بيروت - "الحياة" منذ أربعين سنة على الأقل، لم تحقق هوليوود فيلماً كبيراً عن الحقبة الرومانية. وإذ يقال "منذ أربعين سنة"، يكون من الواضح ان الفيلم الكبير الذي يحدد ذلك التاريخ هو "سبارتاكوس"، رائعة ستانلي كوبريك. ذلك الفيلم الذي لم يحقق في حينه أواخر خمسينات القرن الماضي ما كان متوقعاً له من نجاح على رغم قيام كيرك دوغلاس منتجه ببطولته، وكان في قمة عطائه في ذلك الحين. كان واضحاً أن الفشل النسبي للفيلم ناتج من موضوعه، الجديد على السينما الاميركية، وبالتالي العالمية، حينها: موضوع العبد المصارع الذي يثور على السلطات آخذاً في ثورته الشعب كله معه، مثيراً بالتالي تعاطف المتفرجين. كانت طموحات السينما في ذلك الحين، أقل من ذلك بكثير. ولم تكن القضية الاجتماعية الطبقية التي يرمز اليها "سبارتاكوس" من ضمن تلك الطموحات. يومها يئس كوبريك من وطنه وسينماه، واتخذ قراره بسلوك درب المنفى، ليصبح لاحقاً أشهر أميركي في بريطانيا. بعد أربعين عاماً، تبدلت الأمور، وحقق ذاك المخرج الذي أصبح "أشهر بريطاني في أميركا"، ردلي سكوت، فيلماً جديداً عن الموضوع نفسه تقريباً، هو فيلم "المصارع". ولم يكن غريباً أن يسارع النقاد وأهل المهنة الى ربطه، جواً وموضوعاً ب"سبارتاكوس"، بينما ربطوه من ناحية الفخامة ب"سقوط الامبراطورية الرومانية" و"بن هور" وغيرهما من الأفلام التي أسست لنوع "الببلوم" التاريخي ذي النمط الروماني، وكانت أفضل ما أنتجه هذا النوع. إعادة إذاً، ما فعله ردلي سكوت في "المصارع" هو اعادته نوعاً سينمائياً بأسره الى الحياة. ولكن أيضاً: الاطلال من جديد على موضوعة سياسية، يبدو واضحاً الآن ان الجمهور يتقبلها في شكل أفضل ويتجاوب معها، ويسايره في ذلك أهل المهنة. والدليل، منحهم "المصارع" في الدورة الأخيرة لجوائز الاكاديمية الأوسكار خمس جوائز أساسية، بينها جائزة أفضل فيلم وجائزة أفضل ممثل للنيوزيلندي راسل كراو. في الأصل كان "المصارع" مرشحاً الى 12 جائزة، وهذا رقم قياسي في تاريخ الترشيحات الاوسكارية، من هنا لم يفاجأ أحد بالفوز الذي حققه، بالأحرى كانت المفاجأة "ضآلة" الفوز، وتحديداً انتزاع ستيفن سودربرغ جائزة أفضل مخرج، من المخضرم ردلي سكوت، ما يجعل من الممكن الحديث عن تقاسمهما الجائزة. لكن الاثنين تقاسما خلال العام الأخير أكثر من الجائزة: النجاح الجماهيري، وبفيلمين لكل منهما. فردلي سكوت حقق وعرض تباعاً "المصارع" و"هانيبال"، فيما حقق سودربرغ وعرض تباعاً "ايرين بروكوفيتش" و"التهريب". ولئن كان سكوت حقق خمس جوائز عن "المصارع" وحده، فإن سودربرغ حقق خمس جوائز بدوره ولكن عن فيلميه: 4 ل"التهريب" وخامسة، أساسية، لجوليا روبرتس عن "ايرين بروكوفيتش". وهنا فقط تتوقف المقارنة بين سكوت وسودربرغ، اللذين جمعت اسميهما صدفة الأوسكار. طبعاً لا يمكن القول اليوم ان "المصارع" كان أفضل ما حققه ردلي سكوت في تاريخه. فهذا المخرج المتجاوز الستين من عمره، ارتبط اسمه بأفلام أهم، يعد بعضها علامات في تاريخ السينما، مثل "بلاد رانر" و"تيلما ولويز" و"آلين 1". ومن المعروف أنه بدأ حياته العملية السينمائية شريكاً لأخيه طوني في شركة لانتاج الأفلام الدعائية، ومن هنا اسلوبه السينمائي المكثف والمعقد الذي اشتهر به، مثلما اشتهر به أخوه طوني الذي أصبح بدوره مخرجاً معروفاً، من أهم أفلامه "رومانس حقيقي". وهو أسلوب يعطي الأولوية للبعد البصري، ويقل احتفاله بأداء الممثل نفسه. ومن هنا قيل إن جائزة أفضل ممثل التي حصل عليها راسل كراو عن "المصارع" لم تكن جائزة للأداء بمقدار ما كانت جائزة للدور والشخصية. والأمر نفسه قيل أخيراًفي صدد "هانيبال"، إذ يلاحظ مثلاً ان القسم الأهم من الفيلم هو القسم الذي يرسم مناخ مدينة فلورنسا وتحرك هانيبال لكتر فيها، بينما كان أهم ما في "صمت الحملان" الجزء السابق من الحكاية نفسها التي أخرجها جوناثان ديمي اداء جودي فوستر في دور كلاريس سترلنغ استبدلت بها جوليانا مور في "هانيبال". شكسبير ولكن هل كان مطلوباً، أصلاً، من "المصارع" أن يكون فيلم أداء؟ ليس تماماً، فالفيلم فيلم مناخ وموضوع. وأكثر من هذا: فيلم عودة الى نوع بدا لزمن انه انتهى. ويقيناً أن فوزه المخمّس في "الأوسكار" يعزز عودته الى الحياة. يتحدث "المصارع" عن الجنرال الروماني ماكسيموس يؤدي الدور راسل كراو الآتي من الغابات الجرمانية القاسية مكللاً بغار انتصاراته. وهو حين عودته يتوخى أن يرتاح أخيراً من عبء السياسة والحرب، ويقرر ان يتقاعد من العمل العام. ولكن في الوقت نفسه تحل نهاية الامبراطور العجوز ماركوس اوريليوس الذي أراد، قبل موته، أن يجعل من ماكسيموس خليفة له، لأنه البطل الشعبي المظفر، والرجل الحكيم الذي يمكن تأمين مستقبل الامبراطورية على يديه. ولكن دون وصول ماكسيموس الى العرش، تقف عقبة كأداء تتمثل في الوارث الشرعي لعرش ماركوس اوريليوس، الطموح كوموندوس ويقوم بالدور واكيم فينيكس. فهذا الشاب المقاتل والعنيد يريد العرش لنفسه، لذلك يستشيط غضباً ما إن يعلم بقرار ماركوس اوريليوس وبعودة ماكسيموس لتسلم الحكم، ويحاول ابعاد هذا الأخير عن العرش بالقوة، ويرسل اليه من يحاولون اغتياله. لكن ماكسيموس ينجو من الاغتيال ويصاب بجرح فيقع أسيراً بين أيدي تجار الرقيق. وهؤلاء يبيعونه الى بروكسيمو وقام بالدور أوليفر ريد، فكان آخر ما مثله قبل رحيله، ولدى بروكسيمو هذا يتدرب ماكسيموس على المصارعة حتى يصبح مصارعاً من طراز رفيع... ويخوض مباريات كثيرة وعنيفة، وقد غابت هويته عن رجال السلطة. وهو بفضل تلك المعارك يستعيد شعبيته من جديد، حتى لحظة يصبح خطراً حقيقياً، مرة أخرى، على الامبراطور الجديد... ويدور الصراع أكثر عنفاً هذه المرة. هذا الموضوع الشكسبيري عالجه ردلي سكوت، بأسلوب غلبت عليه التقنية وحرص على أن يرسم فيه أجواء عابقة بالدلالات، ما جعله يبتعد الى حد كبير من الحقائق التاريخية، مستخدماً فقط الخلفيات التاريخية مناخاً لرسم اخلاقيات قال هو إنها معاصرة جداً، وطرح تساؤلات عن البطولة والسلطة وما هو ذاتي وموضوعي في هذه السلطة. ومن الطبيعي القول هنا إن هذه "الأبعاد الفكرية" لم تكن هي في خلفية النجاح، الجماهيري والجوائزي، الذي حققه "المصارع"، بل كان في خلفية ذلك النجاح، البعد الهوليوودي والانتاجي الضخم. وأيضاً ربما، كما رأى البعض، كان فيه الرغبة في تكريم "سبارتاكوس" ستانلي كوبريك، ولو بعد أربعين سنة... ولو، أيضاً، بعد عامين من رحيل مخرجه. وفي هذا المعنى لم يخطئ كثيراً ذلك التعليق الذي قال إن "المصارع" انما فاز بدلاً من ضائع.