما هو الا محاولة لفك العزلة بين الوديان والجبال، والاتصال عبر استحضار التاريخ عن طريق استحداث المزارات، هذه العزلة التي ساعدت في الاحتفاظ بهذا التعدد الديني والمذهبي فترة طويلة من الزمن. قال المؤرخ قسطنطين زريق في احوال هذه المنطقة "في بقعة صغيرة من شمالي العراق، لا تتجاوز مساحتها بضعة آلاف من الأميال المربعة جمع الله مزيجاً من الأجناس والطوائف والشعوب، قد لا تجد مثيلاً له في أية بقعة أخرى من بقاع الأرض" اليزيدية، 1934. وما زال الحال كما هو، على رغم ان الجبال والوديان فكت عزلتها بشبكة من الاتصالات والعلاقات. الطرق الصوفية واحدة من هذا التعدد التاريخي، فالتكايا والخانقاة منتشرة في قرى كردستان العراق، ولها مراكز متعددة، لكن السليمانية هي مركزها الأول، وهي مصدر بثها الى المناطق الأخرى. وفيها حالياً طريقتان: القادرية والنقشبندية، والأولى أكثر انتشاراً بين عوام الناس، والثانية هي الأقرب الى الوسط الثقافي. ولعل السبب في ذلك ان القادرية تعتمد رياضة المخاطر، التي تجذب النظر، وتؤثر في العامة. أما النقشبندية فشيوعها في الوسط الثقافي يعود الى تجردها عن تلك الرياضات، واكتفائها بالمدائح والموسيقى الدينية في حلقات الذكر. قبل تفرد هاتين الطريقتين في التصوف بالمنطقة انتشرت الطرق السهروردية والمولوية والبكتاشية والبرزانية. وقيل ان الأخيرة تفرعت عن النقشبندية وخالفتها في عدد من الأمور. وكان الملا مصطفى بارزاني، الذي أوصى بأن يكون قبره دارساً بمستوى الأرض، يهتم بتكايا النقشبندية، ثم التزم وارثوه ذلك. والبرزانية نسبة الى منطقة برزان التي ينحدر منها الزعيم الكردي المذكور، لكن القبر الدارس، المحفور على سفح الجبل، وهو عبارة عن حفرة أصبح ضريحاً تزوره الوفود القادمة الى كردستان، وحوله حرس الشرف الخاص لمثل تلك المناسبة. واسم النقشبندية منحوت من الكلمة الفارسية نقشبند، ومعناها النقاش، ومجازاً أطلقت هذه الكلمة على مؤسسها الأول الشيخ بهاء الدين محمد بن محمد البخاري، الذي عُرف بالنقشبند، وليس النقشبندي نسبة الى حرفة نقش القماش، وإن صح ذلك فتاريخ الطريقة يعود الى القرن الثامن الهجري. أما دخول الطريقة الى كردستان العراق فكان على الشيخ ضياء الدين النقشبندي 1779-1821م، بعد عودته من الدراسة في الهند، الى مسقط رأسه قرداغ في السليمانية، بعدها درس في بغداد الطريقة القادرية، والى فترة متأخرة كان هناك تداخل بين الطريقتين. يتولى حالياً مشيخة النقشبندية في السليمانية الشيخ ملك بن محمد عثمان، بعد وفاة والده قبل بضع سنوات. ولفتت نظرنا كثرة الصور المعلقة على جدران دار ضيافته، التي تجمع بين والده والعاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال، فقد كان يقيم في بتركيا ويتردد على عمان بين حين وآخر. ووصيته الى ولده الشيخ ملك التأكد من سريرة المنتمين الجدد تجاه الطريقة، وردت في الرسالة، التي نحتفظ بنسخة منها، وموجهة الى كبار مرشدي الطريقة: "انني اجزتكم باقامة الختم والتهليلة، وتلقين الطريقة للمبتدئين، أحب ان تداوموا على ذلك، وتتعاونوا في ذلك مع ولدي عبد الملك النقشبندي، على الشكل الذي يتسنى له، وهو يساعدكم في أمور الطريقة، ونشرها في بغداد". هناك أكثر من 20 مسجداً يمارس فيها ختم الطريقة، ولها مدرسة لتخريج مرشدين، قوامها الحالي 70 طالباً. وتعقد حلقات الذكر أسبوعياً مرات عدة، وللنساء حلقات خاصة بهن، ففي كل خانقاه مكان خاص لهن. أهم مزارات النقشبنديين في ناحية بيارا من منطقة هورمان، حيث مرقدا الشيخين علاء الدين وسراج الدين، وأهمية الشيخين في تاريخ الطريقة انهما رسخا وجود الطريقة في المنطقة. قال الشيخ ملك: تفضل غداً معنا لزيارة بيارا، فهناك ستجري حلقة ذكر كبيرة، وباستطاعتك الاطلاع على أحوال الطريقة وطقوسها، لكن مغادرة السليمانية الى أربيل في اليوم الآخر حالت دون ذلك. وبيارا واحدة من قرى قليلة في تلك المناطق سلمت من دمار الحرب العراقية - الايرانية، فهناك قرى نقشبندية عدة دمرت كلياً. قال الشيخ: في خانقاه بيارا، نحتفظ بثلاث شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وثلاث أخرى في خناقاه قرية الطويلة، القريبة من حلبجة. سألته عن مصدر هذه الشعرات، وكيف وصلت الى وديان جبال كردستان، قال: وصلتنا هدية من السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، اذ سلمها للشيخ أحمد بن سراج الدين، أثناء رحلته الى الحج، ومروره باسطنبول كما يقتضيه الطريق والعادة في زيارة مقام السلطان. ولعل هذا الادعاء محاولة من محاولات الشيوخ لتشريف مزاراتهم، فيشد اليها الرحال، وتشد من أزر الاتباع البسطاء. والصلة بين شيوخ النقشبندية ومراكز الحكم استمرت بعد العثمانيين بالملك فيصل الأول، والوصي عبدالإله ثم في العهد الجمهوري مع رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم. تعتمد النقشبندية ثلاثة طرق للوصول الى المراد، وهي: الدوام على الذكر القلبي، والمراقبة، وطاعة المرشد. وعملها الصوفي مبني على قاعدة هي: اليقظة عند النفس، النظر الى القدم، السفر في الوطن، الخلوة في الجلوة، الذكر الدائم، العودة من الذكر الى الذات، حراسة القلب من الغفلات والخواطر، حفظ آثار ذكر القلب، الوقوف الزماني، الوقوف العددي، والوقوف القلبي. أما عن الطريقة القادرية، وتعرف بالسليمانية الكسنزانية، فقال الشيخ محمد الكسنزاني: إن أول من تبنى الطريقة القادرية في المنطقة، وتحديداً ناحية قرداغ ووليان، هو الشيخ اسماعيل الولياني. أما اتخاذ اسم القادرية الكسنزانية فيعود الى الشيخ عبدالكريم الكسنزاني ولد 1824م. واذ عرف مكان النقشبندية بالخانقاه فمكان القادرية يعرف بالتكية، وتتكون من كلمتي تاك وتعني العزلة، وكاه وتعني المكان، أي مكان العزلة أو الخلوة. وتغيرت اسماء بيوت الصوفية عبر الزمان، فهي الزاوية يوم كانت جزءاً من المسجد، والرباط في العصر العباسي المتأخر، والخانقاه في العهد العثماني، وتعني الأخيرة بيت الأمراء أو السلاطين، فالخان بمعنى الأمير أو السلطان وكاه بمعنى المكان. واحتفظت النقشبندية بهذا الاسم الى يومنا هذا. وللنساء عند القادرية أيضاً حلقات خاصة، تدير الحلقة امرأة تعرف، بخليفة الشيخ. وتعتمد القادرية الدربشة الخاصة بالرجال فقط، وذلك لصعوبتها وخطورتها، وجوهر هذه الرياضة السيطرة الكاملة على النفس، وتتم عادة بإشراف الشيخ، وإذنه بها مهم جداً في نجاحها، وأن يتجرد مؤديها من نزعة الظهور، والفخر بما يفعله على الآخرين، بمعنى ان تكون خالصة للذكر. تسمى الدربشة عند الكسنزانية بالخوارق، وجوهرها القدرة على ادخال أدوات حادة في مناطق الجسم المختلفة، بغض النظر عن خطورتها، لكنها من المؤكد تراعي المناطق الحساسة مثل منطقتي القلب والدماغ، التي تؤدي الى الموت. ولكن ادخال الخنجر في عظمة الجمجمة بمساعدة المطرقة ليس بالأمر المستحيل، وكذلك بلع الزجاج، ومقاومة النار وشرب لهيبها، وهي تبعث من مشعل ناري شديد، أو مقاومة لدغات الأفاعي والعقارب، وأكل رأس الأفعى، الذي يحمل الغدد السامة، ورأس العقرب، ومقاومة الصدمة الكهربائية، بعد أن يتعرض الجسم لها دقائق عدة. يقول القادريون: "إن هذه الفاعليات الخطرة ليست بواجبة على اتباع الطريقة، وذلك لصعوبتها، والهدف منها هو ارجاع الناس الى طريق الحق والصواب". وممارسة الدربشة من مهمات المريدين فقط، وللشيوخ الإشراف عليها والسماح بها فقط. وللقادرية أوراد هي بمثابة فروض اضافية، اليومية منها وعددها ثمانية أوراد، يؤديها المريدون في شكل جماعي بعد تأدية فريضة الصلاة، والدائمية وهي 19 ورداً، يقوم بها المريد في شكل فردي بعد الصلاة أيضاً. ويتم تكرار كل واحد منها مئة الف مرة، وعند الانتهاء من الورد التاسع عشر يعود المريد مرة ثانية بداية من الورد الأول، وهكذا يكرس المريد نفسه لتأدية أوراد الطريقة حتى نهاية العمر. والورد عبارة عن قراءة سورة من سور القرآن الكريم، أو تكرار اسم الله تعالى وأسمائه الحسنى بعدد معين. وتتم بيعة المريد للشيخ بالمصافحة، وللنساء عبر المسبحة، التي لها حضور في العقيدة القادرية. وللقادرية من غير الأوراد مقامات تعرف بها وهي: التوبة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والصدق، والاخلاص، والصبر، والورع، والزهد، والرضا، والشكر. الصوفيون نقشبنديين وقادريين لا يقتربون من التنظيمات السياسية الاسلامية، والمتمثلة في كردستان بحزبي "الحركة الاسلامية" و"الوحدة الاسلامية"، ويحدث في بعض الأحيان ان يرد الصوفيون بمجالس ذكر كبرى على تجمع سياسي اسلامي أو مؤتمر. فدخول السياسة الى صفوف المريدين يعني انحرافهم عن اهداف الصوفية بالتجلي والعرفان، وتعطيل محاولة الوصول عبر الروح الصوفية. فالسياسة، بحسب تعبير احد الشيوخ، انحراف في الدين الى مصالح ضيقة. * كاتب عراقي.